« قائمة الدروس
بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

47/05/05

بسم الله الرحمن الرحیم

صحة الإجارة في الواجبات الکفائیة/التکسب بالواجبات /المکاسب المحرّمة

 

الموضوع: المکاسب المحرّمة/التکسب بالواجبات /صحة الإجارة في الواجبات الکفائیة

 

نقاشنا اليوم في الفقه، يتعلّق برأي المرحوم آية الله الميرزا النائیني (أعلی الله مقامه الشریف) حول «أخذ الأجرة علی أداء الواجبات». و مؤخّراً أُقيم مؤتمر كبير تكريماً لهذا الفقيه البارز.

رأي الميرزا النائیني حول الأجرة علی الواجبات

المرحوم النائیني فصّل في هذه المسألة بين الواجب العيني و الواجب الكفائي. إذ يقول: «جواز أخذ الأجرة على كل ما كان وجوبه نظاميا و عدم جوازه في كلّما كان واجبا عينيا غير نظامى أو كفائيا لم يثبت قابليته للاستنابة و جوازه فيما ثبت قبوله للاستنابة[1]

أخذ الأجرة على الواجب العيني حرام و باطل، أي لا يجوز للإنسان أن يكون أجيراً لأداء الواجب العيني. أما في الواجبات الكفائية، فلا إشكال في أن يستأجر المرء للقيام بها.

و لتوضيح المسألة يقول: الواجبات الكفائية هي تلك الواجبات التي يتوقّف عليها حفظ نظام المجتمع؛ مثل الخبازة، و الجزارة، و الخياطة، و الطب. يحتاج كل مجتمع إلى هذه المهن لبقائه و نظامه. ولهذا، فإنّ أداء هذه الأعمال هو واجب كفائي، و لا إشكال في أخذ الأجرة عليها. أما الواجبات العينية، مثل الصلاة أو الصوم، فهي مستثناة من هذه القاعدة، و لا يجوز أخذ الأجرة على أدائها.

شروط صحة الإجارة عند الميرزا النائيني

تتوقف صحّة عقد الإجارة (عقد استلام الأجرة) من وجهة نظر الميرزا النائيني على شرطين:

الشرط الأول: قدرة الأجير على إنجاز العمل

المقصود بالقدرة هو الاستطاعة على «الفعل» و كذلك «الترك»؛ أي أن يكون الشخص قادراً على أن يفعل العمل أو يمتنع عنه.

و عليه، إذا كان شخص ما قادراً على فعل عمل أو تركه، جاز له أن يكون أجيراً لذلك العمل. أمّا في الواجبات العينية، فلا يمكن للإنسان أن يتركها، لأنّ أداءها واجب و تركها حرام. و نتيجة لذلك، تخرج الواجبات العينيّة من نطاق الإجارة، لعدم وجود القدرة على الترك فيها.

الشرط الثاني: أن يكون للعمل المنجَز فائدة للمستأجِر (دافع الأجرة)

يجب على من يدفع مبلغاً من المال أن يجني فائدةً من عمل الأجير. أمّا في الواجبات العينية، فإن أداء ذلك العمل لا يحقّق فائدةً للمستأجِر، لأنّ القيام بالواجب هو وظيفة الشخص الأجير نفسه، و ليس نيابةً عن شخص آخر (المستأجِر).

و لهذا السبب، لا يتحقّق أيّ من الشرطين المذكورين في الواجبات العينية، و عليه تكون الإجارة باطلةً.

«(أمّا جواز أخذ الأجرة) في الواجبات النظامية فلتحقّق ملاك صحته فيها بكلا الأمرين و ذلك لبقاء سلطنة الأجير على فعل متعلق الإجارة و تركه و كونه ممكن الحصول للمستأجر (أما بقاء سلطنته عليه) فلأن متعلق الإجارة هو العمل بالمعنى الاسم المصدري فالمستأجر لخياطة الثوب انما يملك على الأجير مخيطة الثوب لا حيث صدور عمله منه بالمعنى المصدري و لذا لو فرض تحقّق الخياطة في الثوب بلا صدور عمل من الأجير يتحقّق ملك المستأجر إلا إذا شرط المباشرة على الأجير.

(و اما عدم الجواز في الواجب العيني الغير النظامي) فلانتفاء كلا الركنين في صحة الإجارة فيه و ذلك لعدم سلطنة المؤجر على العمل لا يجابه عليه و عدم كونه ممكن الحصول للمستأجر.»[2]

الواجب الكفائي و إمكان النيابة

يقسّم الميرزا النائيني الواجب الكفائي إلى قسمين:

واجب كفائي قابل للنيابة: في هذا النوع، يمكن أداؤه نيابةً عن شخص آخر (مثل الجهاد أو الصلاة والحج الاستئجاري). في مثل هذه الحالات، تكون الإجارة صحيحةً؛ لأنّ شرط القدرة متوفّر (فالفعل اختياري) و كذلك العمل ينفع المستأجِر؛ إذ يؤدّيه النائب نيابةً عنه.

واجب كفائي غير قابل للنيابة: إذا كان الواجب الكفائي من النوع الذي لا معنى للنيابة فيه، فإنّ الإجارة فيه تكون باطلةً أيضاً.

على سبيل المثال، قد يكون الجهاد واجباً عينياً على بعض الأفراد، و واجباً كفائياً على البعض الآخر. إذا كان الشخص الذي وجب عليه الجهاد وجوباً عينیّاً، عاجزاً عن الذهاب بنفسه و أرسل شخصاً آخر نيابةً عنه، فإنّ هذه النيابة صحيحة، لأنّه واجب كفائي على النائب، و يؤدّيه نيابةً عن شخص آخر.

«و أما عدم الجواز في الواجب الكفائي الذي لم يثبت إمكان الاستنابة فيه فلانتفاء الأمر الثاني و لو تحقّق فيه الأمر الأول (و توضيحه) أن الوجوب الكفائي ما لم يتعين على المكلّف بالعرض تعيينا ناشيا عن فقد من به الكفاية لا يوجب رفع السلطنة عن متعلقة بل هو مع كونه واجبا بهذا الوجوب مقدور الفعل‌ و الترك و هذا كما في الواجب التخييري حيث أنه أيضاً لا يقتضي رفع السلطنة عن كل واحد من أطراف متعلقة، بل كل واحد بخصوصيته مقدور كما لو لم يكن وجوب أصلا فالأمر الأول من ركني الصحة موجود و لكن العمل ليس ممكن الحصول للمستأجر و ذلك لفرض عدم دخول النيابة فيه و عدم صحة الاستنابة، فما يقع من الأجير انما يقع عن نفسه بلا ربط له إلى المستأجر أصلا.

(و أما) الجواز في الواجب الكفائي القابل للنيابة فظاهر لمكان تحقّق الأمرين فيه من مقدورية الفعل بعد الوجوب و كونه ممكن الحصول للمستأجر لمكان وقوعه عنه و فراغ ذمته عنه بسبب عمل الأجير و ذلك لكونه قابلا للنيابة و هذا كما في باب الجهاد على ما هو المتسالم بينهم من قابليته للنيابة فإذا كان واجبا عينيا على المنوب عنه بواسطة قربه الى محل الجهاد و تحقّق شرائطه فيه و كان كفائيا على النائب فيصح أن ينوب عنه فيقع جهاده عنه فلا يصيبه نصب و لا مخمصة في سبيل اللّه و لا يناله من عدو نيل إلا كتب للمستأجر بسبب استيجاره عمل صالح على ما هو مقتضى وقوع العمل عنه[3]

انتقادات تلاميذ الميرزا النائيني لِـرأيه

وجّه آية الله الخوئي إشكالين (انتقادين) إلى أستاذه:

الإشكال الأول:

إنّ المحقّق النائيني قد ذكر أنّ عمل الأجير في الواجب العيني لا يحقّق فائدةً للمستأجِر.

يردّ آية الله الخوئي قائلاً: يمكن افتراض فائدة للمستأجِر في بعض الحالات. فمثلاً، إذا أعطى الأب لابنه مبلغاً من المال لتشجيعه على الصلاة أو الحجاب. هنا، و رغم أنّ الصلاة أو الحجاب واجب عيني على الابن، إلّا أنّ هذا الفعل يعود بالفائدة على الأب أيضاً؛ لأنّه يؤدّي إلى التربية الدينية و التهذيب الأخلاقي للابن. إذن، لا يمكن القول بإطلاق إنّه لا توجد أيّ فائدة للمستأجِر.

الإشکال الثاني:

«انّه لا دليل على بطلان المعاملة السفهية، فتكون العمومات محكمة، على انه لا شبهة في إمكان الانتفاع بالواجب المستأجر عليه و إذن فتخرج المعاملة عن السفهية و بيان ذلك: ما احتمله بعض مشايخنا المحققين و نسبه الى أستاذه في مبحث القضاء و هو أن بذل العوض بإزاء ما تعين فعله على الأجير لغو محض، فلا يكون مشمولا للعمومات[4]

إنّه (آية الله الخوئي) يفرّق بين «معاملة السفيه» (الصادرة عن شخص سفيه) و «المعاملة السفهیّة».

و يقول: إذا أجرى الشخص العاقل معاملةً يراها الآخرون غير عقلائية، فمعاملته صحيحة، لأنه أقدم عليها باختياره. و عليه، إذا دفع شخص مبلغاً من المال بدافع المحبّة أو لدافع شخصي ليقوم آخر بواجبه (الواجب العيني)، فإنّ هذه المعاملة تُعدّ «سفهیّةً» لكنّها ليست باطلةً؛ لأنّها صدرت عن إنسان عاقل.

نقد آیة‌الله التبریزي (رحمه‌الله)

لقد طرح (رحمه الله) إشكالاً ثالثاً:«إنّ الدخيل في تمامية الإجارة تمكن المكلّف من تسليم العمل الذي هو مورد الإجارة، لا التمكن بمعنى آخر و إيجاب الفعل لا ينافي هذا التمكن و لذا لو وقع شرطا في ضمن عقد لازم صح و ترتب عليه أثره. نعم مع التحريم لا يمكن تسليمه، فلا يعمه مثل قوله سبحانه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ حيث لا يمكن الأمر بالوفاء بالإجارة مع النهى عن الفعل[5]

كان المحقّق النائيني قد ذكر أنّ الأجير في الإجارة يجب أن يمتلك القدرة على «الفعل و الترك».

يقول آية الله التبريزي: هذا الشرط ليس ضرورياً. يكفي في الإجارة أن يكون الأجير قادراً على أداء الفعل، وليس بالضرورة أن يكون قادراً على الترك.

أي أنّه إذا استطاع الأجير القيام بالعمل، حتّى لو لم يتمكّن شرعاً من تركه، فالإجارة صحيحة.

نقد آیة‌الله الفاضل اللنکراني (رحمه‌الله)

قد وافق آیةالله الفاضل آیةَالله التبریزي و قال: «المراد بالقدرة المعتبرة في صحّة الإجارة و الجعالة و نحوهما إن كان هي القدرة على فعل العمل و تركه حقيقة و تكويناً فلا شبهة في عدم منافاتها مع تعلّق التكليف الوجوبي أو التحريمي، كيف و وجودها شرط في تعلّق كلّ واحد منهما كما هو واضح و إن كان المراد بها هي القدرة شرعاً بمعنى أن يكون العمل جائز الفعل و الترك عند الشارع لا أن يكون واجباً أو محرماً، فيرد عليه أنّ الاستدلال بهذا النحو مصادرة؛ لأنّ مرجع ذلك إلى أنّه يعتبر في صحّة الإجارة على العمل عدم كونه واجباً و هذا عين المدّعى[6]

القدرة على الفعل تكفي لصحّة الإجارة، و لا حاجة للقدرة على الترك.

إنّ ادعاء المحقّق النائيني بضرورة القدرة على الترك هو نوع من المصادرة على المطلوب؛ لأنّ محل البحث نفسه هو: هل هذا المقدار من القدرةكافٍ أم لا؟

 


logo