46/10/09
بسم الله الرحمن الرحیم
لزوم تدارك انخفاض القیمة/التضخّم و انخفاض قیمة النقد /فقه النقد
الموضوع: فقه النقد/التضخّم و انخفاض قیمة النقد /لزوم تدارك انخفاض القیمة
خلاصة الجلسة السابقة: موضوع البحث الذي قد طُرح في الفقه المعاصر، يتعلّق بالتضخّم و انخفاض قيمة النقود و أنّه هل يشمل هذا الانخفاض الضمانَ أم لا و هل هناك ضمان أم لا؟ و هذه مسألة يواجهها الیوم کثیر من الناس؛ لأنّ قيمة النقود تنخفض في زماننا الحاضر. و السؤال المطروح الآن: هل يُعدّ هذا النقص في قيمة النقود مشمولاً بالضمان أم لا؟ في هذا الموضوع، يوجد اختلاف كبير بين العلماء؛ فریقٌ يرى أنّ انخفاض قيمة النقود یشمله الضمان، بينما يرى الفريق الآخر أنّه لا یشمله الضمان. قد قدّمنا في الأبحاث السابقة أدلّةً تُثبت أنّ انخفاض قيمة النقود یشمله الضمان. و لكن في الأيّام الأخيرة من النقاش قد طُرح موضوع الروايات و السؤال عن أنّه هل يمكن أن نفهم من خلال الروايات أنّ انخفاض قيمة النقود يوجب الضمان، أم أنّ الروايات ساکتة في هذه الأرضیّة؟
كان أحد الآراء هو أنّ الروايات لم تتطرّق أساساً إلى موضوع التضخّم؛ لأنّ النقود المتداولة في زمن صدور الروايات كانت الدراهم و الدنانير و تلك النقود لم تكن عرضةَ للتضخّم و ذلك بسبب ثبات قیمتها. كانت للدراهم و الدنانير قیمة ثابتة، و رغم أنّه ربّما حدث النقصان و الزیادة في قيمتها في بعض الحالات، إلّا أنّ تلك التغیيرات لم تكن بحیث تُحدث فرقاً أساسیّاً. هذا هو أحد الآراء.
و لكن في المقابل، هناك روايتان صحيحتان ناقش فیهما العلماء و تجب دراسة ما يمكن أن يُستفاد منهما. و أهميّة هاتين الروايتين في أنّ كلتيهما صحيحتان منقولتان عن الإمام الرضا (عليه السلام) و السائل فيهما هو يونس و الراوي كذلك واحد و الأسئلة متشابهة أیضاً، لكن الأجوبة تبدو مختلفةً بل متعارضةٌ في ظاهرها. كيف يمكن أن يطرح سائل واحد على إمام واحد سؤالاً مشابهاً في مناسبتين مختلفتين و يحصل على إجابتين مختلفتين بل متناقضتين في الظاهر؟
الروایة الأولی: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ[1] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى[2] عَنْ يُونُسَ[3] قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام أَنَّ لِي عَلَى رَجُلٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَ كَانَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ تَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ تِلْكَ الْأَيَّامَ وَ لَيْسَتْ تَنْفُقُ الْيَوْمَ فَلِي عَلَيْهِ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ بِأَعْيَانِهَا أَوْ مَا يَنْفُقُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيَّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا أَعْطَيْتَهُ مَا يَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ».[4]
الآن تفضّلوا أنتم - أيّها الأفاضل- و أجيبوا: ما معنى قول الإمام: «لَكَ أَنْ تَأْخُذَ»؟ هل تفيد هذه العبارة الوجوب أم الجواز؟ يبدو أنّ معناها هو الجواز؛ أي أنّ لك الخيار، فبإمكانك أن تطلب الدراهم القديمة نفسها و تقول: أريد نفس النقود التي أعطيتُك إيّاها أو أن تقول: أريد النقود الجديدة، لأنّ النقود القديمة لم تعد نافعةً لي. قوله: «لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ» يدلّ على أن لك الحقّ و الاختيار فبإمكانك أن تطلب النقود القديمة أو النقود الجديدة الرائجة بين الناس. هذه العبارة لا تدلّ على الوجوب، بل تدلّ على الجواز؛ أي أنّ الدائن له الخيار، فله أن يقول: أريد نفس النقود التي أعطيتُك إيّاها و كانت متداولةً آنذاك أو يقول: أعطني النقود الجديدة المتداولة الآن.
لا يُستفاد من هذه الرواية الوجوب، بل يُفهم منها الجواز؛ أي أنّ للدائن الخيار، فله أن يطالب بالنقود الجديدة أو يطلب النقود القديمة. قد يحدث أحياناً أن ترتفع قيمة النقود القديمة بعد خروجها من التداول فتصبح أكثر قيمةً. و في هذه الحالة يمكن للدائن أن يقول: أريد النقود القديمة نفسها أو إذا كانت النقود الجديدة أكثر قيمةً فبإمكانه أن يقول: أعطني النقود الجديدة. إذن يُفهم من هذه الرواية أنّ للدائن أن يختار بين النقود المتداولة حاليّاً أو النقود التي سبق أن أعطاها للمدين.
قد أشار آية الله الشاهرودي (رحمه الله) في مقالة له نُشرت في مجلّة أهل البيت عليهمالسلام (السنة الأولى، العدد الثاني) إلی هذه الرواية و كان ما یستفید منه هو أنّ الواجب في أداء الدين هو دفع النقود المتداولة و المدین یضمن النقود الرائجة. و الآن علیکم أيّها الأفاضل الإجابة عن هذا الرأي: هل یُفهم من هذه الرواية أنّ الضمان يقتصر فقط على النقود الرائجة و أنّ الدائن لا يملك المطالبة بالنقود القديمة؟ هل تدلّ الرواية على وجوب دفع النقود الرائجة، أم أنّ مدلولها هو الجواز؟ إنّ القول بأنّ الضمان يختصّ بالنقود الرائجة معناه أنّ الدائن لا يمكنه أن يطالب بالنقود القديمة، بل عليه أن يقبل النقود الجديدة فقط. و سؤالي هو: هل هذه الرواية تدلّ على الوجوب أو على الجواز؟ ماذا یضمن الدائن؟ هل هو ضامن للنقود الرائجة فقط أو النقود الجدیدة هکذا أو يشمل الضمان کلتیهما؟ نحن فسّرنا عبارة «لَكَ أَنْ تَأْخُذَ» على أنّها تفيد الاختيار؛ أي أنّ للدائن أن يطلب النقود القديمة أو الجديدة. و لكن آية الله الشاهرودي يقول: لا، الضمان لیس إلّا بالنقود الرائجة و لا ضمان للنقود القديمة. هذا هو الإشكال الأوّل المطروح من عنده. و الإشكال الثاني يرتبط برواية أخرى مشابهة لهذه الرواية و لكنّ الإجابة عنها مختلفة.
الروایة الثانیة: «محمّد بن الحسن الصفّار[5] عن محمّد بن عيسى[6] عن يونس[7] قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام إنّه كان لي على رجل دراهم و إنّ السلطان أسقط تلك الدراهم و جاءت دراهم أغلى من تلك الدراهم الأولى و لها اليوم وضيعة فأيّ شيء لي عليه، الأولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: الدراهم الأولى».[8]
تفضّلوا بالنظر بدقّة في هذه الرواية. يونس يقول: كانت لي على رجل دراهم، كما في الرواية السابقة. فهل هذا دين (قرض) أم ثمن مبيع؟ قال بعض العلماء إنّ الرواية الأولى تتعلّق بالقرض و الرواية الثانية تتعلّق بثمن المبيع، و لكن لا يوجد أيّ دليل صريح على هذا التمایز؛ لأنّ كلتا الروايتين جاء فيهما نفس التعبير «لي على رجل دراهم» فلا يوجد فرق بینهما.
في هذه الرواية، قام السلطان بإسقاط الدراهم القديمة و استبدلها بدراهم جديدة تبدو في الظاهر أفضل. الآن، السؤال المطروح هو: الضمير في «لها» في الرواية، إلى أيّة دراهم يعود؟ هل يشير إلى الدراهم القديمة، أم إلى الدراهم الجديدة؟ بعضهم يقول: إنّ الضمير يعود إلى الدراهم القديمة و آخرون يرون أنّه يعود إلى الدراهم الجديدة. إنخفاض القيمة الذي وقع، بأيّة الدراهم یتعلّق بالقديمة أم بالجديدة؟ هل التي فقدت قيمتها هي الدراهم السابقة أم الجدیدة؟
يوجد احتمالان: إذا كان نقصان القيمة متعلّقاً بالدرهم الجديد، فإنّ الإمام يقول: خذ الدرهم السابق؛ لأنّ قيمته أعلى. أمّا إذا كان نقصان القيمة متعلّقاً بالدرهم السابق، فإنّ الإمام يقول أيضاً: خذ الدرهم السابق؛ أي اقبل النقد القلیل قیمةً و لا تأخذ النقد الجديد. و هنا يقع التعارض بين الروايتين. محور بحثنا هو: هل يجب تدارك انخفاض قيمة النقد أم لا؟ و هل التدارك واجب أم جائز؟ قد استفدنا من الرواية الأولى أنّ للدائن الخيار فله أن يقول: أريد النقد الذي له قيمة أكثر. و في هذه الرواية أيضاً يبدو أنّ للدائن الخيار فله أن يقول: إذا كانت قيمة الدرهم السابق أكثر، فأنا أطلبه. و هذا الفهم متّفق مع الرواية الأولى و لا یسبّب تعارضاً بينهما. لكن إن نُعید ضمير الهاء في «لها» إلى الدراهم الجديدة، فالمسألة تتغيّر؛ فنحن نفسّر «لها» بالدراهم الجدیدة بقرینة الروایة الأولی؛ أي أنّ الدرهم الجديد أجمل، لكن قيمته أقلّ و عياره مختلف.
نعم لو لم نأخذ الرواية الأولى بعين الاعتبار، لكان من المحتمل أن نقول إن الضمير في «لها» يعود إلى الدراهم السابقة و أنّ الدرهم السابق قد انخفضت قيمته. و لكن بما أنّ السائل و الراوي و الإمام في كلتا الروايتين أشخاص واحدة و كلتا الروايتين صحيحتان، فلا بدّ من تفسیرهما على نحو لا يؤدّي إلى تعارض بينهما. فإذا نسبنا الضمیر في «لها» إلى الدراهم الجديدة فإنّ الرواية الثانية تقول: خذ الدرهم السابق؛ لأنّه أكثر قيمةً و هذا یتّفق مع الرواية الأولى التي تعطي الخيار للدائن. لكن كون الدرهم الجديد «أعلى» لا يعني بالضرورة أنّ له قيمةً أكبر؛ فقد يكون مظهره أجمل و لكن عياره أو وزنه أقل. مثلًا، قد يكون الدرهم السابق من ذهب خالص و له قيمة أعلى، بينما الدرهم الجديد ذو مظهر جميل، لكن قيمته الحقيقيّة أقل.
الشيخ الطوسي (رحمه الله) حاول رفع التعارض بإضافة كلمة «قيمة» إلى الرواية الثانية، فقال: «خذ قيمة الدرهم السابق»؛ أي احسب قيمة الدرهم السابق و خذ ما يعادلها من النقد الجديد.
و هذا رأي جيّد، إلّا أنّ صاحب الحدائق اعترض عليه و قال: لا يوجد دليل على إضافة كلمة «قيمة» و إنّ هذا المضاف لم يُحذف في الرواية.
و قدّم المرحوم الشيخ الصدوق (رحمه الله) أيضاً وجهاً آخر للجمع بين الروايتين فقال: «وَ الْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فَمَتَى كَانَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ دَرَاهِمُ بِنَقْدٍ مَعْرُوفٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ النَّقْدُ وَ مَتَى كَانَ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَرَاهِمُ بِوَزْنٍ مَعْلُومٍ بِغَيْرِ نَقْدٍ مَعْرُوفٍ فَإِنَّمَا لَهُ الدَّرَاهِمُ الَّتِي تَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ».[9]
في الرواية الأولى كان المعيار هو رواج العملة و لهذا قال الإمام: خذ النقد الرائج. أمّا في الرواية الثانية فالمعيار هو الوزن فقال الإمام: خذ الدرهم السابق، أي خذ ما يعادل وزنه. و لكن صاحب الحدائق رفض هذا الجمع أيضاً و قال: لا توجد في الروايات أيّة قرينة تدلّ على هذا التمایز.
كما أنّ للمرحوم محمّد تقيّ المجلسيّ في روضة المتقين رأیاً آخر، حيث فرّق بين الدين و ثمن المبيع. فقال: الرواية التي تقول «خذ النقد الجديد» هي في مورد يكون فيه الطب متعلّقاً بثمن المبيع؛ أمّا إذا كان الطلب متعلّقاً بالدين، فبما أنّ الربا يتصوّر في القرض فلا بدّ من ردّ نفس النقد السابق.
لكن صاحب الحدائق ردّ هذا الرأي أيضاً و قال: لا توجد في الروايات أيّة قرينة تدلّ على هذا التمایز. أمّا هو نفسه – أي صاحب الحدائق – فقد جمع بين الروايات بالتقيّة، لكن هذا الجمع أيضاً لا توجد عليه قرينة تدلّ في نفس الروايات.