< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/30

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: حُجِّيَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الخامس: أن احتمال وجود نكتةٍ مشتركةٍ قادرةٍ (عَلَىٰ فرض تماميتها) عَلَىٰ تفسير مجموع الصُّدَف يقلل من استبعاد اجتماع تلك الصُّدَف وغرابته، فَمَثَلاً اِحْتِمَال اقتران موت زيد بموت عمرو وبموت بكر وخالد وغيرهم فِي وقت واحد احتمال بعيد وضعيف؛ لأَنَّهُ يعني اجتماع صدف عديدة لا يوجد لها تفسير واحد لعدم وجود نكتة مشتركة قادرة عَلَىٰ ذلك، لكن هذا الاِحْتِمَال نفسه يقلّ ضعفه وبُعده إذا عرفنا مثلاً أنهم كانوا فِي سيارة واحدة وأنه من المحتمل موتهم جميعاً فِي وقت واحد بحادث اصطدام.
 وهذا يفسّر لنا فَارِقاً آخر بين باب الْحِسّ وباب الحدس؛ ففي باب الْحِسّ قَلَّمَا يتفق فرض نكتة مشتركة يُحتمل كونها هي السَّبَب فِي خطأ جميع الْمُخْبِرِينَ، كما إذا احتملنا أن هؤلاء الَّذِينَ أخبرونا برؤية زيد فِي مجل خَاصّ قد أَخْطَئُوا جَمِيعاً بنكتة واحدة مشتركة وهي أن عمرواً تَشَبَّه بزيد وارتدى زيّه ولبس ثباته وحضر ذاك المجلس، أو أن أخاً لزيد يشبهه تماماً قد حضر ذاك المجلس، أو ما شابه ذلك من النكات؛ فَإِنَّهُ غالباً لا توجد نكتة عَامَّة من هذا القبيل توجب خطأ الجميع فِي الْحِسّ، وحينما توجد مثل هذه النكتة فَسَوْفَ يخفّ ويقلّ ضعف احتمال خطئهم جَمِيعاً، بينما فِي باب الحدس والاجتهاد يكثر وجود نكتة عامةً توجب الجميع، وهي عبارة عن نقطة سير الفكر البشري فِي خط الاجتهاد والحدس، أو مستوى قُوَّة الْمُجْمِعِينَ الفكرية، أو ظروفهم الْمُشْتَرَكة ومعلوماتهم الْعَامَّة الَّتِي كانوا يعيشونها جمعيا ونحو ذلك.
 فلو أجمع العلماء الأقدمون مثلاً عَلَىٰ حكمٍ يخالف مُقْتَضَىٰ قاعدة >الترتب< (كبطلان الصَّلاَة المزاحمة لتطهير المسجد)، فإجماعهم لا يَدُلّ عَلَىٰ ثبوت ذاك الحكم تَعَبُّداً؛ وذلك لعدم استبعاد غفلتهم جميعاً عن قاعدة >الترتب< حسب نقطة السير فِي التفكير الَّتِي وصلوا إليها فِي ذاك الزمان، باعتبار أن >الترتب< إِنَّمَا التفت إليه العلماء بحسب سير التأريخ بعد الالتفات إلى باب >التزاحم< والفرق بينه وبين باب >التعارض<، مِمَّا دعى العلماء إلى التفكير فِي الوظيفة لدى التزاحم وحلّ مشكلاته، فاتّجهت أنظارهم إلى الترتب، كما أن الالتفات إلى التزاحم أَيْضاً كان وليد التفريعات فِي الفقه والتوسع فيها مِمَّا أدّى إلى الالتفات إلى موارد التزاحم بين الأحكام والفروع.
 ولعلّ أول كتاب كُتب فِي التفريعات هو كتاب >المبسوط< للشيخ الطوسي & الَّذِي ذكر فِي أوله: >أن الْعَامَّة كانوا يعيبون عَلَىٰ الشيعة بعدم كتاب لهم فِي التفريعات<.
 إذن، فلا تُستبعد غفلة العلماء جَمِيعاً (قبل تأريخ >كتاب المبسوط<) عن نكتة الترتب الَّتِي وصل إليها سير خط التفكير الاجتهادي والفقهي بعد حين.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ الأخطاء المحتملة فِي باب التَّوَاتُر والشهادات الحسية لا نحتمل (فِي أغلب الأحيان) أَنْ تَكُونَ بنكتة واحدة، بل عَلَىٰ فرض وجودها فكلّ خطأٍ يكون بنكتة تخص ظروف نفس ذاك المُخطئ، بينما فِي باب الإجماع والشهادات الحدسية الاجتهادية يوجد اِحْتِمَال أَنْ تَكُونَ النكتة فِي جمع الأخطاء (عَلَىٰ فرض ثبوتها) واحدة ومشتركة كالغلة عن تصحيح الصَّلاَة بالترتب بدلا عن الإجماع عَلَىٰ بطلانها لمزاحمتها مع إزالة النجاسة عن المسجد، فهذه الغفلة بنكتة واحدة وهي مستوى العلم فِي ذاك الزمان حيث لم يكن وضع العلم يسمح بالالتفات إلى مثل مسألة الترتب.
 ونحن نرى وجداناً أَنَّهُ كلما يكون احتمال النكتة المشتركة فِي الأخطاء (عَلَىٰ فرض ثبوتها) موجوداً كما فِي باب الإجماع يكون اِحْتِمَال خطأ الجميع أكبر وأقوى مِمَّا إذا لم يكن اِحْتِمَال النكتة المشتركة موجوداً كما فِي باب التَّوَاتُر، فهذا أَيْضاً مِمَّا يوجب كون تضاءل اِحْتِمَال خطأ الجميع وعدم إصابتهم الواقع فِي باب الإجماع أبطأ منه فِي باب التَّوَاتُر، نَظَراً إلى كون قيمة اِحْتِمَال خطأ الجميع أقوى لوجود نكتةٍ واحدة قادرة فِي فرض ثبوتها عَلَىٰ تفسير كُلّ تلك الأخطاء وتعليلها.
 هذه أمور خمسة تسجّل نقاط ضعف >الإجماع< فِي قبال >التَّوَاتُر< وتوجب بُطء حصول الضعف فِي احتمال خطأ الجميع فِي باب الإجماع، وَبِالتَّالِي بُطء حصول اليقين منه بصحة المجمع عليه بحسب حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ.
 وهناك أمر سادس أَيْضاً سنذكره قَرِيباً لا يقلّ أهمّيّة (فِي مقام تقييم الإجماع) عن الأمور الخمسة المذكورة، ولكن قبل التعرض له ينبغي التَّنْبِيه عَلَىٰ مطلب وهو:
 أَنَّهُ قد يتوهّم أن الأمر الأَوَّل من هذه الأمور الخمسة (وهو ضعف اِحْتِمَال الخطأ أساساً فِي الحسّ وقوّة اِحْتِمَال الخطأ فِي الحدس) لاَ بُدَّ من أن يرجع إلى الأمور الأخرى وليس أَمْراً مستقلاً ونكتة برأسها؛ وَذَلِكَ لأَنَّ اِحْتِمَال الخطأ فِي الحدس وإن كان أقوى منه فِي الْحِسّ، إِلاَّ أَن السَّبَب فِي ذلك هو أحد الأمور الأخرى الَّتِي ذكرناها (من قبيل تَعَدّد محاور الخطأ، وتأثّر البعض بالبعض الآخر، وعدم إحراز وجود مقتضٍ للإصابة واحتمال وجود نكتة واحدة عَامَّة ومشتركة للخطأ فِي الجميع) ولولا وجود هذه الأمور أو بعضها لما كان هناك مبرّر لكون اِحْتِمَال الخطأ فِي الحدس أقوى منه فِي الْحِسّ.
 إِلاَّ أَن هذا الْكَلاَم غير صحيح؛ فَإِنَّ الواقع هو أن المقصود بالأمر الأَوَّل الَّذِي ذكرناه هو أن >الحدس< و>الْحِسّ< هما منظاران يُنظران بهما إلى الواقع، والمنظار الثَّانِي أصفى من المنظار الأَوَّل بكثير، بقطع النَّظَر عن باقي الأمور والنكات الَّتِي ذكرناها.
 فلنفرض مورداً يكون الْمُقْتَضِي لإصابة الواقع فيه محرَزاً غير مشكوك، ويكون الْكَلاَم فيه بشأن رأي شخص واحد لا آراء أشخاص عديدين كي تأتي مسألة تعدّد محاور الخطأ، أو مسألة النكتة الْعَامَّة لِكُلّ الأخطاء، ويكون الْكَلاَم فِي رأي أول شخص، كي لا تأتي مسألة تأثر البعض بالبعض الآخر والاعتماد عَلَىٰ رأي الآخرين؛ فَإِنَّهُ مع ذلك كله ورغم عدم انطباق سائر الأمور والنكات المذكورة عَلَىٰ مثل هذا المورد يكون اِحْتِمَال الخطأ والاشتباه فِي الحدس أقوى منه فِي باب الْحِسّ باعتبار أن منظار الْحِسّ أصفى من منظار الحدس، وأن الغفلة فِي باب الحدس أقرب إلى النفس منها فِي باب الْحِسّ، كما عُلم ذلك بِالتَّجْرُبَةِ.
 السادس: ما لا يقل أهميّةً فِي تقييم الإجماع من الأمور السابقة وحسابه بحاجة إلى مزيد من الفحص والتّتبّع، وهو أن الإجماعات المتأخرة عن الشيخ الطوسي & معتمدة عَلَىٰ الإجماعات السابقة، والإجماعات السابقة عَلَىٰ الشيخ & بحاجة إلى الفحص الكامل عن أوصافها وخصوصياتها، كي نطّلع بقدر الإمكان عَلَىٰ عدد العلماء الموجودين فِي تلك الأزمنة فِي كُلّ عصر، ومقدار طول باعهم وسعة إطّلاعهم ومستوى فهمهم وذكائهم كي نعرف بذلك مدى قيمة اجتماعاتهم.
 هذه هي الأمور الستة وهي النكات المهمة فِي تقييم الإجماع والفوارق الأساسية بينه وبين التَّوَاتُر وعمدة نقاط الضعف الموجودة فِي الإجماع وَالَّتِي يَتَأَثَّر بها حساب الاحتمالات فِي باب الإجماع، وليست هي كُلّ ما فِي الأمر وتمام النكات فِي هذا المضمار، فقد تكتشف من خلال التحقيق والتدقيق نكات أخرى وعوامل قد يَتَأَثَّر بها أَيْضاً حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ فِي باب الإجماع:
 من قبيل نوعية العلماء الْمُجْمِعِينَ من الناحية العلمية ومن الناحية الزمنية من حيث قربهم من عصر النُّصُوص.
 ومن قبيل طبيعة المسألة المتفق عَلَىٰ حكمها وكونها من المسائل المترقب ورود النص بشأنها أو من التفصيلات والتفريعات.
 ومن قبيل درجة ابتلاء النَّاس بتلك المسائل وظروفها الاجتماعية، فقد يتفق أَنَّهَا بنحو يقتضي توفّر الدواعي والظروف لإشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم المجمع عليه ثابتاً فِي الشَّرِيعَة حَقّاً.
 ومن قبيل لحن كلام أولئك الْمُجْمِعِينَ فِي مقام الاِسْتِدْلاِل عَلَىٰ الحكم ومدى احتمال ارتباط فتواهم بدارك نَظَرِيَّة موهونة، إلى غير ذلك من النكات والخصوصيات.
 كما أن هناك نقاطاً وعوامل أخرى جُزْئِيَّة ومتفرّقة غير ما ذكر لا ضابط لها، لكن يمكن الالتفات إليها تفصيلا وإدراكها جزئياً فِي الفقه فِي كُلّ باب بحسبه وإن تعسّر عَلَىٰ الأُصُولِيّ إحصاؤها فِي علم الأُصُول.
 هذه هي روح كاشفية الإجماع الَّتِي هي الروح الْعَامَّة للكاشفية فِي التَّوَاتُر مع أخذ الفوارق والنكات الَّتِي ذكرناها بعين الاعتبار.
 وباكتشاف روح كاشفية الإجماع هذه ومن خلال الالتفات إليها يتبيّن لنا معنى ما يقولون من >الملازمة الاتفاقية< الَّتِي استقر عليها رأي المتأخرين من الأصوليين (عَلَىٰ ما فِي >الكفاية<) بحسب ارتكازهم، حيث ذكر & أَنَّهُ استقرت عَادَةً المتأخرين عَلَىٰ القول بأن الإجماع يكشف عن قول الْمَعْصُوم × بالملازمة الاتفاقية، أَيْ: أَن الإجماع يكشف أحياناً عن رأي الْمَعْصُوم × وأحيانا لا يكشف عنه؛ فَإِنَّ هذا الْكَلاَم مدركه الفنّي هو ما ذكرناه من أن كاشفية الإجماع إِنَّمَا هي بنكتة حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ الَّذِي يَتَأَثَّر بعوامل وضوابط عديدة عَامَّة وخاصة، ولذا تختلف الإجماعات من حيث الكشف المذكور (أي: عن قول الْمَعْصُوم ×) حسب اختلاف مواردها وخصائصها، وَإلاَّ فنحن نواجه هذا السؤال القائل: هل أن كشف الإجماع أحياناً عن قول الْمَعْصُوم × مجرّد صدفة واتفاق؟ وعدم كشف الإجماع عن قول الْمَعْصُوم × أحياناً أيضاً مجرد صدفة واتفاق؟
 فِي الحقيقة أن كشف الإجماع وعدم كشفه إِنَّمَا يتبع المؤثرات الَّتِي تؤثّر فِي حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، وهذه المؤثرات تتشكل فِي ذهن الإنسان بالتفصيل وإن لم يَعِها، فالذي لا يلتفت إلى حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ يتصور أن الملازمة اتفاقية، لكن يعد ضبط موازين هذا الحساب يُعرف حِينَئِذٍ أن للمسألة ضوابط، لا أَنَّهَا مجرد ملازمة اتفاقية.
 كما أَنَّهُ باكتشاف وضبط هذه الضوابط الأساسية لكشف الإجماع عن قول الْمَعْصُوم × يُقضى عَلَىٰ الفوضى الفقهية الواقعة فِي الفقه فِي مقام الاِسْتِدْلاِل بالإجماع؛ إذ قَلَّما تجد فقيهاً يستدل بالإجماع فِي الفقه ولا تجد فوضى فِي استدلاله، حيث يستدل بالإجماع فِي مسألة، ويناقش الاِسْتِدْلاِل بالإجماع فِي مسألة أخرى، لذا فلا يمكن التوصل إلى قواعد ثابتة لموارد حُجِّيَّة الإجماع عنده وموارد عَدَم حُجِّيَّتِهِ، ولا يمكن تحديد وتفسير موقفه من الإجماع فِي مجموع المسائل الفقهية، وليس ذلك إلا لأن هذه الْمُؤَثِّرات غير محدَّدة، ولو أنّها حُدِّدت وضُبِطت لما حصل هذا التشويش.
 هذا كله فيما يتعلق بالروح الْعَامَّة لكاشفية الإجماع، فإذا وُجد مورد يسلم فيه الإجماع من كُلّ نقاط الضعف الَّتِي ذكرناها، فَسَوْفَ يكون موجباً للقطع وكاشفاً عن صِحَّة المجمع عليه وذلك عَلَىٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ (كَمَا عَرَفْتَ).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo