< قائمة الدروس

بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

42/05/04

بسم الله الرحمن الرحیم

 

 

موضوع: المکاسب المحرمة/ الکذب/ مسوّغات الکذب

الدلیل الخامس

إنّ كلّ شي‌ء غير الكفر و هدم الدين- الذي هو أكبر الكبائر- ليست حرمته ذاتيّةً حتّى لو كان ظلماً، فلذا يجوز أكل مال الغير في المخمصة و الهجوم على المسلمين إذا تترّس[1] الكفّار بهم في الحرب بشرائطه مع أنّ وقوع الظلم عليه حينئذٍ واضح و لو أجيب عن الأوّل، فلا يمكن الجواب عن الثاني؛ نعم وجود الغرض الأهمّ رخّص هذا الظلم. فغالب المحرّمات أو جميعها إلّا ما ذكر يكون جائزاً عند طروّ عنوان أهمّ منه و الكذب منه قطعاً. و بعبارة اُخرى: عند دوران الأمر بين أمرين محرّمين يؤخذ بالأقوى منهما، فيترك و يعمل بالآخر و كذا إذا دار الأمر بين محرّم و واجب و هناك كثير من الواجبات و المحرّمات أقوى ملاكاً من الكذب، فيجوز ارتكاب الكذب لحفظها. [2]

أقول: إنّ إظهار الکفر لیست حرمته ذاتیّةً، بل إذا تعارض مع حفظ النفس المحترمة، یجوز إظهاره. و لا فرق بین الکفر و الظلم؛ فإنّ الکفر من مصادیق الظلم علی النفس و حرمة الظلم ذاتیّة و لکن قد یتعارض ظلم مع ظلم آخر أحدهما أقلّ من الآخر، فلا بدّ من اختیار أقلّهما قبحاً و جریان قاعدة الأهمّ و المهمّ في الواجبات و المحرّمات و الظلم منها. و لا فرق في مقام التزاحم بینها.

تنبیه: في الکذب المانع من الضرر النفسيّ و العرضي.

ذهب الفقهاء إلی جواز الکذب لتخلّص نفسه أو غيره من سائر المؤمنين. [3] [4]

أقول: هو الحقّ، سواء کان التخلّص من الضرر من نفس محترمة في الأموال أو الأعراض أو النفوس، لنفسه أو لغیره، مؤمناً کان أو غیره (غیر مهدور الدم من أهل الحرب و أمثاله)، کما ذکرنا في بحث الغیبة أنّ حرمتها عامّة شاملة لکلّ فرد غیر مهدور الدم و المحاربین؛ فإنّ الأشخاص التي حفظهم واجب علی الحکومة الإسلامیّة لا فرق بین أدیانهم، بل الإنسان من حیث إنّه إنسان محفوظ الدم و العرض و المال، إلّا إذا کان محارباً أو مثله. و سیأتي الأدلّة علی ذلك.

قال الإمام الخمینيّ (رحمة الله): «... جواز الكذب لتخلّص نفسه أو غيره من سائر المؤمنين من أنحاء الضرر النفسيّ و العرضي».[5]

و قال المحقّق الخوئيّ (رحمة الله): «لا خلاف بين المسلمين، بل بين عقلاء العالم في جواز الكذب لإنجاء النفس المحترمة». [6]

أقول: کلامه (رحمة الله) متین، حیث استدلّ ببناء العقلاء علی جواز الکذب لحفظ النفس المحترمة الشاملة لکلّ إنسان إلّا المحارب و أمثاله.

أدلّة جواز الکذب المانع من الضرر النفسيّ و العرضي

الدلیل الأوّل: فحوى الروايات و إطلاق بعضها

فمنها: قَالَ الصَّادِقُ (ع): «الْيَمِينُ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى شَيْ‌ءٍ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ فَيَحْلِفُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْ‌ءَ أَوْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ[7] . وَ الْأُخْرَى: عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَمِنْهَا مَا يُؤْجَرُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ كَاذِباً وَ مِنْهَا مَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَ لَا أَجْرَ لَهُ وَ مِنْهَا مَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَ الْعُقُوبَةُ فِيهَا دُخُولُ النَّارِ فَأَمَّا الَّتِي يُؤْجَرُ عَلَيْهَا الرَّجُلُ إِذَا حَلَف‌ كَاذِباً وَ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ فِي خَلَاصِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَوْ خَلَاصِ مَالِهِ مِنْ مُتَعَدٍّ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ مِنْ لِصٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَ أَمَّا الَّتِي لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَ لَا أَجْرَ لَهُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى شَيْ‌ءٍ ثُمَّ يَجِدُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْيَمِينِ فَيَتْرُكُ الْيَمِينَ وَ يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَ أَمَّا الَّتِي عُقُوبَتُهَا دُخُولُ النَّارِ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَوْ عَلَى حَقِّهِ ظُلْماً فَهَذِهِ يَمِينٌ غَمُوسٌ تُوجِبُ النَّارَ وَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا». [8]

إستدلّ بها الإمام الخمینيّ (رحمة الله). [9]

أقول: قید المسلم في الروایة لأنّه مورد الابتلاء غالباً. و المراد النفس المحترمة. و لذا عبّر في بعض الروایات بالرجل من دون قید المسلم أو المؤمن.

و منها: حدیث الرفع

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَطَّارُ (رحمة الله)[10] قَالَ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ[11] عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ[12] عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى[13] عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ[14] عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةٌ الْخَطَأُ وَ النِّسْيَانُ وَ مَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَ مَا لَا يَعْلَمُونَ[15] وَ مَا لَا يُطِيقُونَ وَ مَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَ الْحَسَدُ وَ الطِّيَرَةُ وَ التَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ[16] مَا لَمْ يَنْطِقْ بِشَفَةٍ». [17]

أقول: هذه الروایة بعمومها تدلّ على أنّ كلّ شيء اضطررت إليه فالقدر المتيقّن أنّ العقوبة و المؤاخذة مرفوعة من جهته، فإذن أنا اضطررت إلى الكذب خوف الضرر؛ فحينئذٍ ترتفع العقوبة و لازم ارتفاعها جواز هذا الفعل، فالرواية أيضاً واضحة في ذلك.

أقول: الروايات الخاصّة تدلّ على جواز الحلف كاذباً من قبيل صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعريّ و هي: [18] أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ[19] عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعْدٍ الْأَشْعَرِيِّ[20] عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا(ع) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَ لَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ» قَالَ: وَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَحْلَفَهُ السُّلْطَانُ بِالطَّلَاقِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ فَحَلَفَ؟ قَالَ(ع): «لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» وَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ يَخَافُ عَلَى مَالِهِ مِنَ السُّلْطَانِ، فَيَحْلِفُ لِيَنْجُوَ بِهِ مِنْهُ؟ قَالَ(ع): «لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» وَ سَأَلْتُهُ هَلْ يَحْلِفُ الرَّجُلُ عَلَى مَالِ أَخِيهِ كَمَا عَلَى مَالِهِ؟ قَالَ(ع): «نَعَمْ». [21]

و رواية الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ[22] وَ فَضَالَةُ[23] عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ[24] عَنْ زُرَارَةَ[25] قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ(ع)[26] نَمُرُّ بِالْمَالِ عَلَى الْعُشَّارِ فَيَطْلُبُونَ مِنَّا أَنْ نَحْلِفَ لَهُمْ وَ يُخَلُّونَ سَبِيلَنَا وَ لَا يَرْضَوْنَ مِنَّا إِلَّا بِذَلِكَ قَالَ(ع): «فَمَا حَلَفْتَ لَهُمْ فَهُوَ أَحَلُّ مِنَ التَّمْرِ وَ الزُّبْدِ[27] ». [28]

الرواية لا كلام فيها من حيث السند. و أمّا من حيث دلالتها، فهي جيّدة.

و روایة:[29] عَنْ سَمَاعَةَ[30] قَالَ: قَالَ(ع): «إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِاللَّهِ تَقِيَّةً لَمْ يَضُرَّهُ وَ بِالطَّلَاقِ وَ الْعَتَاقِ أَيْضاً لَا يَضُرُّهُ إِذَا هُوَ أُكْرِهَ وَ اضْطُرَّ إِلَيْهِ وَ قَالَ (ع): «لَيْسَ شَيْ‌ءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا وَ قَدْ أَحَلَّهُ لِمَنِ اضْطُرَّ إِلَيْه‌». [31]

هذه ثلاث روايات و هي تكفينا و قد قلنا إنّ دلالتها على جواز الحلف لا ينبغي التأمّل فيها و إذا ثبت جواز الحلف، ثبت جواز الكذب بلا حلف مادام لدفع الضرر بالأولويّة؛ فإنّ هذه الروایات تدلّ علی جواز الکذب لدفع الضرر مطلقاً، سواء کان الضرر في الأموال أو الأعراض أو النفوس لنفسه أو لغیره. و حیث عبّر بالرجل فلا یختصّ الجواز بالمسلم أو المؤمن، بل المراد النفس المحترمة في الحکومة الإسلامیّة. و علیه بناء العقلاء المؤیّد بالروایات.

الدلیل الثاني: إلغاء الخصوصيّة عرفاً [32]

أقول: یمکن إلغاء الخصوصیّة و التعمیم في الأموال و الأعراض و النفوس، له أو لغیره من النفوس المحترمة و للإنسان من حیث إنّه إنسان.

الدلیل الثالث: أنّه من المستقلّات العقليّة [33]

أقول: فإنّ تحمّل الضرر مطلقاً ظلم و الظلم قبیح و قبحه من المستقلّات العقلیّة.

الدلیل الرابع: أنّه من الضروريّات الدينيّة [34]

قال المحقّق الخوئيّ (رحمة الله): «هو من الضروريّات الدينيّة التي لا خلاف فيها بين المسلمين و على ذلك فمن أنكره، كان منكراً لإحدى ضروريّات الدين و لحقه حكم منكر الضروريّ من الكفر». [35]

الدلیل الخامس: التمسّك بالقاعدة الفقهيّة التي تقول: ما من شيء إلّا و قد أحلّه الله عند الاضطرار إليه.

هذه القاعدة قد دلّت عليها أكثر من رواية؛ من قبيل موثّقة سماعة: عَنْهُ[36] عَنِ الْحَسَنِ[37] عَنْ زُرْعَةَ[38] عَنْ سَمَاعَةَ[39] قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونَ فِي عَيْنَيْهِ الْمَاءُ فَيَنْزِعُ الْمَاءَ مِنْهَا فَيَسْتَلْقِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَيَّامَ الْكَثِيرَةَ أَرْبَعِينَ يَوْماً أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَيَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ الْأَيَّامَ وَ هُوَ عَلَى حَالٍ؟ فَقَالَ(ع): «لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَ لَيْسَ شَيْ‌ءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا وَ قَدْ أَحَلَّهُ لِمَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ». [40]

تذنیبان

التذنیب الأوّل: من موارد الضرورة الحلف الکاذب الضروري.

تحریر محلّ النزاع

إختلف الفقهاء في الحلف الکاذب الضروري؛ فذهب بعض إلی جوازه مطلقاً (مع المعرفة بالتوریة و عدمها). و ذهب بعض آخر إلی جوازه مع عدم المعرفة بالتوریة. و ذهب بعض إلی وجوبه مع عدم المعرفة بالتوریة و ذهب بعض إلی أنّ الأحوط استحباباً جوازه مع عدم المعرفة بالتوریة و ذهب بعض آخر إلی أنّ الأحوط وجوباً جوازه مع عدم تیسّر التوریة.

 


[1] أي: پناه می‌برند.
[7] أي: في الصورتين، فإنّ الحلف في الصورة الأولى الوجوب و الكفّارة على صورة المخالفة و في الصورة الثانية وجوب الكفّارة، دون أصل الوجوب؛ لأنّه كان واجباً عليه بدون الحلف؛ نعم، صار وجوب ذلك الفعل مؤكّداً حتّى صار تركه أقبح.
[10] أحمد بن محمّد بن يحيى‌ العطّار: القمّي: مختلف فیه و هو إماميّ ثقة ظاهراً.
[11] القمّي: إماميّ ثقة.
[12] الأنباري: إماميّ ثقة.
[13] الجهني‌: إماميّ ثقة من أصحاب الإجماع‌.
[14] السجستاني: إماميّ ثقة.
[15] ظاهره معذوريّة الجاهل مطلقاً، لكنّ الفقهاء اقتصروا على موارد خاصّة؛ كالصلاة مع نجاسة الثوب أو البدن أو موضع السجدة أو الثوب و المكان المغصوبين أو ترك الجهر و الإخفات و أمثالها. و المسألة معنونة في كتب أصول الفقه باب البراءة مشروحةً.‌.
[16] كالتفكّر بأنّه- تعالى- كيف خلق الأشياء بلا مادّة و لامثال، أو لأيّ شي‌ء خلق ما يضرّ و لا ينفع بحسب الظاهر، أو لأيّ شي‌ء خلق بعض الأشياء طاهراً و بعضها نجساً أو لأيّ شي‌ء خلق الإنسان من تفاوت و أمثال ذلك.
[18] محمّد بن یحیی العطّار: إماميّ ثقة.
[19] أحمد بن محمّد بن عیسی الأشعري: إماميّ ثقة.
[20] إماميّ ثقة.
[22] التیمي: فطحيّ رجع عنها عند موته ثقة، من أصحاب الإجماع علی قول.
[23] فضالة بن أیّوب: إماميّ ثقة، من أصحاب الإجماع علی قول.
[24] عبد الله بن بكير بن أعين‌: فطحيّ ثقة من أصحاب‌ الإجماع.
[25] زرارة بن أعین الشیباني: إماميّ ثقة من أصحاب الإجماع.
[26] الإمام الباقر(ع).
[27] أي: کره.
[28] النوادر، الأشعري، أحمد بن عيسى، ج1، ص73.. (هذه الروایة مسندة و موثّقة)
[29] أحمد بن محمّد بن عیسی: محرّف و صحیحه: الحسین بن سعید الأهوازي: إماميّ ثقة.
[30] سماعة بن مهران: إماميّ ثقة.
[31] النوادر، الأشعري، أحمد بن عيسى، ج1، ص75. (هذه الروایة مرفوعة و ضعیفة).
[36] الحسین بن سعید الأهوازي: إماميّ ثقة.
[37] الحسن بن سعید الأهوازي: إماميّ ثقة.
[38] زرعة بن محمّد الحضرمي: واقفيّ ثقة.
[39] سماعة بن مهران: إماميّ ثقة.
[40] تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج3، ص306.. (هذه الروایة مسندة و موثّقة)

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo