47/05/04
بسم الله الرحمن الرحیم
إشکال أکل المال بالباطل/التکسّب بالواجبات /المكاسب المحرمة
الموضوع: المكاسب المحرمة/التکسّب بالواجبات /إشکال أکل المال بالباطل
الجلسة السابقة: كان نقاشنا الفقهي يدور حول أخذ الأجرة على أداء الواجبات. و في الجلسات الماضية طُرحت آراء كبار الفقهاء، و اليوم سيتمّ دراسة كلام الإمام الخميني (قدّس سرّه الشريف) ردّاً على كلام الشيخ الأنصاري (رضوان الله عليه).
نقد الإمام الخميني لمفهوم «أكل المال بالباطل»
كان الشيخ الأنصاري يعتقد أنّ أخذ الأجرة على ما هو واجب على الإنسان يُعدّ أكل مال بالباطل. يرى الإمام الخميني (قدّس سرّه) هذا الاستدلال غير صحيح، و يقول:
«أمّا ما أفاده في ذيل كلامه من حكم العقلاء بأنّ أخذ الأجر على ما وجب من قبل المولى أكل للمال مجّانا و بلا عوض، ففيه منع، إلّا إذا فهم من أمره المجانيّة و هو ليس محل الكلام. و الشاهد على ما ذكرناه أنّه لو صرّح المولى بأنّه لا بأس بأخذ الأجر فيما أوجبت عليك لم يحكم العقلاء بالتنافي بين إيجابه و نفي بأس أخذه، مع أنّه يقع التنافي على ما أفاده. و لا أظنّ منه- قدّس سرّه- أنّه لورود دليل معتبر على جواز أخذ الأجر في الواجب عمل معه معاملة المعارض للكتاب و السنّة، بل الظاهر أنّ أخذ الأجر في مقابل فعل الحرام أيضاً لا يكون من قبيل أكل المال بالباطل عند العقلاء إذا لم يكن الفعل باطلا عرفا و لهذا إنّ العقلاء يعاملون على المحرمات و لا يرون أخذ الأجر أو العوض فيها من قبيل الأكل بالباطل كالسرقة و الظلم و ليس الباطل هو الشرعي، فالدليل على بطلانها غير ذلك، كقوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» بتقريب قدّمناه أو عدم إمكان تنفيذ المعاملة على المحرّمات و إيجاب الوفاء بها.»[1]
أوّلاً: لا يوجد دليل شرعي عامّ يقضي بوجوب أداء كل واجب مجّاناً. نعم هذا صحيح أنّ بعض الواجبات (كالقضاء، الشهادة أو الأذان) يجب أداؤها مجّاناً بدلالة خاصّة، و لكن لا يمكن تعميم هذا الحكم على جميع الواجبات.
ثانياً: إذا افترضنا أنّ الشارع المقدّس صرّح بجواز أخذ الأجرة على واجب معيّن (كالصلاة الاستيجارية، أو الحج النيابي، أو غسل الميت)، فهل هذا التصريح معارض للقرآن و السنّة؟ من الواضح أنّه لا يوجد تعارض كهذا؛ لأنّه لم يُقم دليل على الملازمة بين «الوجوب» و«حرمة الأجرة» في جميع الموارد.
و عليه، فإنّ الاستدلال بـ «أكل المال بالباطل» لنفي الأجرة على الواجب، ليس تامّاً من وجهة نظر الإمام الخميني.
تبيين الإمام الخميني لمفهوم «أكل المال بالباطل»
لتوضيح المسألة، يضرب الإمام الخميني مثالاً بآيتين شريفتين:
۱. ﴿أحلّ الله البیع و حرّم الربا﴾[2]
۲. ﴿لا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل﴾[3]
يقول الإمام الخمیني:
في الآية الأولى، المراد من «البيع» هو البيع العرفي، و ليس البيع الشرعي؛ لأنّه لو قيل: «أحلّ الله البيع الشرعي»، لكان تحصيلاً حاصلاً. و المقصود هو أنّ المعاملات الرائجة بين الناس التي يعدّها العرف «بيعاً» هي محلّلة شرعاً، إلا في موارد الاستثناء.
و بالمقياس نفسه، في الآية الثانية، المراد من «الباطل» هو الباطل العرفي و ليس الباطل الشرعي. أي: لا تتصرفوا في أموال الناس بالطرق التي يعدّها العرف غير صحيحة، أو ظالمةً، أو غير عادلة.
أمّا حرمة التصرّف في الأموال من طرق مثل القمار أو الربا أو بيع الخمر، فيُستفاد من دليل آخر، و هو قاعدة: «إنَّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»؛ و ليس من آية «لا تأكلوا أموالكم بالباطل».
إذن، «أكل المال بالباطل» يتعلّق بالباطل العرفي، و ليس بالباطل الشرعي. بناءً على ذلك، إذا كان الفعل واجباً شرعياً، فإنّ العرف لا يعدّه باطلاً، و بالتالي لا يشمله «أكل المال بالباطل».
النتيجة: هي أنّ استدلال الشيخ الأنصاري بهذه الآية لإثبات حرمة الأجرة على الواجبات، ليس استدلالاً صحيحاً من وجهة نظر الإمام الخميني.
التأكيد على التفريق بين «الباطل العرفي» و«الباطل الشرعي»
يضيف الإمام الخميني: كما أنّ المراد من «أحلّ الله البيع» هو البيع العرفي، فكذلك المراد من «لا تأكلوا أموالکم بینکم بالباطل» هو الباطل العرفي.
وعليه، فإنّ الباطل العرفي هو ما يعدّه عقلاء المجتمع ظلماً أو جوراً؛ أما المحرّمات الشرعية الخاصة (كالربا، أو القمار، أو بيع الخمر) فهي تحتاج إلى دليل شرعي خاص.
لولا أنّ الشارع قال: «حرّم الربا»، لما كان العرف بمفرده يحرم الربا. فآية «لا تأکلوا أموالکم بالباطل» لا تثبت حرمة الربا بمفردها، بل حرمته ثابتة بدليل مستقل هو «حرّم الربا».
نتيجة رؤية الإمام الخميني:
بناءً على ذلك، ومن وجهة نظر الإمام الخميني (قدّس سرّه)، بما أنّ الوجوب الشرعي لعملٍ ما لا يعني البطلان العرفي له، فلا يمكن القول بأن أخذ الأجرة عليه هو أكل للمال بالباطل. و بالتالي، فلا مانع من أخذ الأجرة على أداء الواجب في الموارد التي لم يصرّح الشارع بوجوب أدائها مجاناً.
رأي آية الله السبْحاني (سلّمه الله تعالى) تكميلاً للبحث:
يفصّل آية الله السبْحاني في المسألة بالتفريق بين ثلاث فئات من المكلّفين:
«ما استشهد به من المثال غير تام لجريان ما ذكرنا في العبد أيضاً، لأنّه لو كان العبد في مقام الطاعة مطلقاً عدّ البذل معاملة سفهية، لكن لو كان محتمل الطاعة و العصيان فلا يعد ذلك معاملة سفهية. و أمّا ذم المولى عبده لأخذ الأُجرة فلأجل شهادة القرائن على أنّه طلب منه العمل بقيد مجّانيته و إلا فلا يستحق الذم أيضاً.»[4]
الأفراد العُصاة: هم الذين يتركون الواجب. إذا دُفع لهؤلاء مال لأداء واجبهم، فهذه المعاملة ليست سفهيّةً؛ لأنّ دفع المال يشجّعهم على القيام بالواجب الشرعي.
الأشخاص غیر المـُبالین: الذين يؤدّون الواجب أحياناً و یترکونه أخرى. تشجيعُهم الماليّ على أداء الواجب صحيح و لا يُعتبر معاملةً سفهيّةً في حقّهم.
الأفراد المـُطيعون: الذين يؤدّون الواجب دائماً. إذا دُفع لهم مال لأداء نفس الواجب، فقد تبدو هذه المعاملة بلا وجه من نظر العرف، و قد تُعتبر «معاملة سفهيّة»، و لكنها ليست باطلةً فقهيّاً؛ لأنّه يوجد قصد التعاون على البر و التقوى، فلا يمكن اعتبارها باطلةً.