< قائمة الدروس

بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

42/10/20

بسم الله الرحمن الرحیم

 

موضوع: المکاسب المحرمة/ الکذب/ التقیّة

و منها: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ[1] عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ[2] عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ[3] قَالَ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع): إِنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ أَنَّ عَلِيّاً(ع) قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي، فَسُبُّونِي ثُمَّ تُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي، فَلَا تَبَرَّءُوا مِنِّي، فَقَالَ (ع): «مَا أَكْثَرَ مَا يَكْذِبُ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ (ع)» ثُمَّ قَالَ (ع): إِنَّمَا قَالَ (ع): «إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي، فَسُبُّونِي ثُمَّ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي وَ إِنِّي لَعَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ (ص) وَ لَمْ يَقُلْ: لَا تَبَرَّءُوا مِنِّي، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَ رَأَيْتَ إِنِ اخْتَارَ الْقَتْلَ دُونَ الْبَرَاءَةِ، فَقَالَ (ع): «وَ اللَّهِ مَا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَ مَا لَهُ‌ إِلَّا مَا مَضَى‌ عَلَيْهِ‌ عَمَّارُ بْنُ‌ يَاسِرٍ حَيْثُ أَكْرَهَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ،‌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ (عزوجل) فِيهِ: ﴿اِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ﴾ [4] فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (ص): عِنْدَهَا يَا عَمَّارُ إِنْ عَادُوا، فَعُدْ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ (عزوجل) عُذْرَكَ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَعُودَ إِنْ عَادُوا». [5]

أقول: الروایة تامّة سنداً و دلالةً و تکفي للجمع بین الأدلّة، مع معاضدتها لحکم العقل و بناء العقلاء في أمثال ذلك. و لا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهمّ في کلّ الموارد.

قال بعض الفقهاء (حفظه الله): «ظاهر هذه الرواية في بدء النظر وجوب التقيّة هنا أيضاً و لكن بعد التأمّل يظهر أنّها ناظرة إلى نفي الحرمة فقط- لا سيّما بالنسبة إلى البراءة عن عليّ (ع) و الأئمّة من ولده (علیهم السلام) التي رووا حرمتها و إن جاز السب، هذا مضافاً إلى أنّ قوله (ع): «و اللّه ما ذلك عليه» و نقله حديث عمّار دليل على أنّه بصدد نفي الحرمة لا إثبات وجوب التقيّة هناك و لذا كان فعل أبوي عمّار أيضاً جائزاً كما يظهر من قصّتهم». [6]

أقول: ظاهر الروایة وجوب التقیّة؛ لأنّه قال (ع) « إِنْ عَادُوا، فَعُدْ ... وَ أَمَرَكَ أَنْ تَعُودَ إِنْ عَادُوا » و السند صحیح و الدلالة تامّة.

و منها: [7] أبي بكر الحضرمي[8] عن أبي عبد اللّه (ع) في حديث أَنَّهُ قِيلَ: لَهُ مَدُّ الرِّقَابِ‌ أَحَبُّ‌ إِلَيْكَ‌ أَمِ‌ الْبَرَاءَةُ مِنْ عَلِيٍّ (ع)؟ فَقَالَ: «الرُّخْصَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ (عزوجل) فِي عَمَّارٍ ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمان﴾[9] . [10]

إستدلّ بهذه الروایات بعض الفقهاء. [11]

أقول: السند ضعیف و لا تنافي سائر الأدلّة الدالّة علی وجوب التقیّة.

قال بعض الفقهاء (حفظه الله): «قد يظهر من غير واحد من أحاديث الباب التفصيل بين «السبّ» و البراءة بالجواز في الأوّل و المنع عن الثاني[12] ... و يعارض هذه الروايات ما مرّ في رواية مسعدة بن صدقة و لكنّ الإنصاف أنّه يمكن حمل هذه الروايات على ذاك الزمان العنود و في تلك الآفاق الكاسفة[13] نورها الظاهرة غرورها التي كان من الواجب كفايةً- على الأقلّ- إظهار كلمة الحقّ و الافتداء بالأنفس لئلّا تنمحي آثار ‌النبوّة لاجتماع أعداء أهل البيت (ع) على محو آثار الوصيّ (ع) بل النبيّ (ص) إذا قدروا عليه، فأجيز لهم بارتكاب الدرجات الخفيفة من المنكر تقيّةً- و هي السبّ- و نهوا عن الشديدة و هي البراءة و لو ابتلينا- لا سمح اللّه- بأزمنة في مستقبل الأيّام و ظروف تشبه زمن أمير المؤمنين (ع) و ما أرادوا من محو آثاره (ع) بعد شهادته كان القول بوجوب مدّ الأعناق (بعد ضرب أعناق الأعداء و نشر كلمة الحقّ و إبطال الباطل) قويّاً فتدبّر. فهذا طريق الجمع بين روايات الباب التي تدلّ أكثرها على الجواز و بعضها على الحرمة في خصوص البراءة و لا يمكن تخصيصها في خصوص مورد البراءة؛ لصراحة بعضها في جوازها بالخصوص أو جواز ما لا يتفاوت من البراءة. [14]

أقول: أدلّة وجوب التقیّة أقوی من سائرها سنداً و دلالةً، مع تصریح بعض الروایات بمجعولیّة الروایة الدالّة علی عدم التقیّة؛ فالحقّ هو القول الثاني و وجوب التقیّة للشخص العادي، إلّا إذا کان المتّقيّ علماً للإسلام و تقیّته توجب هدم الدین و تزلزل المسلمین. و لا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهمّ و حفظ المراتب.

و قال (حفظه الله) في موضع آخر: «الإنصاف أنّ أقرب طريق للجمع بينهما هو ما أشرنا إليه من التفصيل بحسب الأزمان و الأشخاص، فالذي هو علم للأمّة و مقياس للدين و به يقتدي الناس و يعرف قربه من أهل البيت (علیهم السلام) يرجّح له استقبال الحتوف[15] و تحمّل المضارّ البالغة حدّ الشهادة في سبيل اللّه، بل قد يجب له إذا كان ترك ذلك ضرراً على الدين و مفسدةً للحقّ و تزلزلاً في أركان الإسلام.

ففي مثل عصر بني أميّة و لا سيّما البرهة المظلمة التي كانت في زمن معاوية بعد شهادة أمير المؤمنين (ع) و ما شاكله الذي أراد المشركون و بقيّة الأحزاب الجاهليّة و أغصان الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، ليطفؤا نور اللّه بأفواههم و يأبى اللّه إلّا أن يتمّ نوره و جهدوا في إخفاء فضل أوصياء رسول اللّه (ص) لينقلب الناس على أعقابهم خاسرين. ففي مثل هذه الأعصار لم يكن بدّاً من رجال يقومون بالحقّ و يتركون التقيّة و يظهرون آيات اللّه و بيّناته.

و لو لا مجاهدة هؤلاء بأموالهم و أنفسهم، أوشك أن لا يبقى من الإسلام إلّا اسمه و لا من القرآن و صاحبه الذي لا يفارقه إلّا رسمه و ذكره؛ فكانوا هم الحلقة الواسطة بين الجيل الماضي و الجيل الآتي من المهاجرين و الأنصار و الذين اتّبعوهم بإحسان. و لو لا جهاد أمثال حجر و ميثم و عمرو بن الحمق و عبد اللّه بن عفيف‌ و عبد اللّه بن يقطر و سعيد بن جبير، لاندرست آثار النبوّة و آثار الأئمّة الطاهرين من أهل بيته (علیهم السلام) لغلبته الباطل على أجواء الحكومة الإسلاميّة و ركوب رقاب الناس بالظلم و العدوان و سيطرته على مراكز الدعوة و الناس على دين ملوكهم.

و لا يختصّ بتلك الأعصار، بل كلّ زمان كان الأمر فيه مثل عصر الأمويّين و أشباههم، كان الحكم فيه هو الحكم فيه من دون أيّ تفاوت. و أمّا في الأعصار المتأخّرة، كعصر الصادقين و الرضا (علیهم السلام) و ما ضاهاه الذي لم يكن الأمر بتلك المثابة، كان الأولى فيه ارتكاب التقيّة، كما يظهر من كثير من أحاديث الباب، إلّا في موارد تستثنى. فإذن لا يبقى تعارض بين الأحاديث المرويّة عن أمير المؤمنين (ع) الإمرة بترك التقيّة في العصر المتّصل بزمانه الذي ظهر على الناس رجل رحب البلعوم، الى أخر ما ذكره من علائمه و آثاره، كان الراجح أو الواجب ترك التقيّة. و إليه يشير ما روي عنه.

أمّا في مثل أعصار الصادقين و الأعصار المتأخّرة عنها، كانت الرخصة أحبّ إليهم؛ لعدم وجود خطر من هذه الناحية على الإسلام و المسلمين. و لكن لا ينافي ذلك عدم جواز ذلك في تلك الأعصار أيضاً على بعض الأشخاص لخصوصيّات فيهم. ‌و أمّا في زماننا هذا يتفاوت الحال بالنسبة إلى الأشخاص و الظروف و الحالات و تجاه ما يحدث من الحوادث، فقد يجب أو يرجّح أن يستنّ بسنّة أصحاب أمير المؤمنين و خواصّ بطانته (ع) و أخرى يجب أو يرجّح الاقتداء بأصحاب الصادقين». [16]

أقول: کلامه (حفظه الله) متین و لکنّ الحقّ وجوب التقیّة أوّلاً و بالذات، إلّا أن یکون هدماً للإسلام و تزلزلاً للمؤمنین، کما سبقت الإشارة إلیه. و لا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهم. و لعلّ مراده (حفظه الله) هو هذا القول و إن قال بالجواز في کلماته؛ فإنّ الجواز یوجب قتل النفوس المحترمة الذین هم حافظ الإسلام و المسلمین في القرون و الأعصار في الأمکنة و الأزمنة المختلفة و إن کان قد یناسب إعطاء الدم لحفظ الإسلام. و تشخیص ذلك للوليّ الفقیه الجامع للشرائط.

 


[1] عليّ بن إبراهیم بن هاشم القمّي: إماميّ ثقة.
[2] هارون بن مسلم بن سعدان: إماميّ ثقة.
[3] مختلف فیه و هو عامّيّ بتري، ثقة ظاهراً.
[5] .الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج2، ص219. (هذه الروایة مسندة، موثّقة ظاهراً).
[7] محمّد بن مسعود العيّاشي: إمامي ثقة.
[8] عبد الله بن محمّد أبو بکر الحضرمي: مختلف فیه و هو إماميّ ثقة علی الأقوی.
[12] التي مضت بعضها.
[13] أي: الذاهبة.
[15] أي: الموت.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo