< قائمة الدروس

بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

42/07/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 

 

موضوع: المکاسب المحرمة/ الکذب/ التقیّة

القسم الخامس[1] : التقیّة المحرّمة

قال الشهید الأوّل (رحمة الله): «الحرام التقيّة حيث يأمن الضرر عاجلاً و آجلاً أو في قتل مسلم. قال أبو جعفر[2] (ع): «إِنَّمَا جُعِلَتِ‌ التَّقِيَّةُ لِيُحْقَنَ‌ بِهَا الدَّمُ‌، فَإِذَا بَلَغَ الدَّم، فَلَيْسَ تَقِيَّةٌ»[3] ». [4] [5]

و قال الشیخ الأنصاريّ (رحمة الله): «المحرّم منه ما كان في الدماء». [6]

قال المحقّق الخوئيّ (رحمة الله): «التقيّة المحرّمة ما إذا كان الشخص بحيث لو عمل على طبقها لم يتوجّه الضرر إلى شخصه و لكن يوجد في التقيّة ضرر عامّ أهمّ يترتّب على ذلك؛ مثل الفساد في الدين و مجتمع المسلمين أو يستمرّ الفساد فيهما بحيث يعلم أنّ الشارع لا يرضى بوجود هذه المفسدة و استمرارها؛ ففي مثل ذلك لا يجوز فعل التقيّة». [7]

أقول: لا فرق بین توجّه الضرر إلی شخصه أو ضرر عامّ أهم؛ مثل: الفساد في الدین؛ لأنّ دفع الضرر عن شخصه واجب أیضاً، فتحرم التقیّة إذا کانت فعلها موجبةً للضرر بالشخص أو ضرر عامّ أهم.

و قال (رحمة الله) في موضع آخر: «قد يتّصف التقيّة بالمعنى الجامع المتقدّم بالحرمة التشريعيّة. و هذا كما إذا أجبره الجائر على الصلاة خلف من نصبه إماماً للجماعة أو خلف رجل آخر علمنا فسقه؛ فإنّه إذا صلّى خلفه ناوياً بها التقرّب و الامتثال، فقد فعل محرّماً تشريعيّاً لا محالة؛ لأنّ التقيّة تنادي بصورة الصلاة معه. و حيث إنّه يعلم ببطلانها و عدم كونها مأموراً بها حقيقةً، فلو أتى بها بقصد القربة، كان ذلك محرّماً تشريعيّاً لا محالة. و نظيره ما إذا أتى بالعبادة تقيّةً و قلنا إنّها غير مجزئة عن المأمور بها؛ لأنّ التقيّة إنّما تقتضي جواز العمل فقط و لا يقتضي الإجزاء عن المأمور به؛ فإنّه لو اتّقى بذلك و مسح على خفّيه تقيّةً، لم يجز له أن يقصد به التقرّب و الامتثال؛ لعدم كونه مصداقاً للمأمور به، فلو قصد به ذلك، كان محرّماً تشريعيّاً.

و من ذلك ما إذا وقف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجّة الحرام تقيّةً و قلنا بعدم إجزائه عن الوقوف المأمور به و هو الوقوف بها يوم التاسع من الشهر المذكور مطلقاً أو فيما إذا علم بأنّ اليوم يوم الثامن دون التاسع؛ فإنّه لا يجوز أن ينوي به التقرّب و الامتثال. و إلّا لارتكب عملاً محرّماً تشريعيّاً لا محالة». [8]

أقول: کلامه (رحمة الله) في کمال المتانة، إلّا أنّ في بعض الأمثلة مناقشة، مثل کون القصد مورد التقیّة؛ فإنّ التقیّة لا تأتي في القصد الذي هو أمر اختیاري.

الإشکال في بعض کلمات المحقّق الخوئي (إذا أجبره الجائر على الصلاة خلف من نصبه إماماً ...)

إنَّ هذا في الحقيقة، لا يصلح مثالاً؛ لأنّ قصد الامتثال ليس تحت التقيّة بأيّ حال. كلّ ما في الأمر أنّ التقيّة أصبحت من أجزاء العلّة لهذا القصد. و قصد الامتثال اختياريّ محض. و إنّما الكلام فيما إذا أصبح مورد التقيّة و متعلّقها بنفسه متعلّقاً للحرمة التشريعيّة. و هذا لا مورد له؛ لوضوح رجحان تطبيق التقيّة وجوباً أو استحباباً. فلا يكون متعلّقها منهيّاً عنه أو ساقط التكليف ليكون قصده تشريعيّاً. فلئن فرض سقوط العنوان الأوّلي. فلا أقلّ من إمكان قصد الأمر الثانويّ الناشئ من التقيّة. [9]

قال بعض الفقهاء (رحمة الله): «التقيّة المحرّمة هي الاضطرار إلى قتل نفس محرّمة؛ فإنّ اللّه- تعالى- شرّع التقيّة لحقن الدماء، فإذا بلغت الدم، فلا تقيّة. و كذا إذا كانت المصالح المترتّبة على الترك أقوى من الضرر المرتّب عليه أو كانت المفاسد المترتّبة على العمل بها أقوى من ذلك الضرر كما إذا اضطرّ العالم الذي له مكانة في أعين الناس و منزله في قلوبهم إلى شرب الخمر بحيث لو شرب تجرّؤوا إلى شربه أو شكّوا في حرمته أو تردّدوا في أصل المذهب (مثلاً). و لعلّ ترك التقيّة من بعض أصحاب الأئمّة (علیهم السلام) كان كذلك؛ كميثم التمّار و حجر بن عديّ و رشيد الهجريّ- رضوان اللّه عليهم». [10]

أقول: کلامه (رحمة الله) متین.

و قال بعض الفقهاء (حفظه الله): «هي ما يترتّب عليها مفسدة أعظم؛ كهدم الدين و خفاء الحقيقة على الأجيال[11] الآتية و تسلّط الأعداء على شؤون المسلمين و حرماتهم و معابدهم. و لأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقيّة في بعض‌ الأحيان و قدّموا أنفسهم و أرواحهم أضاحيّ[12] من أجل الدين، فللتقيّة مواضع معيّنة، كما أنّ للقسم المحرّم منها مواضع خاصّةً أيضاً». [13]

أقول: لا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهمّ في مقام التزاحم، کما سبق منّا.

أقسام التقیّة المحرّمة

القسم الأوّل: التقیّة في ما لم یترتّب علی ترکه ضرر[14] [15] [16]

قال الشهید الأوّل (رحمة الله): «الحرام التقيّة حيث يأمن الضرر عاجلاً و آجلاً». [17]

أقول: لا بدّ من التقیید بصورة و هي ما إذا انجرّ إلی فعل المحرّمات أو ترك الواجبات، مع الأمن من الضرر عاجلاً و آجلاً.

دلیل حرمة القسم الأوّل

قال المحقّق الخوئيّ (رحمة الله): «إنّ التقيّة قد أخذ في موضوعها احتمال الضرر، فإذا لم يترتّب هناك ضرر على تركها، فهي خارجة عن موضوع التقيّة رأساً. و على الجملة إنّ خروج مثلها تخصّصيّ موضوعي، لا تخصيصي». [18]

أقول: کلامه (رحمة الله) متین.

القسم الثاني[19] : ما کان في الدماء

إتّفق الفقهاء علی عدم جواز التقیّة في الدماء. [20] [21] [22]

قال الشیخ المفید (رحمة الله): «مهما اضطرّ إليه في التقيّة، فجائز له إلّا سفك دماء أهل الإيمان؛ فإنّه لا يجوز له على حال اضطرار و لا اختيار و لا على وجه من الوجوه و لا سبب من الأسباب». [23]

و قال الشیخ الطوسيّ (رحمة الله) :«أمّا قتل النفوس فلا يجوز فيه التقيّة على حال». [24]

و قال ابن إدریس (رحمة الله): «إن خاف الإنسان على نفسه من ترك إقامتها [الحدود] فإنّه يجوز له أن يفعل في حال التقيّة ما لم يبلغ قتل النفوس، فلا يجوز فيه التقيّة». [25]

و قال العلّامة الحلّيّ (رحمة الله): «یحرم الولاية من قبل الجائر، ... فإن تعذّر، جاز مع الإلزام اعتماد ما لا يسوّغ من الظلم إلّا أن يبلغ حدّ القتل، فلا يجوز و إن خاف على نفسه القتل؛ فإنّه لا تقيّة في الدماء». [26]

أقول: کلامهم (رحمهم الله) متین.

و قال الشهید الثاني (رحمة الله): «لو اضطرّه السلطان إلى إقامة حدّ أو قصاص ظلماً أو اضطرّه لحكم مخالف للمشروع، جاز لمكان الضرورة إلّا القتل، فلا تقيّة فيه». [27]

أقول: کلامه (رحمة الله) متین.

و قال الإمام الخمینيّ (رحمة الله): «أمّا الدماء فلا إشكال، كما أنّه لا خلاف في عدم التقيّة فيها». [28]

و قال المحقّق الخوئيّ (رحمة الله): «ما إذا كره على قتل نفس محترمة و قد تقدّم أنّ التقيّة المتحقّقة بقتل النفس المحترمة محرّمة». [29]

أقول: کلامه (رحمة الله) متین.

و قال بعض الفقهاء (حفظه الله): «إذا بلغت التقيّة الدم، فالواجب رفضها و عدم الخوض فيها؛ كما إذا أمر الكافر أو الفاسق بقتل مؤمن و يعلم أو يظنّ أنّه لو تركه قتل نفسه، فلا يجوز القتل تقيّةً و حفظاً للنفس». [30]

أقول: کلامه (حفظه الله) متین.

الأدلّة علی عدم جواز التقیّة في الدماء

الدلیل الأوّل: الروایتان

الروایة الأولی

أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيِّ[31] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ[32] عَنْ صَفْوَانَ[33] عَنْ شُعَيْبٍ الْحَدَّادِ[34] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ[35] عَنْ أَبِي جَعْفَر[36] (ع) قَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِيَّةُ لِيُحْقَنَ‌ بِهَا الدَّمُ‌، فَإِذَا بَلَغَ الدَّمَ، فَلَيْسَ تَقِيَّةٌ». [37]

إستدلّ بها بعض الفقهاء. [38] [39] [40] [41] [42] [43]

أقول: دلالتها واضحة و السند صحیح. و الظاهر أنّ المراد من الدم هو القتل، لا مجرّد الجرح المنتهي إلی جریان الدم بدون القتل و الملاك هو الاحتمال العقلائيّ للقتل.

الروایة الثانیة

عَنْهُ[44] عَنْ يَعْقُوبَ[45] عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ[46] عَن‌ شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ[47] عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ[48] قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع): «... إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِيَّةُ لِيُحْقَنَ‌ بِهَا الدَّمُ‌، فَإِذَا بَلَغَتِ التَّقِيَّةُ الدَّمَ، فَلَا تَقِيَّةَ ...». [49]

إستدلّ بها بعض الفقهاء. [50] [51] [52] [53] [54] [55]

أقول: دلالتها واضحة و السند معتبر.

قال بعض الفقهاء (حفظه الله): «إنّ المؤمنين تتكافى دمائهم و إنّما جعلت التقيّة لحقن الدماء و حفظ النفوس، فإذا بلغت الدم، فلا معنى لتشريعها و كانت ناقضةً للغرض؛ لأنّ حفظ دم واحد لا يوجب جعل دم الآخر هدراً و لا يجوز في حكمة الحكيم هذا». [56]

أقول: لا بدّ من تقییدها بصورة الأهمّ و المهمّ في باب التزاحم.

قال بعض الفقهاء (رحمة الله) :«إنّ الغاية من التقيّة هي الحراسة على دماء المسلمين، فلو أوجبت التقيّة إراقة الدم، فلا وجه لترجيح أحدهما على الآخر». [57]

الإشکال في الاستدلال بالروایتین

قال المحقّق الإیروانيّ (رحمة الله): «يقرب عندي أنّ المراد من هذه الأحاديث أمر وجدانيّ يدركه العقل و هو أنّ التقيّة لمّا شرّعت لغاية حفظ النفس، فإذا لم تكن هذه الغاية موجودةً، بل كان الشخص مقتولاً لا محالة اتّقى أو لم يتّق، فلا تقيّة لانتفاء ما هو الغرض من تشريع التقيّة و المصنّف فهم من هذه الروايات عدم تشريع التقيّة بإراقة الدماء، كما إذا توقّفت التقيّة على قتل مؤمن محقون الدم، فلا يشرع من أجلها سفك الدم و بين المعنيين بون[58] بعيد». [59]

دفع الإشکال

الإنصاف أنّه من عجيب الكلام؛ فإنّ الفاعل في قوله «بلغ» في الرواية الأولى أيضاً العمل بالتقيّة، كما في بلغت في الثانية- و لا يضرّه التذكير كما هو واضح- و بلوغ التقيّة الدم إنّما هو بكونها سبباً لذلك لا بلوغ الإنسان دمه بسبب آخر. هذا مضافاً إلى أنّ الحكم في المسألة عقليّ في الجملة. و كيف يمنّ الشارع على إنسان بإراقة دم إنسان آخر لحفظ نفسه أو لحفظ بعض منافعه الأخرى و قد عرفت فساد القول بأنّ المكره لا إرادة له و إنّ الفعل غير منسوب إليه». [60]

أقول: الظاهر شمول الروایة لمورد الذي ذکره المحقّق الإیروانيّ (رحمة الله) و لسائر موارد بلوغ الدم المذکور في کلماتهم (رحمهم الله)؛ فلا مشکل في إرادة العموم. و الدلیل علی العموم هو عمومیّة بلوغ الدم؛ فإنّ في جمیع هذه الموارد یصدق بلوغ الدم، فالإشکال علی المحقّق الإیروانيّ (رحمة الله) ادّعاء الانحصار بمورد واحد و الإشکال علی دافع الإشکال الجواب عنه بعدم شمول المورد و الحقّ هو الشمول و العموم لجمیع هذه الموراد.

 


[1] من أقسام التقیّة.
[2] الإمام الباقر (ع).
[3] .الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج2، ص220. و جاء فیه: أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيِّ [أحمد بن إدریس القمّي: إماميّ ثقة] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ [القمّي: إماميّ ثقة] عَنْ صَفْوَانَ [صفوان بن یحیی البجلي: إماميّ ثقة من أصحاب الإجماع] عَنْ شُعَيْبٍ الْحَدَّادِ [شعیب بن أعین الحدّاد: إماميّ ثقة] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ [الثقفي: إماميّ ثقة من أصحاب الإجماع] عَنْ أَبِي جَعْفَر [الإمام الباقر](ع) قَالَ.. (هذه الروایة مسندة و صحیحة)
[9] . ما وراء الفقه، الصدر، السید محمد، ج1، ص110.
[11] أي: نسل ها.
[12] أي: المذبوحین.
[19] من أقسام التقیّة المحرّمة.
[31] أحمد بن إدریس القمّي: إماميّ ثقة.
[32] القمّي: إماميّ ثقة.
[33] صفوان بن یحیی البجلي: إماميّ ثقة من أصحاب الإجماع.
[34] شعیب بن أعین الحدّاد: إماميّ ثقة.
[35] الثقفي: إماميّ ثقة من أصحاب الإجماع.
[36] الإمام الباقر (ع).
[39] . حاشیة علی رسالة فی التقیة، المامقانی، عبدالله، ج1، ص243.
[44] محمّد بن الحسن الصفّار: إماميّ ثقة.
[45] یعقوب بن یزید الأنباري: إماميّ ثقة.
[46] الحسن بن عليّ بن فضّال التیمي: فطحيّ ثقة، من أصحاب الإجماع علی قول.
[47] شعیب بن یعقوب العقرقوفي: إماميّ ثقة.
[48] ثابت بن دینار أبو حمزة الثمالي: إماميّ ثقة.
[49] .تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج6، ص172.. (هذه الروایة مسندة و موثّقة)
[51] . حاشیة علی رسالة فی التقیة، المامقانی، عبدالله، ج1، ص243.
[58] أي: فصل، تغایر، بعد، فرق.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo