بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

الموضوع: الوقایة من الجرم/ المقدّمة/ أهمّیّة الوقایة من الجرم في القرآن

کان الکلام في علم الفقه حول الوقایة من الجرم في القرآن الکریم

الاستدلال بالآیة: نقض العهد و قطع الروابط معدّان للجرم و الفساد في الاجتماع

﴿ الَّذِينَ ينْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَ يقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يوصَلَ وَ يفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.[1]

تبیّن هذه الآية مسألتين معدّین للجرم و الفساد في الاجتماع.

نقض العهد

الذین یعاهدون عهداً إذا أوفوا بعهودهم، فلن یوجد فساد. یرتبط کثیر من الملفّات المشکّلة[2] في القوّة القضائیّة بالمعاهدات؛ مثلاً: يعطي صَکّاً[3] أو کِمبیالةً[4] ثمّ يخالفهما؛ أحياناً يكون التخلّف في العقد بأكمله و أحياناً في جزء من العقد. يؤكّد الله في القرآن على الوفاء بالعهد ﴿وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ﴾[5] ، إنّ الله یوفي بعهده فأوف بعهدك. يكون العهد أحياناً بين الناس ﴿وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾[6] و أحياناً يكون بينهم و بین الله ﴿الَّذِينَ ينْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾. لقد أعطانا الله العقل و الفطرة حتّى لا نخالف العهد.

بعد تحقّق العهد، لا یجوز نقضه؛ إذ ورد في روایة أنّه «لا دین لمن لا عهد له» [7] . كلّ هذه التأکیدات في آيات القرآن و الروايات على الوفاء بالعهد يرجع إلى أنّ عدم الوفاء بالعهد يسبّب الفساد ﴿يفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾[8] .

الوفاء بالعهد واجب حتّى بالنسبة إلی الكفّار. يلعن الله الذين ينقضون العهد ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾[9] .

قطع الروابط

﴿وَ يقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يوصَلَ﴾ یقطع صلته بوالديه و أخیه و أقاربه و أساتذته و العلماء و الأکابر. ورد في روایة أنّ المراد من الذین وجب أن یوصل بهم هم القادة السماویّة[10] و العلماء و الجیران و الأساتذة. قد ورد في روايات کثیرة أنّه إذا انقطع الارتباط مع العلماء فسد الاجتماع.

الذين ینقضون عهدهم لا يثق بهم الاجتماع و الذين يقطعون الروابط مع الرحم و الأساتذة و الأکابر و الوالدین و الأقارب يخسرون أنفسهم ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

الاستدلال بآیة أخری: أن تصبح خليفة الله يعني المبارزة مع الفساد و سفك الدماء في الاجتماع

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفْسِدُ فِيهَا وَ يسْفِكُ الدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[11] .

خلق الله خليفته على الأرض. الإنسان الذي خلقه الله في ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[12] و قال لهذه الخلقة: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[13] . الإنسان أفضل مخلوق على وجه الأرض و له شرف عظيم؛ إذ ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾[14] إنّ الله نفخ في الإنسان من روحه؛ لكن ليس كلّ البشر خلفاء الله؛ بل بعضهم یکون ﴿كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾[15] . لكي يصبح المرء خليفة الله، يجب أن يبارز مع الفساد. قالت الملائكة إنّ بعض الناس یفسدون في الأرض و یسفکون الدماء ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفْسِدُ فِيهَا وَ يسْفِكُ الدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ﴾ قال الله في جوابهم ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾. من بین الأناسيّ أنبياء وصلوا إلى مرحلة ﴿قَابَ قَوْسَينِ﴾[16] .

تدلّ هذه الآية أیضاً على أنّ الفساد و سفك الدماء من أعظم المعاصي على الأرض و وجب أن لا نسمح[17] بتحقّقها في الاجتماع. إذا أردنا أن نكون خليفة الله و إذا أرادت الحكومة الإسلاميّة أن تكون خليفة الله على الأرض، فيجب أن تكون لدينا تخطیط[18] و نعمل عملاً حتّى لا يكون هناك معدّ للفساد و سفك الدماء في الاجتماع.

الاستدلال بالآیة: الأولویّة الأولی في إصلاح الاقتصاد و المعاش ثمّ المعاد

﴿كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.[19]

کلوا و اشربوا؛ لکن لا تفسدوا. «مَنْ لا مَعاشَ لَهُ لا مَعادَ لَهُ» أشیر في کثیر من آيات القرآن الكريم أنّ الأوّل هو الاقتصاد ثمّ المعاد؛ يجب أوّلاً إصلاح مسألة اقتصاد الناس و معاشهم ثمّ یهتمّ بالقيامة. ﴿كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ إذا أکلت و صار بطنك ممتلئاً، يطلب منك الله ألّا تفسد.

الاستدلال بالآیة: أعبدوا الله بعد تأمین المعاش

﴿وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾،[20] إذا دخلتم البیت المقدس فکلوا أوّلاً و أمّنوا معاشکم ثم اذهبوا إلی المسجد و اسجدوا. العبادة بعد تأمین المعاش. کان هذا هو السبب في أن یسمّي القائد المعظّم (حفظه‌الله) کلّ سنة بإسم و یبیّن إسماً اقتصادیّاً. إنّ أحد الأشياء التي تسبّب الفساد هو الاقتصاد غیر الصحّي[21] . إذا كان معاش الناس مناسباً فسیقلّ ‌الفساد في الاجتماع. في البداية يصعب على الإنسان أن يرتكب فساداً؛ لكن بعد فترة تعلّم فیها طریقه، يصبح سهلاً عليه.

الاستدلال بالآیة: عدم الاقتراب من الفساد و الجرم

﴿وَ لَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ﴾.[22]

لا ترتکب الفحشاء فحسب بل لا تقرب منه مطلقاً سواء کان علنیّاً أو مخفیّاً؛ إذ عند ما تقرب من الخطیئة، یمکن أن ترد فیها «فَمَنْ يَرْتَعْ حَوْلَهَا يُوشِكْ أَنْ يَدْخُلَهَا»[23] ، حینما تدخل مجلس المعصیة و مُهّدت خلفیّتها[24] ، تدخل حینئذٍ في المعصیة و لن تقدر أن تسدّ أمامك.

﴿لَا تَقْرَبُوا﴾ أي أبیدوا معدّ المعصیة ﴿و لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً﴾[25] إن دخلت بیتاً فیه أجنبیّة وحدها، فلا تبق هاهنا؛ إذ المعصیة محتملة حینئذٍ. البحث حول السُفور [26] بهذا المقدار هو لأجل أنّه یمهّد للمعصیة. ﴿وَ لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيتِيمِ﴾[27] لا تقرب من مال الیتیم! تتفکّر ابتداءاً أنّك ترید خدمة الیتیم، لکن إذا جُعلت النقود تحت اختياره یمکن أن توجد له المشکلة. قال في نفسه: «شأني هو أن تکون لي سیّارة جیّدة و منزل واسع، ولدی أیضاً محتاج و سأشتري له بیتاً و ...» هکذا یوجد الفساد شیئاً فشیئاً.

إن یقرب الإنسان من مال الغیر و جُعل المال تحت اختياره، كان أمراً علی جانب من الخُطُورة[28] ، هناك قلیل من الناس الذين يستطيعون المقاومة. لم يكن الراحل آية الله التبريزيّ يبقي الخُمس و نحوه عند ما وصلت إليه و يستهلكها[29] في الخُمس و نحوها و کان يقول: ربما لن أكون حیّاً حتّى الشهر المقبل، لكن كان هناك من يحتفظ ببعض النقود الشرعيّة لئلّا يواجه الطلاب أيّ مشاكل للشهر المقبل. يعتقد القائد المعظّم (حفظه‌الله) أيضاً أنّه يجب القیام بأمر الطلّاب؛ لذلك لا يسمح[30] بإنفاق الخمس على بناء المساجد و الحسینیّة.

یستفاد من هذه الآيات أنّه تجب المبارزة مع الفساد و أنّه لا یجوز السماح بتحقّق الفساد ﴿لَا تَقْرَبُوا﴾[31] . من الوظائف الرئيسيّة للحكومة الجمهوريّة الإسلاميّة و الدول المبارزة مع الفساد. و یجب الالتفات إلى أنّ المحاربة مع الفساد ليست فقط معاقبة المجرمين، بل الأهمّ أن نبید معدّ الفساد في الاجتماع و يجب على الحكومات القیام بأمر اقتصاد الناس و معيشتهم و أن یزیلوا الحرمان من الاجتماع و أن یخلقوا ترفيهات صحّیّةً[32] و أن یمهّدوا وسائل زواج الشبّان، لکي یباد معدّ الفساد من الاجتماع.