< قائمة الدروس

بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

42/06/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 

 

موضوع: المکاسب المحرمة/ الکذب/ التقیّة

 

القول الثاني: حرمة التقیّة المداراتیّة [1] [2]

[إیضاح الاشتباه]

قال المحقّق الخوئيّ (رحمة الله): «لم نعثر على من تعرّض لهذه المسألة إلّا المحقّق الهمدانيّ+ حيث تعرّض لها[3] و اختار اختصاصها بزمان اقتدارهم و أيّام عظمتهم». [4] و لکن هذه النسبة اشتباه؛ لأنّ المحقّق الهمدانيّ (رحمة الله) ذهب إلی حرمة التقیّة المداراتیّة، کما یستفاد من کلماته،[5] لا التفصیل الذي نسبه المحقّق الخوئيّ (رحمة الله) إلیه (رحمة الله) و إلیك صریح کلام المحقّق الهمدانيّ (رحمة الله): «يظهر من غير واحد من الأخبار إناطة الإذن في التقيّة بالضرورة، كرواية البزنطيّ عن إبراهيم بن شيبة، قال: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ[6] أَسْأَلُهُ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَن‌ يَتَوَلَّى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَ هُوَ يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ خَلْفَ مَنْ يُحَرِّمُ الْمَسْحَ وَ هُوَ يَمْسَحُ؟ فَكَتَبَ: «إِنْ جَامَعَكَ وَ إِيَّاهُمْ مَوْضِعٌ فَلَمْ تَجِدْ بُدّاً مِنَ الصَّلَاةِ فَأَذِّنْ لِنَفْسِكَ وَ أَقِمْ»[7] إلى آخره. و في رواية معمّر بن يحيى «كُلَّمَا خَافَ الْمُؤْمِنُ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ ضَرُورَةٌ فَلَهُ فِيهِ التَّقِيَّةُ».[8] و بمعناها غيرها. و ظاهرها كونها مسوقةً لبيان ضابط التقيّة و مدارها نفياً و إثباتاً.

و في المرسل المحكيّ في الفقه الرضويّ عن العالم «لَا تُصَلِّ خَلْفَ أَحَدٍ إِلَّا خَلْفَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مَنْ تَثِقُ بِهِ وَ تَدِينُهُ بِدِينِهِ وَ وَرَعِهِ وَ آخَرُ مَنْ تَتَّقِي سَيْفَهُ وَ سَوْطَهُ وَ شَرَّهُ وَ بَوَائِقَهُ[9] وَ شُنْعَهُ[10] فَصَلِّ خَلْفَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّة ...».[11] و عن دعائم الإسلام بسنده عن أبي جعفر(ع) «لَا تُصَلُّوا خَلْفَ‌ نَاصِبٍ‌ وَ لَا كَرَامَةَ إِلَّا أَنْ تَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تُشْهَرُوا وَ يُشَارَ إِلَيْكُمْ فَصَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ ثُمَّ صَلُّوا مَعَهُمْ وَ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ‌ مَعَهُمْ تَطَوُّعاً». [12]

و لكنّ الذي يقتضيه الجمع بين الأخبار حمل الضرورة المعتبرة في مشروعيّتها على الضرورة الفعليّة حال العمل، لا الضرورة المطلقة؛ لما عرفت من عدم إمكان تقييد الأخبار السابقة بها، بل و منافاته للتسهيل الذي عليه ابتناء شرع التقيّة؛ لأنّ الالتزام بالتخلّص بنفسه ضيق و حرج، مع أنّ إعمال الحیلة و بذل الجهد في التفصّي حال العبادة غير معروف عن المعاصرين للأئمّة^، فالقول باشتراطها بعدم المندوحة مطلقاً ضعيف.

نعم، لا بدّ من الالتزام باشتراطها بعدم تمكّنه من إيجاد الفعل الصحيح الواقعيّ حين إرادة امتثال أمره بمعنى عدم تمكّنه في زمان صدور الفعل منه و مكانه إلّا من إيجاده على وجه التقيّة، بل نفى الريب عنه غير واحد؛ بل يظهر من بعض أنّ خلافهم في اعتبار عدم المندوحة و عدمه إنّما هو بالمعنى الأوّل. و أمّا اعتبار عدم المندوحة بهذا المعنى فممّا لا‌ ‌خلاف فيه. و يؤيّد كلامه أنّ عدم المندوحة بهذا المعنى- بحسب الظاهر- من مقوّمات موضوع التقيّة عرفاً، مع أنّه لا مقتضى لتقييد الأوامر الواقعيّة بغير الفرض؛ لأنّ المفروض أنّ التقيّة لا تنافيها، فلو تمكّن حال الوضوء من تلبيس الأمر عليهم على وجه لا ينافي التقيّة، يجب عليه ذلك و لا يجزئه موافقتهم حينئذٍ جزماً؛ لما عرفت من إناطتها بالضرورة الفعليّة بمقتضى الأخبار المقيّدة.

هذا، مع إمكان أن يقال: إنّه لا يكاد يستفاد جوازها في الفرض من مطلقات الأخبار، فضلاً عن غيرها؛ لانصرافها عن مثل الفرض؛ لما ارتكز في الذهن من أنّ الواجب الواقعيّ و المطلوب النفس الأمريّ إنّما هو مسح الرجلين. و أمّا ما عداه فإنّما سوّغه العجز، فلا يجوز مع التمكّن الفعليّ من فعله. هذا إذا التفت إلى إمكان التفصّي. و أمّا إذا لم يلتفت أو خاف من إعمال الحيلة في إيجاد الفعل الصحيح، فلا إشكال في كفاية ما أتى به عن الواقع؛ لإطلاقات الأدلّة الشاملة للفرض بلا تأمّل.

و بما ذكرنا ظهر لك أنّ الأقوى أنّه لا يجوز له الحضور في مجامعهم و مجالسهم عند إرادة فعل الوضوء أو الصلاة، لا لضرورة عرفيّة مقتضية لذلك و لو مثل حسن المعاشرة أو إظهار المودّة الموجبة للأمن من ضررهم بملاحظة المصلحة النوعيّة. ‌

و قد يتوهّم جوازه بل رجحانه مطلقاً، نظراً إلى إطلاق بعض الأوامر التي تقدّمت الإشارة إليها الداّلة على الحثّ العظيم على الصلاة مع المخالف و وعد الثواب عليها الظاهرة في استحبابها في حدّ ذاتها، فتكون الضرورة حكمةً للحكم، لا علّةً له. و يدفعه: ما عرفت من وجوب رفع اليد عن هذا الظاهر بمقتضى الأخبار المتقدّمة. هذا، مع ما في دعوى ظهورها في حدّ ذاتها في الاستحباب مطلقاً من المنع؛ لقوّة احتمال ورود الأخبار الآمرة بالحضور في مجامعهم مورد الغالب، حيث إنّ الأشخاص المعاصرين للأئمّة (علیهم السلام) غالباً كانوا مضطرّين إلى مخالطتهم و معاشرتهم، كي لا يعرفوهم بالفرض و التشيّع فيؤذوهم و الإمام (ع) بيّن لهم ما يترتّب على فعلهم من الأجر و الثواب، كي لا تشمئزّ طباعهم بمقتضى جبلّتهم من حضور مساجدهم و الصلاة معهم، فيؤدّي ذلك إلى ترك الحضور و الاختلاط، الكاشف عمّا في نفوسهم من الرفض و الاستنكار؛ فلا تعمّ هذه الأخبار من لم يكن في معرض هذه التهمات، كما أنّه لا تدلّ على جواز الصلاة معهم عند ارتفاع شوكتهم و ذهاب سلطانهم و انقراض عصرهم بحيث لم يبق منهم إلّا الأذلّون؛ لانصرافها عن مثل الفرض جزماً.

و الحاصل: أنّ المستفاد من مجموع الأخبار أنّ عبادات كلّ من ألجأته التقيّة إلى إيجادها على وجه غير مشروع ممضاة شرعاً، لا أنّ الإمضاء منحصر في حقّ من لا منجا له إلّا التقيّة؛ فجوازها منوط ‌بالضرورة حال الفعل بأن يكون إيقاعه موافقاً لمذهب المخالف لأجل خوف الضرر، لا الضرورة المطلقة». [13]

فالظاهر من مجموع عباراته أنّ مراده (رحمة الله) التقیّة لخوف الضرر أو الضرورة و لا تدلّ علی التقیّة المداراتیّة.


[3] التقیّة المداراتیّة.
[6] الإمام الجواد (ع).
[7] .تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج3، ص276. و جاء فیه: عَنْهُ [أحمد بن محمّد بن عیسی الأشعري: إماميّ ثقة] عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ [البزنطي: إماميّ ثقة من أصحاب الإجماع] عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَيْبَةَ [مختلف فیه و هو إماميّ ثقة ظاهراً].. (هذه الروایة مسندة، صحیحة ظاهراً)
[8] .النوادر، الأشعري، أحمد بن عيسى، ج1، ص73. و جاء فیه: [أحمد بن محمّد بن عیسی الأشعري: (إماميّ ثقة) عن الحسین بن سعید الأهوازي: إماميّ ثقة] عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ يَحْيَى [بن سام: إماميّ ثقة] قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (ع) إِنَّ مَعِي بَضَائِعَ لِلنَّاسِ وَ نَحْنُ نَمُرُّ بِهَا عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُشَّارِ فَيُحْلِفُونَّا عَلَيْهَا فَنَحْلِفُ لَهُمْ. قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أُجِيزَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهَا وَ أَحْلِفُ عَلَيْهَا كُلَّمَا خَافَ الْمُؤْمِنُ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ ضَرُورَةٌ فَلَهُ فِيهِ التَّقِيَّةُ».. (هذه الروایة مرفوعة و ضعیفة)
[9] أي: شروره.
[10] أي: القهر مع الکراهة.
[12] دعائم الإسلام‌، القاضي النعمان المغربي، ج1، ص151. و جاء فیه: قَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) [الإمام الجواد] أَنَّهُ قَالَ. (هذه الروایة مرفوعة و ضعیفة).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo