< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ سامر عبید

بحث الأصول

40/07/11

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: التعارض/ أسباب نشوء التعارض / السبب الثالث التدرج البياني للأحكام

السبب الثالث : التدرج البياني للأحكام :

من أهمّ عوامل نشوء التعارض بين الروايات على وجه الخصوص أسلوب التدرج الذي كان يسلكه الأئمة (ع) في مجال بيان الأحكام الشرعية وتبليغها إلى الناس ، حيث لم يكونوا يفصحون عن الحكم وتفاصيله وكلّ أبعاده دفعةً واحدةً وفي مجلسٍ واحدٍ في أكثر الأحيان ، بل كانوا (ع) يؤجلون بيان التحديدات والتفاصيل إلى أن تحين فرصة أخرى ، أو يتصدّى الراوي بنفسه للسؤال عنها من جديد .

وهذه ظاهرة واضحة في حياة أئمتنا (ع) في مجال تثقيفهم لأصحابهم وللرواة منهم على وجه الخصوص ، ويمكن أن يؤمن بها كلّ من تتبع الأحاديث الصادرة عنهم ودرسها بشكلٍ جيد ، بل ربّما يظهر ذلك في الحديث الواحد حيث يبيّن الإمام (ع) الحكم الشرعي أولاً على سبيل الإيجاز ويسكت عن التفاصيل لولا إلحاح السائل بعد ذلك وتصدّيه بنفسه لفهم حدود الحكم ودقائقه ، وإليك نموذج على ذلك ما رواه عيص بن القاسم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام (في حديث:) كره النقاب يعنى للمرأة المحرمة وقال: تسدل الثوب على وجهها، قلت: حدّ ذلك إلى أين؟ قال: إلى طرف الأنف قدر ما تبصر[1] .

فإنّ جواب الإمام (ع) بجواز إسدال المرأة الثوب على وجهها من دون تقييد ذلك بطرف الأنف ظاهر في جواز إسدالها على كامل وجهها ، ولكن تصدي السائل ثانياً للسؤال عن حدّ ذلك الحكم أوجب أن يبيّن الإمام (ع) ما يكون منافياً مع الجواب الأول ومقيداً له .

وطبعاً هناك عند الأئمة (ع) أسبابهم الخاصّة التي كانت تدعوهم للتدرج في البيان ، ولعلّ من أهمّها مراعاة حال المتشرعة التي لم تكن تسمح لهم باستيعاب التفاصيل كلّها دفعةً واحدة في ظلّ تلك الظروف السياسية ومع تلك الإمكانات المحدودة المستعصي معها عملية التعليم والتعلّم من جهة ، وتطبيقاً لفكرة التدرج الطبيعي في مجال التربية والتثقيف على الأحكام الشرعية تلك الفكرة التي طبقها النبي (ص) أيضاً في بدء الدعوة إلى الإسلام من جهةٍ أخرى ، فكان من نتائج هذا الأسلوب أن اعتمد الأئمة (ع) في مقام تبليغ التفاصيل - العائدة إلى الأحكام الكلية التي بينّوها لشيعتهم في مرحلةٍ مسبقة – على القرائن المنفصلة والبيانات المتأخرة بعضها عن بعض ، فشاع لأجل ذلك التعارض والتنافي بين النصوص والأحاديث الصادرة عنهم بنحو التخصيص أو التقييد أو القرينة ، كما نجده في كتب الحديث التي بين أيدينا اليوم .

وهذا السبب وإن ذكره المحققان الصدر (قدّه) و السبحاني (دام ظلّه) إلاّ أنّ للكلام فيه مجالاً واسعاً ، وذلك لما يلي :

أولاً : أنّه لم يثبت كون النبي (ص) قد تدرّج في بيلن الأحكام ، بحيث يظهر في زمان حكماً معيناً ثمّ بعده يبيّن تفاصيله وظروفه ونحو ذلك ؛ لأنّ القضية لم تحسم عند علماء الإسلام ، بل بعضهم أنكرها بقولٍ جازم ، فكيف يمكن الاتكال في سببية التعارض إلى أمرٍ لم نعلم وجوده ، بل يعتبر من المظنون أو المحتمل .

ثانياً : على فرض ثبوتها في سيرة النبي (ص) فلم يثبت اتباع الأئمة (ع) هذا الأسلوب في بيان الحكم الشرعي ، ومجرد وجود رواية أو روايتيتن تلمح كون الإمام (ع) لم يبيّن تفاصيل الحكم لولا سؤال السائل لا يعني سيرتهم على ذلك ؛ لاحتمال أنّ الإمام (ع) كان بصدد بيان باقي تفاصيل الحكم إلاّ أنّ السائل عاجله بالسؤال فوقع ما كان يرد بيانه قبل سؤاله بعده .

ثالثاً : لو كان الظرف لا يسمح ببيان بعض تفاصيل الحكم فلا ينبغي بيانها بسؤال السائل عنها ، بل كان الأفضل رعايةً للتسلسل في بيان الأحكام أن يأمره الإمام بالسكوت عمّا سكت هو عنه ، وليفهم كلّ حدود الحكم بالطريقة العرفية أو الاجتهادية ؛ إذ سؤال الراوي عن الحدّ لا يغيّر الظرف الذي منع الإمام (ع) من بيانه له .

رابعاً : أنّ هناك فرقٌ كبير بين زمان النبي (ص) – إن سلّمنا اتباعه لثقافة التدرج في بيان الأحكام – وبين زمان الأئمة (ع) ؛ ذلك لأنّ عدم بيان النبي (ص) للحكم أو لبعض تفاصيله يكشف عن عدم ثبوته في حقّ المسلمين ، فهو غير مطلوب منهم ؛ لأنّ بيانه يعني تشريعه وجعله فلا يكون ذلك موجباً لتفويت مصلحة عليهم أو إلقائهم في مفسدة ، وهذا بخلاف الأئمة (ع) لأنهم غير مشرعين – على ما هو الصحيح عندنا – فيكون عدم بيان التفاصيل موجباً لتفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo