< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/08/02

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس مائة وخمسون: إشكالان على جواب المشهور على البيان الثالث للاستحالة

 

كان الكلام في البيان الثالث على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر، ومفاد البيان الثالث: إن الأمر إذا تعلق بالفعل بقصد امتثال الأمر أصبح المكلف عاجزاً عن الفعل بقصد امتثال الأمر فيكون أمراً بغير المقدور.

والسر في ذلك:

إن ذات الفعل غير متعلق بالأمر ومتعلق الأمر هو المركب من ذات الفعل وقيد قصد امتثال الأمر، فكيف يستطيع المكلف أن يأتي بذات الفعل ثم يقصد امتثال الأمر فالأمر إنما تعلق بالمجموع أي مجموع الفعل وقصد امتثال الأمر بنحو التركيب أو التقييد.

وهنا أجاب المشهور على البيان الثالث للاستحالة، وقالوا: بأن ذات الفعل وإن لم متعلقاً للأمر الاستقلالي ولكن قد تعلق به الأمر الضمني فالأمر الاستقلالي ينحل إلى عدة أوامر ضمنية بعدد الأجزاء والقيود الداخلة في المأمور به.

وحيث أن الأمر الاستقلالي الواحد قد انحل إلى أوامر ضمنية بعدد الأجزاء والقيود فيصح للمكلف أن نأتي بالفعل كذات الصلاة بقصد امتثال الأمر الضمني و يقصد امتثال الأمر فيكون قد حقق القيد الآخر ويتم العمل.

إلى هنا واضح درس اليوم يبدأ من الآن، وقد توجه اعتراضان وإشكالان على جواب المشهور:

الإشكال الأول مردودٌ والإشكال الثاني قوي لكنه قابل للرد أيضاً.

الإشكال الأول إن جواب المشهور مبني على القول بأن الأمر الاستقلالي الواحد المتعلق بالمركب ينحل إلى حصص وقطع ضمنية من قبيل انحلال البياض الموجود في الورقة عندما تقطع الورقة، لكن هذا الانحلال غير صحيح لأن المركب والمقيد لا يكون متعلقاً إلا لأمرٍ استقلالي واحد فالأمر لا يتوجه إلى المركب إلا إذا ألبس المركب ثوب الوحدة ولو في عالم الذهن والاعتبار بأن اعتبره الذهن وجعل له صورة ذهنية واحدة فالأمر واحد وقد تعلق بصورة ذهنية واحدة فإذا ألبس الذهن المركب ثوب الصورة الواحدة تعلق به الأمر.

فلو كان المركب قد أخذ متعدداً بلحاظ أجزائه وحصصه لما صح أن يتعلق به الأمر الواحد، فلمأمور به إذا كان مركباً وقد لوحظت أجزاء المركب المتعددة فحينئذ لا يعقل أن يتعلق الأمر الواحد بمأمورات وحصص متعددة. نعم، إذا ألبس المركب الواحد ثوب الوحدة ولو لأمر اعتباري كالصورة الذهنية التي تعكس ذلك المركب فحينئذ يصح أن يتعلق الأمر بالمركب بما هو واحد لا بما هو متعدد.

فالتزام بانحلال الأمر الاستقلالي إلى أوامر ضمنية متعددة يتنافى مع مبدأ أن الأمر واحد ولا يتعلق بالمأمور إلا إذا لوحظ المأمور كشيء واحد وألبس لباس الوحدة ولو اعتباراً.

واضح الإشكال؟!

وجوابه: إن القائل بانحلال الأمر الاستقلالي إلى أوامر ضمنية متعددة لا يلتزم بتعدد حصص الوجوب بلحاظ أفق الاعتبار والصورة الذهنية بل بلحاظ محكي الصورة الذهنية وهو الواقع الخارجي.

بيان ذلك:

عندنا صورة ذهنية واحدة وقد تعلق بها أمر الاستقلالي الواحد لكن هذه الصورة الذهنية الحاكية لها محكي في الخارج، وهذا المحكي في الخارج له حصص متعدد بعدد أجزاء المركب والقيود التي أخذت فيه.

فالمشهور يلتزم أن الأمر واحد ويتعلق بصورة ذهنية واحدة هي الملحوظة بالذات لا بالعرض لكن هذه الصورة الذهنية الملحوظة بالذات لم يتعلق بها الحكم بما هي هي وبما هي صورة ذهنية بحتة، بل تعلق بها الأمر بما هي حاكية عن مركب خارجي له أجزاء وقيود متعددة ومتنوعة، فالوجوب واحد بلحاظ الصورة الذهنية الحاكية الملحوظة بالذات، لكن هذه الصورة الذهنية الحاكية لها محكي وهو الواقع الخارجي الذي فيه قيود متعددة.

فالقائل بالانحلال لا يرى أن وجوب يتعدد بل الوجوب واحد لكن هذا الوجوب الواحد للصورة الواحدة لم يتعلق بالصورة بما هي هي بل بما هي حاكية عن المحكي وهو الواقع الخارجي الذي له صور متعددة وقيود متعددة.

إذاً الملحوظ بالنسبة إلى الأمر الصورة الواحدة، الملحوظة بالذات، والانحلال بلحاظ المحكي الذي هو ملحوظ بالعرض لا الصورة الذهنية التي هي ملحوظة بالذات.

واضح الجواب؟

إذاً الصورة الذهنية التي فرضت واحدة إنما صارت معروضة للحكم بلحاظ فنائها في الخارج بداهة أن المولى لا يوجب علينا صورته الذهنية بما هي فالمولى إنما يوجب تلك الصورة يراها كأنها العمل الخارجي، وبهذا النظر يرى أن لها قطعاً وأجزاء فهي وإن فرض عروض ثوب الوحدة عليها في عالم الذهن والاعتبار فاستطاعت أن تقبل حكماً واحداً بلحظ الصورة الذهنية.

ولكن في نفس الوقت إنما أوجبها المولى بلحاظ أنها ترى كأنها العمل المركب الخارجي فهي بلحاظ المحكي والمكشوف متعددة، وحيث إنها كانت معروضة للوجوب بلحاظ المكشوف والمحكم فبهذا اللحاظ ينبسط الوجوب ويتعدد وينحل بانحلال معروضه تبعاً، ولهذا يسمى بالانحلال لا بالتعدد يعني الوجوب لا يتعدى الوجوب واحد.

نعم، يتعدد وينحل بانحلال معروضه تبعاً فالوجوب لا يتعدد حقيقةً وإنما ينحل بلحاظ المعروض بالعرض وهو الواقع الخارجي لا بلحاظ المعروض بالذات وهو الصورة الذهنية[1] .

إذا الإشكال الأول ليس بتام.

الإشكال الثاني إن الأمر الضمني الذي يقصد امتثاله والذي فرض أنه متعلق بذات الصلاة توجد فيه احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأول تعلق الأمر الضمني بالصلاة المطلقة.

الاحتمال الثاني تعلق الأمر الضمني بالصلاة المقيدة.

الاحتمال الثالث تعلق الأمر الضمني بالصلاة المهملة.

فهنا ثلاث ماهيات: الماهية المطلقة أو الماهية المقيدة أو الماهية المهملة.

وعلى هذه الاحتمالات الثلاثة لا يتم المطلوب.

أما الاحتمال الأول وهو الماهية المطلقة فهو غير معقول ويلزم منه الخلف لأن الواجب الضمني إذا كان هو الصلاة المطلقة كان معنى ذلك تحقق الواجب الضمني في ضمن غير المجموع لأن المطلق ينطبق على الجزء لا في ضمن المجموع، وهذا خلف قانون الارتباط بين الواجبات الضمنية.

خلاصته:

نحن نلتزم بوجود مركب من جزئين: الصلاة الجزء الأول والجزء الثاني قصد امتثال الأمر فتكون ذات الصلاة جزءً من المركب فإذا قلنا بالاحتمال الأول وهو أن المراد بالصلاة الصلاة المطلقة يعني غير مقيدة الصلاة المطلقة تكون مستقلة لا تكون ضمن مركب فالاحتمال الأول غير معقول لأنه يلزم منه خلف الفرض أنت تفترض أن الصلاة ضمن المركب فكيف تلتزم بأنها هي الصلاة المطلقة؟!

الاحتمال الثاني الصلاة المقيدة، وهذا يلزم منه التسلسل.

بيانه:

إن ذات الصلاة لا أمر لها لكي يقصد وإنما تعلق الأمر بالصلاة المقيدة بقصد امتثال الأمر، إذا الأمر تعلق بالصلاة المقيدة بقصد امتثال الأمر ومرجع ذلك إلى تقيد وذات المقيد فأصبح مركباً فالمقيد هو ذات الصلاة والقيد هو قصد امتثال الأمر؟

وهنا نأتي إلى المقيد ذات الصلاة، هنا هل ذات الصلاة مطلوبة بما هي هي أو بما هي مقيدة بقصد امتثال الأمر؟

الجواب: ذات الصلاة بما هي هي ليست مطلوبة، وإنما هي مطلوبة بتقييدها فننقل الكلام إلى الأمر المتعلق بذات المقيد لنرى أن الأمر هل تعلق بالمقيد المطلق؟ الصلاة المطلقة أو تعلق بالصلاة المقيدة، وهكذا فيلزم التسلسل.

الاحتمال الثالث فرض تعلق الأمر الضمني بالصلاة المهملة، وهذا معقولٌ فلا يرد عليه عدم معقولية الإهمال في عالم الثبوت فيقال: لا يعقل أن المولى لا يعرف ماذا يصنع فهو إما يريد المطلق وإما يريد المقيد.

فإن الجواب على ذلك أنه ليس المراد هو الإهمال بلحاظ الواقع كليةً ففي الواقع الآمر لابد أن يكون في صقع الواقع لديه قصد معين فبحسب الواقع المولى لا يهمل.

لكن الكلام في أن الوجوب النفسي الاستقلالي الواقعي ليس مهملا في الواقع بل أخذ فيه بعض القيود فيكون المراد بالإهمال الإهمال بلحاظ مرتبة من مراتب الواقع وليس الإهمال بلحاظ الواقع كليةً.

والخلاصة:

فرض الماهية المهملة معقولٌ إذا أريد به الماهية المهملة في مرتبة من مراتب الواقع، لا الماهية المهملة بلحاظ الواقع كليةً.

لكن يرد هذا الإشكال وهو أن المهمل في قوة الجزئية والمقيدة فيعود إشكال الدور الوارد في الاحتمال الثاني، ولا يمكن للمكلف أن يقصد الأمر بذات الأمر لأن قصد الصلاة المهملة يعود إلى الصلاة المقيدة بلحاظ مرتبة من مراتب الواقع، والواجب المهمل لا ينطبق على ذات الصلاة بل ينطبق على المقيد فقط فنقع يصير الاحتمال الثالث يرجع إلى الاحتمال الثاني ويقع الإشكال.

لكن الشهيد الصدر ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ أجاب على هذا الإشكال على مبناه وهو التفرقة بين الإهمال في عالم التصور والإهمال في عالم التصديق فقال بالتفرقة بينهما وأن المهمل في قوة الجزئية في عالم التصديق لا في عالم التصور، وأما في عالم التصور فالمهملة في قوة المطلقة، فلا يرد الإشكال، وهذا بحث يبحث عند بحث الإطلاق والتقييد، والشهيد الصدر يبني على أن المهمل في عالم التصور في قوة المطلق لا في قوة المقيد وأسماه بالإطلاق الذاتي، والمهملة تكون في قوة الجزئية والمقيدة في خصوصاً في القضايا التصديقية لا القضايا التصورية وأما التصور المهمل فهو في قوة المطلق تصور فيه إهمال إهمال للقيود يعني ماذا؟ مطلق.

وقد ذكر الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ إن مقدمات الحكمة دائماً تثبت هذا المهمل الجامع بين المطلق والمقيد المسمى اللا بشرط المقسمي وهذا لا يلزم منه خرق قانون الضمنية والارتباط، خرق قانون الضمنية والارتباط يلزم لو التزمنا بالإطلاق اللحاظي بأن يقول مثلاً الواجب هو الركوع سواء سجدت أو لا، فبهذا الإطلاق يرفض دخل القيد هذا ينافي الضمنية والارتباط.

وأما الإطلاق الذاتي في مقابل الإطلاق اللحاظي، الإطلاق الذاتي يكفي فيه الإهمال ولا ينافي الضمنية.

الخلاصة:

يمكن الإتيان بالصلاة بلحاظ قصد امتثال الأمر الضمني المتعلق بذات الصلاة لو حملنا الصلاة على الصلاة المهملة ولا تكون هذه الصلاة المهملة في قوة الجزئية بل تكون مطلقة بالإطلاق الذاتي لا الإطلاق اللحاظي، وبالتالي لا يرد هذا الإشكال ويكون جواب المشهور جواباً صحيحاً.

ثم نعرج ونقول:

أصل البيان الثالث ليس بصحيح إذ لا توجد آية ولا رواية تقول أن قصدي امتثال الأمر لا يكون إلا إذا تعلق به الأمر، من قال؟! أحياناً أنت تقصد امتثال الأمر من خلال وجود المقدمة من دون وجود أمر أيضاً.

فقصده امتثال الأمر يتمشى في كل شيء لا يتم امتثال الأمر إلا به، ولذلك يمكن في المقدمة قصد امتثال أمر ذي المقدمة يعني أنت تتوضأ وتقصد امتثال الصلاة، فالمكلف لا يمكنه أن يمتثل الأمر المتعلق بالصلاة بقصد امتثال الأمر بدون أن يأتي بالصلاة.

ثم يقول هنا طبعاً في تقرير السيد محمود الهاشمي صفحة سبعة وسبعين الجزء الثاني وتقرير بحث أستاذ كاظم الحائري مباحث الأصول الجزء الثاني الصفحة مئة وثلاثة وخمسين يقول: فكل هذا الضوضاء والزوبعة في فنجان، وهذا التعبير لم يرد في تقرير الشيخ حسن عبد الساتر الجزء الرابع صفحة مئة وثمانية وخمسين، يقول:

نشأ بتخيل أنه لابد من فرض تعلق الأمر بالدقة بما يؤتى به بقصد امتثال الأمر.

من قال أنه لابد بالدقة أن يتعلق به الأمر أنت تأتي مقدمة كالوضوء أو الغسل أو التيمم وتقصد امتثال ذي المقدمة كالصلاة أو الحج الذي هو الطواف من دون حاجة إلى كل هذا التدقيق فأصل البيان الثالث للاستحالة ليس بتامة، المهم هو البيان الرابع دقيق وعميق لسيد المحققين الميرزا النائيني ـ رحمه الله ـ .

البيان الرابع يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.


[1] تقرير السيد كاظم الحائري، مباحث الأصول، ج2، ص151.تقرير سيدنا الأستاذ السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، ج2، ص76 و 77.وتقرير الشيخ حسن عبد الساتر، ج4، ص153 إلى 158.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo