« قائمة الدروس
بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/04

بسم الله الرحمن الرحیم

رفع منافاة الإخلاص مع أخذ الأجرة/التكسب بالواجبات /المكاسب المحرمة

 

الموضوع: المكاسب المحرمة/التكسب بالواجبات /رفع منافاة الإخلاص مع أخذ الأجرة

خلاصة الجلسة الماضية: كان موضوع النقاش الفقهيّ حول أُجرة الواجبات. يُطرَح سؤال هنا: هل یجوز للإنسان أن یأخذ أجراً مقابل أداء واجب مُكلَّف به. فمثلاً، هل يجوز أن يُستأجَر لأداء صلاة الظهر الواجبة أو دفن الميّت الذي هو واجبٌ عليه، ويأخذ مقابله مالاً؟

إشكال مُنافَاة الأجرة للإخلاص

قد تقع هذه الواجبات في أنواع مختلفة كالوجبات العينيّة أو الكفائيّة أو التخييريّة. و المسألة هي في أنّ أخذ الأجرة مقابل أداء الواجب هل يُعدُّ شرعاً من أكل المال بالباطل فلا یجوز أو لیس منه فیجوز؟

إحدى النقاط المهمّة التي ناقشها العلماء في هذا السياق هي مسألة مُنافَاة الأجرة للإخلاص. يُطرح هذا الإشكال: إذا كان الهدف من صلاة الظهر التقرّب إلی الله و القيام بها لله تعالى، فإذا وُعِدَ الشخص بمبلغ مالي (مثلاً مليون)، فإنّ قصد الإخلاص قد زال و لا یأتي المصلّي بالصلاة «قربةً إلى الله»، بل یصلّیها لتحصيل ذلك المال.

وقد قيل: «أخذ الأُجرة علىٰ‌ القدر الواجب ینافي المأمور به كتاباً و سنّةً».[1]

دراسة نسبة الأجرة و قصد القربة:

بحث العلماء في أنّ الأجرة تأتي في طول قصد القربة أو في عرضه.

نطاق الإشكال: هذا الإشكال في أُجرة الواجبات لا يقتصر على العبادات المحضة (التعبديات)، وإن كان السؤال يُطرح في التعبديات حول تحقق قصد القربة لمن يأخذ المال أم لا. لكن بحث أُجرة الواجبات يشمل الواجبات العينية والكفائية والتوصّلية والتعبّدية. وإشكال مُنافَاة الإخلاص لا يُطرح إلا في الواجبات التعبّدية.

     إذا كانا في العرض، فيجب وجود إحداهما و لا يمكن أن يجتمعا معاً.

     إذا كانا في الطول، فلا مُنافَاة بین أن يأخذ الشخص الأجرة و يقصد القربة في آن واحد.

نطاق الإشكال: هذا الإشكال في أُجرة الواجبات لا يقتصر على العبادات المحضة (التعبّديات) و إن كان السؤال يُطرح في التعبديات حول تحقق قصد القربة لمن يأخذ المالَ أم لا. لكن بحث أُجرة الواجبات يشمل الواجبات العينيّة و الكفائيّة و التوصّلية و التعبّدية. نعم إشكال مُنافَاة الإخلاص لا يُطرح إلا في الواجبات التعبّدية.

الردّ على الإشكال: تأكيد الإخلاص:

طرح بعض العلماء رأياً مفاده أنّ الأجرة لا تُنافِي الإخلاص فحسب، بل تؤكِّدُه (يَتَأَكَّدُ الإخلاص).

يقول السيد العاملي (رحمه الله): «إنّ تضاعف الوجوب يؤكّد الإخلاص».[2]

و يقول كاشف الغطاء (رحمه الله): «إنّ الالتزام بالإجارة يؤكّد القربة فيها كما يؤكّده النذر و العهد و سائر الالتزامات كما أكّدت إجارة الحجّ قربته و الظاهر أن النّيابة عن نوّابهم نيابة عنهم لا عن النوّاب فلا تكون عن الحي».[3]

أدلة تأكيد الإخلاص:

هذه الحالة تشبه الشخص الذي يكون متکاسلاً في أداء واجبٍ ما، فيقوم بالنذر (كأن ينذر كفارةً لعدم أداء الصلاة في أوّل وقتها) لتقوية دافعه و إلزامه بأداء ذلك الواجب حتماً و في وقته.

في بحث الأجرة على الواجبات التعبّدية (كصلاة الظهر بقصد القربة):

     متعلَّق الإجارة هو أمر عبادي ليس توصّلیاً (ككنس المسجد أو إزالة النجاسة).

     إذا كانت الإجارة مُتعلِّقةً بصورة ظاهرية لا تحتاج إلى قصد القربةكالتنظيف، فلا إشكال.

     أمّا إذا استُؤجِر لأداء واجب تعبّدي كالحج أو الصلاة الاستئجارية، فهو يعلم أن العمل بدون قصد القربة باطل.

تقویة الإخلاص لدى المؤمن المتعهِّد

بعض الأشخاص (الأشخاص المتدينون و المتعهِّدون) عندما يُستأجَرون لغيرهم و يأخذون مبلغاً كبيراً (مثل ثلاثمأة مليون تومان للحج)، فإنّهم يزيدون من قصد القربة و الإخلاص لديهم. هذا الازدياد يكون بسبب الشعور بالمسؤولية لبرء الذمة؛ فهم يعلمون أنّهم إذا أتوا بالعمل ریاءاً أو لم يكن لديهم إخلاص، فإنّ حجهم أو صلاتهم باطلة و لن تبرأ ذمتهم؛ لذلك «يَتَأَكَّدُ الإخلاص للمؤمن المتعهِّد» هؤلاء الأشخاص يبذلون دقّةً أكبر في أداء المهمّة الموكّلة إليهم ممّا يبذلونه في أداء واجباتهم الشخصيّة.

أمثلة الأمانة والتعهُّد:

يُدعَّم الاستدلال السابق بأمثلة:

     الشخص يحتاط في حفظ سيّارة استعارها أكثر ممّا يحتاط في سيّارته الشخصيّة.

     في حفظ طفلٍ مُستعار (أمانة)، يراقب أكثر من ابنه الخاص.

الشخص المتعهِّد و المؤمن إذا أخذ شيئاً على ذمّته، فإنه يُولّيه اهتماماً أكبر من ماله الشخصي.

الوجوب العيني و الاستئجاري

في مورد الواجبات الاستئجاريّة (للغير)، يكون تأكيد الإخلاص أوضح. أمّا في مورد الواجب العينيّ الشخصيّ (مثل صلاة ظهر الفرد نفسه) إذا قال له والده: «إن صلّيتَ أعطيتُك مليوناً» فهذا المال حلال بشرط أن تُؤدَّى الصلاة بقصد الإخلاص و القربة.

إذا أتى الصلاة ریاءاً، صار ذلك المليون حراماً.

متعلَّق أمر الإجارة (الصلاة) هو أمرٌ عبادي و الشخص المتديّن يعلم أنّه يجب أن يُؤدي الصلاة بقصد القربة. و اختيار القلب بيد الشخص نفسه؛ يمكنه أن يقصد الإخلاص أو لا يقصده.

الإشكال الثاني: نسبة الأمر التوصلي و التعَبُّدي

إشكال آخر يُطرح و هو:

     «أوفوا بالعقود» هو أمر توصلي.

     «صَلِّ مع القربة» هو أمر تعبّدي.

     كيف يمكن لأمر توصّلي (الوفاء بالعقد) أن يؤكِّد أمراً تعبّدياً (الصلاة بقصد القربة)؟

الردّ على الإشكال: الردّ هو أن متعلَّق أمر «أوفوا بالعقود» في هذا المورد له حیثیّة تعبّدية أيضاً.

     لأنّ العقد الذي عُقد فهو مُتعلَّق بالصلاة و أدائها بشكل صحيح (أي بقصد القربة).

     صحيح أن أمر «أوفوا بالعقود» يمكن أن يكون توصّلياً بشكل عام، إلا أنه في هذه الحالة الخاصة (إجارة الصلاة) حیث أنّ متعلَّقه هو الصلاة، فإنّ متعلَّقه هو أيضاً تعبّدي.

     و عليه، يأتي أمر تعبّدي (الوفاء بعقد الصلاة) ليؤكد أمراً تعبّديّاً آخر (قصد القربة في الصلاة). و هذا يشبه النذر من أجل أداء واجب بشكل أفضل و أسرع.

الخلاصة النهائية و تأييد الأكابر

الحل الأساسي للمشكلة هو أنّ الإخلاص و قصد القربة أمر قلبي يقع في حوزة اختيار الشخص نفسه.

     يمكن للشخص أن يخلّص قلبه لله أو لا يخلصه.

     بناءً على ذلك، فإن الأجرة لا تُنافِي الإخلاص، لأنّ اختيار القلب بيد الشخص.

     نحن نركّز بحثنا على الشخص المتديّن و المتعهِّد؛ بالنسبة لهؤلاء الأفراد، الأجرة لا تُنافِي الإخلاص فحسب، بل تؤدي إلى تأكيد الإخلاص و تشديده من أجل براءة الذمة.

و قد أشار المرحوم الإمام (رحمه الله) إلى المطلب نفسه، و كان يوافق على تأكُّد الإخلاص. وقد استعمل تعبير «تضاعف الوجوب»؛ بمعنى أنّ الوجوب يتضاعف و يشعر الإنسان المتعهِّد بثقل أكبر على عاتقه.[4]

الحاصل:

نستنتج أنّ إشكال مُنافَاة الأجرة للإخلاص ليس إشكالاً صحيحاً و وجود قصد الإخلاص مع استلام الأجرة ليس أمراً محالاً. الإنسان المتدين سيؤدّي صلاته الواجبة حتى لو لم يُعطَ مالاً. و لكن إذا استلم مالاً، فإنّ هذا الأمر قد يؤدي إلى مزيد من الدقّة و الإخلاص.


logo