< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/07/23

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس مائة وثمانية وأربعون: المسألة الرابعة التعبدي ما يعتبر فيه قصد القربى بخلاف التوصلي

 

المسألة الرابعة التعبدي بما ما يعتبر في الفعل قصد القربة، التعبدي ما يعتبر فيه قصد بخلاف التوصلي، وهذه المسألة الرابعة هي المسألة الأساسية في بحث التعبدي والتوصلي، فما هو مقتضى الأصل اللفظي؟ وما هو مقتضى الأصل العملي؟ فيما إذا شك في توصلية الواجب وتعبديته بالمعنى الرابع، فالمراد بالتوصلي ما لا يعتبر في مقام الفراغ عن عهدته، والمراد بالتعبدي ما يعتبر في مقام الفراغ عن عهدته قصد القربى.

ومن هنا يقع الكلام في أن الأصل هل هو التعبدية أو التوصلية؟

فهل يمكن إجراء أصل لفظي أو عملي في مقام التأمين عن خصوصية التعبدية التي يمتاز بها التعبد عن التوصلي أو لا؟

ولتشخيص الأصل ومقتضاه لابد من التدقيق والتحقيق في حاق الخصوصية التي يمتاز بها الواجب التعبدي عن الواجب التوصلي، وبعد تشخيص الخصوصية في امتياز التعبدي عن التوصلي نبحث بعد ذلك عن مقتضى الأصل اللفظي والأصل العملي.

وقد ذكر العلماء عدة وجوه للتفرقة بين الواجب التعبدي والواجب التوصلي، ولكن جميع هذه الوجوه ترجع إلى معنى إجمالي واحد وهو أن التعبدي ما لا يمكن الخروج عن عهدته إلا بأخذ قصد القربة فيه بخلاف التوصل فإنه يمكن الخروج عن عهدته من دون حاجة إلى قصد القربى، فهذا المعنى الإجمالي للتعبدي والتوصلي محفوظٌ في جميع الوجوه لكن هذه الوجوه أبرزت خصوصيات تفصيلية، ولنتطرق إلى المهم منها.

الوجه الأول يقال أن الواجب التعبدي هو ما كان الأمر فيه متعلقاً بالفعل مع قصد القربة بحيث يكون قصد القربى قد أخذ في متعلق الأمر على غرار سائر الشروط والأجزاء المأخوذ في الشيء بخلاف الواجب التوصلي وهو ما كان الأمر فيه أمراً واحداً متعلقاً بالفعل على الإطلاق سواء انضم إليه قصد القربى أو لم ينضم إليه، وهذا هو الفارق بين الواجب التوصلي والواجب التعبدي وهو أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر.

لكن مشهور المحققين من الأصوليين المتأخرين ذهبوا إلى استحالة أخذ قصد القربة قيداً في متعلق الأمر، وبناء على ذلك لم يجعلوا قصد القربة قيداً في متعلق فارق بين الواجب التعبدي والتوصلي، ومن هنا يقع الكلام في مرحلتين:

المرحلة الأولى في قصد القربى عندما يراد بالقربى قصد امتثال الأمر بالخصوص.

المرحلة الثانية الالتفات إلى سائر القصود القربية الأخرى غير قصد امتثالها مثل قصد أن يكون الفعل ذا مصلحة أو ذا ملاك أو يؤتى بالفعل بقصد كونه محبوباً عند المولى وغير ذلك من القصود.

المرحلة الأولى أن يكون المراد بقصد القربى هو قصد امتثال الأمر والمعروف بين المحققين عدم إمكان أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق، وقد برهنوا على الاستحالة بعدة بيانات نتطرق إلى بعضها.

البيان الأول ما يظهر من عبارة المحقق الشيخ الآخوند الخراساني في كفاية الأصول حيث قال بأن ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الأمر لا يمكن أن يؤخذ في متعلق الأمر[1] .

خلاصة هذا البيان دعوى أن أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر غير معقول نظراً للزوم الدور والتهافت والتناقض.

تفصيل ذلك:

إن قصد امتثال الأمر بحسب طبعه هو متأخرٌ رتبةً عن رتبة نفس الأمر باعتبار أنه لا يعقل ولا يمكن وجود قصد امتثال الأمر إلا بعد فرض وجود نفس الأمر ثبت العرش ثم النقش، فمن دون فرض وجود أمر لا معنى لفرض وجود قصد امتثال الأمر فقصده امتثال الأمر وجوده متأخرٌ رتبة عن نفس وجود الأمر.

فلو قلنا أن قصد امتثال الأمر قد أخذ في متعلق الأمر، ومن الواضح أن متعلق الأمر أسبق رتبة من الأمر فيلزم حينئذ أن يكون قصد امتثال الأمر متأخراً ومتقدماً.

أما أن قصد امتثال الأمر متأخر فلأن قصد امتثال الأمر لا يوجد إلا بعد وجود الأمر، وأما أن قصد امتثال الأمر متقدم فلأنه قد أخذ في متعلق الأمر، و متعلق الأمر متقدم رتبة على نفس الأمر، فما أخذ فيه وهو قصد امتثال الأمر متقدم أيضاً فيلزم أن يكون قصد امتثال الأمر متقدماً ومتأخر وأن يكون متوقفاً على نفسه صار قصد امتثال الأمر قد توقف على قصد امتثال الأمر.

ولنبحث النكتة الثانية فالنكتة الأولى واضحة قصد امتثال الأمر متوقف وجوداً على أسبقية وجود الأمر، وأما النكتة الثانية وهي أن قصد امتثال الأمر متقدم على نفس الأمر لأن قصدي امتثال الأمر قد أخذ في نفس الأمر.

فإذاً صار متعلق الأمر أسبق رتبة من نفس الأمر، وهذه الأسبقية فيها تفصيل، وفيها اختلاف في تفسير هذه الأسبقية.

التفسير الأول الأسبقية الوجود.

التفسير الثاني الأسبقية الطبيعية.

أما الأسبقية الوجودية فإذا التزمنا بأن الأمر مع متعلق الأمر موجودان بوجودين، وأن الإرادة ومتعلق الإرادة موجودان بوجودين فحينئذ يكون تأخر الأمر عن متعلقه من باب تأخر العارض عن معروضه لأن نسبة الأمر إلى متعلقه حينئذ هي نسبة العرض إلى محله فيكون تأخر عن المتعلق تأخراً وجودياً على حد تأخر العارض عن معروضه، فالأمر عارض والمتعلق معروض ومحل لعروض العارض فهذه أسبقية وجودية يعني وجود المعلق أسبق من وجود الأمر العارض.

الثاني الأسبقية الطبيعية فإذا إذا التزمنا بأن الأمر ومتعلق الأمر موجودان بوجود واحد لا بوجودين فالأمر ومتعلق الأمر موجودان بوجود واحد في أفق نفس الآمر كما أن الحب والمحبوب موجودان بوجود واحد في قلب نفس المحب.

وكذلك الإرادة والمراد موجودان بوجود واحد في قلب المريد فإذاً لا يتقدم متعلق الأمر والحب والإرادة على نفس الأمر والحب والإرادة في الوجود إذ كلاهما موجودٌ بوجودٍ واحد في هذا القلب وكم يشيل هالقلب؟!

ولكن المراد متقدم على الإرادة بالطبع، ومتعلق الأمر متقدم على نفس الأمر بالطبع على حد تقدم الإنسانية على زيد بالطبع، فإن الإنسان وزيد وإن كانا موجودين بوجود واحد ولكن الإنسانية متقدمةٌ طبعاً على زيد.

ومعيار وميزان التقدم بالطبع هو هذه الضابطة، وهي: كلما كان للمتأخر وجود كان للمتقدم وجود فكلما كان لزيد وجود كان للإنسانية وجود أيضاً، والعكس ليس بصحيح فليس كلما كان للمتقدم وجود كالإنسانية كان للمتأخر وجود كزيد، ففي مثال زيد والإنسان كلما كان لسيد وجود فالإنسان موجود لأن الإنسانية أعم من زيد وعبيد وعدنان وقحطان.

وهكذا في موطن بحثنا فكلما كان للأمر بالصلاة وجودٌ فلصلاة وجودٌ لا محالة في أفق نفس الحاكم والأمر إذ لا يعقل أن يؤمر بشيءٍ كالصلاة ولا يوجد هذا الشيء في ذهن الأمر والحاكم، إذاً كلما وجد الأمر بالصلاة في ذهن الأمر كانت الصلاة أسبق طبعاً في ذهن الأمر بالصلاة، والعكس ليس بصحيح فمن قال كلما وجدت الصلاة فالأمر بها موجودٌ فقد توجد الصلاة في الذهن لكن لا يؤمر بها.

إذاً إلى هنا اتضح أن سبق متعلق الأمر على نفس الأمر على أحد نحوين:

الأول السبق الوجودي إذا التزمنا بتغاير الوجود بين الأمر ومتعلق الأمر.

النحو الثاني السبق الطبعي إذا التزمنا بوحدة الوجود في أفق نفس بين متعلق الأمر وبين نفس الأمر.

على أي حال سواء قيل بالسبق لوجود أو السبق الطبعي فإن المتعلق أسبق قطعاً من نفس الأمر فمتعلق الأمر يسبق نفس الأمر إما جوداً أو طبعا.

إذا تم هذا وسلمنا بأن متعلق الأمر يسبق الأمر يأتي هنا إشكال الدور أولاً من المسلم أن قصدي امتثال الأمر متأخر رتبة ووجوداً عن نفس الأمر.

النقطة الثانية إذا أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر، والحال أن متعلق الأمر أسبق من الأمر إما وجوداً وإما طبعاً دلّ ذلك على أن قصد امتثال الأمر متقدم رتبةً على نفس الأمر لأنه قد أخذ في متعلق الأمر.

تصير نتيجة الدور هكذا قصد امتثال الأمر يتوقف على نفس الأمر والأمر يتوقف على متعلق الأمر ومتعلق الأمر يتوقف على قصد امتثال الأمر الذي أخذ فيه كشرط وقيده، تكون النتيجة النهائية: قصد امتثال الأمر يتوقف على قصد امتثال، وهذا دور يلزم منه التهاف واضح إن شاء الله.

لكن هذا البيان ليس بتام فالموقوف مغاير للموقوف عليه، وذلك بالتفرقة بين قصد امتثال الأمر الخارجي وقصد امتثال الأمر الذهني.

فالمقدمة الأولى وهي قصد امتثال الأمر على نفس الأمر يراد بذلك قصد امتثال الأمر الخارجي، بينما المقدمة الثانية قصد امتثال الأمر الذي أخذ كقيد في متعلق الأمر يراد به قصد امتثال الأمر الذهني أي قصد امتثال الأمر الذي يكون في ذهن الأمر والحاكم.

فالمتوقف مغاير للمتوقف عليه.

والخلاصة:

هناك وجودان لقصد امتثال الأمر الأول الوجود الخارجي الذي يأتي به العبد خارجاً وهو ما أخذ في المقدمة الأولى قصد امتثال الأمر خارجاً يتوقف على وجود الأمر خارجاً.

الثاني الوجود الذهني لقصد امتثال الأمر وهو وجود في ذهن المولى حينما يتصور الصلاة ويأخذ فيها قصد امتثال الأمر ويأمر بها، وهو ما أخذ في المقدمة الثانية أي أن الأمر يتوقف على المتعلق الذي أخذ فيه قصد امتثال الأمر في ذهن الآمر والحاكم.

فبالتغاير بين قصد امتثال الأمر الخارجي المتأخر وبين قصد امتثال الأمر الذهني المتقدم لا يوجد دور ولا تهافه.

ويكفي هذا الجواب للإجابة على جميع البيانات التي ستأتي لب الفكرة هو هذا قصد امتثال أمر ذهني أسبق رتبته، قصد امتثال أمر خارجي متأخر رتبته، وهذا يغني عن التعمق أكثر، وسيأتي ذلك في البيانات الأخرى فهذا التعمق بهذا المستوى يمنع البيانات الأخرى التي ستأتي.

البيان الثاني يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


[1] كفاية الأصول، حاشية أبو الحسن المشكيني، ج1، ص109.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo