< قائمة الدروس

بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

44/03/05

بسم الله الرحمن الرحیم

 

موضوع: المکاسب المحرمة/ الکهانة/ تعریف الکهانة

 

کلام الشهیديّ التبریزيّ ذیل هذا التعریف (كهن يكهن كهانةً- بالفتح- و حرفته الكهانة- بالكسر...)

قال (رحمة الله): «ظاهر هذا أنّ الأوّل مصدر و الثاني إسمه، فلا يوافق ما في المصباح من كونها بالكسر- مثل الكتابة- كما هو قضيّة كلمة أيضاً، حيث إنّ ظاهره أنّها مصدر، لا إسمه». [1]

إشکال في هذا التعریف [2]

«قد يقال: إنّ الشياطين و مردة الجنّ كانوا يسترقون السمع قبل بعثة النبيّ (ص) فيخبرون أوليائهم من الإنس عن أخبار السماوات و لكن منعوا منه بعد ذلك، فلم يبق لهم غير ما يخبرونه من أخبار الأرض. هذا و لكنّ الظاهر من آيات سورة الحجر إنّهم كانوا ممنوعين منها في كلّ زمان ﴿وَ لَقَدْ جَعَلْنٰا فِي السَّمٰاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنّٰاهٰا لِلنّٰاظِرِينَ﴾[3] ﴿وَ حَفِظْنٰاهٰا مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ﴾[4] ﴿إِلّٰا مَنِ‌ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ مُبِينٌ﴾[5] . [6]

أقول: إنّ المراد من المنع في ما نحن فیه هو المنع التکويني، لا المنع التشریعيّ الذي معناه النهي، بل معناه عدم الاستطاعة للنیل بأخبار السماوات.

و قال الموسويّ القزوینيّ (رحمة الله): «هي على ما يظهر من كلام القاموس بالفتح مصدر و بالكسر إسم قال: «كهن له- كمنع و نصر و كرم- كهانةً- بالفتح- و تكهّن تكهّناً قضى له بالغيب، فهو كاهن، جمع كهنة و كُهّان و حرفته الكهانة- بالكسر». و يقرب منه المحكيّ عن المصباح المنير، إلّا أنّه في كسره قال: «الكهانة- بالكسر- صنعة» و على هذا فالكاهن الذي هو اسم الفاعل من هذه المادّة يحتمل كون مبدئه حالاً أو ملكةً أو حرفةً و صنعةً. و يظهر ثمرة هذه الوجوه فيما لو علّق حكم في النصّ على اسم الفاعل، كما في المحكيّ عن الاحتجاج و نهج البلاغة، من قوله×: «الْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ‌ وَ الْكَاهِنُ‌ كَالسَّاحِرِ وَ السَّاحِرُ كَالْكَافِرِ وَ الْكَافِرُ فِي النَّار ...»[7] فعلى الأوّل يراد بالكاهن الذي حكمه أنّه في النار الآتي بعمل الكهانة. و على الثاني من له ملكة هذا العمل و إن لم يأت به. و على الثالث من حرفته ذلك؛ أي من اتّخذه وسيلةً لكسب المال؛ فعلى الأوّل يحرم عليه أصل العمل، فيجب ترك الإتيان به. و على الثاني يحرم عليه إبقاء ملكته، فيجب إزالتها بإنساء و نحوها. و على الثالث يحرم اتّخاذه وسيلةً لتحصيل المال، فيجب ترك الاتّخاذ.

و من فروع هذه الوجوه أنّ الرواية إن صحّ الاعتماد عليها في إثبات حكم شرعيّ لا يثبت بها على أوّل الاحتمالات حرمة تعلّم الكهانة و لا حرمة التكسّب بها. و على ثانيها يثبت حرمة تعلّمها أيضاً دون حرمة التكسّب بها. و على ثالثها يثبت حرمة التكسّب، دون التعلّم.

و کیف کان، فمعنى الكهانة على ما نصّ عليه في القاموس «القضاء بالغيب» و حاصله الإخبار بالمغيّبات. و يوافقه المحكيّ عن النهاية الأثيريّة من «أنّها تعاطي الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان» و هذا باعتبار قيد «مستقبل الزمان» أخصّ ممّا ذكره في القاموس». [8]

أقول: الظاهر أنّ لهذه اللفظة استعمالات و فیها قیود. و التحریم للموارد المتيقّنة و الموارد المشکوکة داخلة في قوله (ع): «كُلُّ شَيْ‌ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ». و القیود المأخوذة في الاستعمالات منها: القضاء بالغیب و منها: أنّها صنعة، فلا بدّ من کونها ملکةً له و وسیلةً لکسب المال، فیخرج عنها ما کان تفریحاً أو مثله. و منها: أنّ الحکم فیها قطعيّ لا احتمالي؛ لأنّه نسب ذلك إلی الغیب[9] ، فمع هذه القیود تحرم و إلّا فلا، هذا من حیث اللغة. و أمّا الاصطلاح فسیأتي البحث عنها.

قال الشهید محمّد الصدر (رحمة الله): «يبدو من مراجعة التوراة المتداولة أنّ موسى(ع) هو أوّل من أسّس الكهانة. و لم تكن يومئذٍ شيئاً غير صالح، بل كانت تشبه معنى «رجل الدين» أو «سادن»[10] المسجد أو الحرم. و ذلك أنّه بعد العبور و الذهاب إلى فلسطين أرض كنعان، جعل النبيّ موسى (ع) لهم هناك خيمةً كبيرةً للتعبّد العامّ أو ما يوازي المسجد في المفهوم الإسلامي. و سمّاها حسب قول التوراة خيمة الاجتماع.

و الظاهر أنّها هي التي ورد اسمها في دعاء السمات قبّة الزمان. و كانت هذه الخيمة تحتاج إلى عناية لا يتوفّر للنبيّ موسى(ع) القيام بها. فأوكلها إلى أخيه هارون(ع). فأصبح منذ ذلك الحين سادناً لخيمة الاجتماع. و حسب المعروف في التاريخ أنّها ثاني بيت بني للعبادة بعد تجديد الكعبة المشرّفة من قبل إبراهيم الخليل(ع). و منذ ذلك الحين سمّي سادن خيمة الاجتماع كاهناً». [11]

قال بعض العلماء (رحمة الله): «التحقيق: أنّ هذه اللغة[12] مأخوذة من العبريّة و السريانيّة و الآراميّة[13] و كان هذا المعنى متداولاً فيما بينهم من زمان موسی (ع) فإنّ هارون أخاه كان نبيّاً و له نفس زاكية قدسيّة إلهيّة، يتكلّم و يعمل بقوّة روحانيّة لاهوتيّة و كان في الشريعة تابعاً لأخيه و يعينه و يشدّ عضده. فهو بسبب هذه المرتبة الروحانيّة كان حائزاً قهراً مقام الكهانة. و يراد به المقام الروحانيّ المرتبط بالغيب، المتجليّة عنه أشعّة هذه النورانيّة. و لمّا كان تحت ظلّ نور النبوّة و الرسالة من موسى(ع): قيل: إنّه كاهن و لم يشتهر بالنبوّة، ثمّ بقي هذا العنوان الكلّيّ المطلق في نسله. و صار هذا العنوان أمراً عرفيّاً و منصباً رسميّاً بين الناس، يتداول بين أهل القرون و بنى إسرائيل و تحوّل عمّا كان أوّلاً يدعيّه كلّ مدّع بتأييد الحكومات ‌الجائرة.

و الكاهن من يدّعي ارتباطاً بالغيب بأيّ وسيلة و مقدّمة، حقّاً أو باطلاً من توارث أو رياضة أو نصب رسميّ من جانب الحكّام أو غيره. فالكاهن إنّما يعمل في محدودة نفسه و يتكلّم في حدود قواه الذاتيّة و الاكتسابيّة. و هذا بخلاف القرآن المجيد النازل بلفظه و معناه من اللَّه عزّوجل». [14]

و قال النجفيّ التبریزي (رحمة الله): «لا يخفى عليك أنّه لم أر في اللغات من فسّره من جهة أصل اللغة العربيّة الخالصة؛ أي صوتها اللغويّة الأصليّة. قال في المقاييس: «الكهانة؛ أي الكاف و الهاء و النون كلمة واحدة، يقال: كهن و تكهّن و اللّه أعلم»[15] ، حيث لم يتعرّض لأصل المعنى العربيّ و سائر اللغات أخذت معناها من الكهانة؛ أي حرفة و صنعة الكاهن الذي يقضي لفلان بالغيب أو يحدّثه به أو يخبر بالماضيّ أو المستقبل بقذف في قلبه أو بواسطة جنّيّ أو شيطان.

و التحقيق أنّ الكلام في الموضوع مستنده ما في لسان الأخبار، كما في بيان الصادق(ع) في رواية الاحتجاج، حيث يقول: «كَانَ الْكَاهِنُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ يَحْتَكِمُونَ إِلَيْهِ فِيمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمُورِ بَيْنَهُمْ فَيُخْبِرُهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ تَحْدُثُ وَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى فِرَاسَةِ الْعَيْنِ وَ ذَكَاءِ الْقَلْبِ وَ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ وَ فِتْنَةِ الرُّوحِ مَعَ قَذْفٍ فِي قَلْبِه‌ إلخ».[16] و كذا غيرها. و المتحصّل أنّ الكهانة عمل يحصل من إطاعة الجنّ و الشيطان و ذلك بالتسخير و نحوه من الأوراد». [17]

أقول: نعم ما قال و ما جاءت في کلمات الفقهاء نقلاً من أهل اللغة لیست معنی لغویّاً، بل تکون اصطلاحیّاً.

الکهانة اصطلاحاً

أقول: الظاهر أنّ الکهانة في الاصطلاح مأخوذة من اللغة و لیست غیره و لا بدّ من الدقّة في الروایات حتّی یعلم ما یحرم منها، فإنّ المنهيّ عنها هي الکهانة التي في اللغة مع قیودها و البحث فیها قد یکون من حیث فعل الکاهن و قد یکون من حیث فعل الشخص الذي یرجع إلی الکاهن و قد یکون من حیث ترتیب الأثر علی قوله. و قد یکون من حیث ترتیب الأثر علی قوله فیما لا یخالف الشرع أو فیما خالف الشرع؛ مثل قوله بأنّ الولد لیس لهذا الرجل مع حکم الشارع بأنّ الولد للفراش. و هکذا أو ورود بعض الاتّهامات علی بعض بمجرّد الکهانة. و لا یخفی أنّ المستفاد من قولهم «القضاء بالغیب» أنّ إخبارهم من طریق غیر عادي، مثل الارتباط بالجنّ و أمثاله و لو ادّعاءً لا بالتجربة و الفهم العقلائي. و لا بدّ من البحث فیها مع الاستنباط من الآیات و الروایات.

 


[2] .المغرب في ترتيب المعرب، المطرزي، ج1، ص419. إنّ الكهانة کانت في العرب قبل المبعث، يروى أنّ الشياطين كانت تسترق السمع، فتلقيه إلى الكهنة، فتزيد فيه ما تريد و تقبله‌ الكفّار منهم، فلمّا بعث (ص) و حرست السماء، بطلت‌ الكهانة .
[9] . و لا یخفی أنّه یستفاد من قولهم «القضاء بالغیب» أنّ إخبارهم ادّعاء أنّه من طریق غیر عادي، مثل الارتباط بالجنّ و أمثاله، لا إخبارهم بذلك بالتجربة و الفهم العقلائي.
[10] أي: خادم.
[11] . ما وراء الفقه، الصدر، السید محمد، ج3، ص77.
[12] الکهانة.
[13] فرقة من عنصر سامي من أولاد آدم (ع) خامس أولاد سام، ساکنون بالسوریة و بین النهرین.
[15] .معجم مقائيس اللغة‌، ابن فارس، ج5، ص145. و جاء فیه: «كهن، ‌ الكاف و الهاء و النون كلمة واحدة. و هي‌ الكاهن‌ و قد تكهَّنَ‌ يَتَكهَّن‌. و اللَّه أعلم».
[16] .الإحتجاج، الطبرسي، أبو منصور، ج2، ص339. و جاء فیه: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ [إماميّ ثقة] عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع). (هذه الروایة مرفوعة و ضعیفة).
[17] . تحلیل الکلام فی فقه الاسلام، التبریزی، الشیخ راضی، ج1، ص192.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo