< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/07/22

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس مائة وسبعة وأربعون: المقام الثاني تأسيس الأصل العملي للمسألة الثالثة

 

والتحقيق أن الأصل العملي في المسألة الثالثة هو البراءة، فالشك في المسألة الثالثة يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر مطلقاً سواءً قيل بامتناع الأمر والنهي أو قيل بجواز اجتماع الأمر والنهي فعلى كلا القولين تجري البراءة الشرعية.

القول الأول جواز اجتماع الأمر والنهي، وبناءً عليه يكون المكلف يعلم بتعلق الوجوب بين الحصة المحللة والمحرمة، ولا يعلم بتقييد هذا الواجب بخصوص إحدى الحصتين أي خصوص الحصة المحللة فيكون من الشك في الإلزام بالزائد والمقدار الزائد هو التقييد بخصوص الحصة المحللة أي تقييد وجوب الغسل بخصوص الغسل المحلل فيدخل المورد في أقل والأكثر فتجري البراءة عن الزائد والأكثر فهنا يعلم بأصل وجوب الغسل ويشك في القيد الأكثر والزائد وهو خصوص الغسل المحلل فهل يكفي مطلق الغسل الشامل للغسل المحلل والمحرم؟ أو لابد من اشتراط قيد زائد وهو الغسل المحلل فقط فتجري البراءة عن هذا القيد الزائد.

هذا بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي تكون هذه الحصة واجبة من جهة الغسل وأيضاً محرمة من جهة الغسل.

القول الثاني استحالة اجتماع الأمر وأنه يستحيل إطلاق المادة في دليل الواجب للحصة المحرمة فقوله: اغسل، مادته ليس لها إطلاق للغسل الغصبي المحرم، فقد يقال حينئذ إن الشك لا يكون من الشك في الأقل والأكثر بل يكون من باب الشك في المسقط لأن تعلق الوجوب بالجامع بين الحصة المحرمة والحصة المحللة أمرٌ مستحيل ولا إطلاق في مادة الغسل يشمل الغسل الغصبي المحرم فهنا يعلم المكلف أولاً بوجوب الغسل عليه وإذا جاء بالغسل المحرم يشك في أن هذه الحصة المحرمة هل أسقطت الوجوب أم لا؟ فيكون من موارد الشك في المسقط.

فإذا الوجوب قد تعلق بالحصة المحللة، غاية الأمر هل هذا الوجوب مقيد بعدم الإتيان بالحصة المحرمة أو أنه غير مقيد فيرجع إلى الشك في المسقط وحينئذ يوجد مبنيان مبنى البراءة ومبنى الاشتغال، وكل فقيه وأصولي يلتزم بالمبنى الذي رجحه في موارد الشك في المسقط فيلتزم بالاشتغال إن ثبت له ذلك أو البراءة إن ثبتت له ذلك قد يقال هذا في بدء النظر.

والتحقيق أن يقال ينبغي أن نعرف المحذور الذي يوجب امتناع الإطلاق في المادة ويمنع شمول الواجب للحصة المحرمة، فهذا المحذور هل هو محذور ثبوتي أو هو محذور إثباتي؟ هل هو محذور ثبوتي ناظرٌ إلى عالم الجعل وإمكان التشريع بحيث يستحي في عالم الجعل والتشريع إطلاق الواجب للحصة المحرمة؟ فهذا محذور ثبوتي، أو أن المحذور هو محذور إثبات أي ناظر إلى مقام الإثبات والدليل؟

فإن التزمنا إن المحذور ثبوتي وإثباتي معاً يتم هذا الكلام الذي ذكر من أن المورد يصبح من موارد الشك في المسقط أي أن إطلاق المادة لا يشمل الحصة المحرمة بل يختص بخصوص الحصة المحللة، ونشك هل هذه الحصة المحللة وجوب الغسل المحلل مقيدٌ بعدم الإتيان بالحصة المحرمة أو لا؟ فيكون المورد من موارد الشك في المسقط وهنا كل فقيه ومبناه من الالتزام بأصالة الاشتغال أو أصالة البراءة.

هذا إذا كان المحذور ثبوتي.

وأما إذا كان المحذور إثباتياً فقط أي أن المحذور يرتبط بإطلاق المادة في خطاب اغسل فقط فمعنى هذا أنه من الممكن ثبوتاً أن يجعل الوجوب على الجامع بين الحصة المحللة والحصة محرمة، فإذا لم يتم إطلاق إثباتاً في الدليل اللفظي وانتهت النوبة إلى الأصل العملي فحينئذ يشك المكلف في أن المولى هل جعل الوجوب على الجامع؟ لأنه ممكن ثبوته، أو جعله على الحصة الخاصة المحللة؟ وحينئذ يدور الأمر بين الأقل والأكثر، والأقل هو الجامع بين الحصة المحللة والمحرمة ولا هو التقييد الزائد وهو تقييد الوجوب بخصوص الحصة المحللة.

يبقى الكلام في سبب اجتماع الأمر والنهي، ومتى يكون هذا السبب ثبوتياً؟ ومتى يكون هذا السبب إثباتياً، وتفصيله موكولٌ إلى بحث اجتماع الأمر والنهي، ولا بأس بذكر مقولة المحقق العراقي ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ إذ قال:

«ثلاثة مطالب في علم الأصول من سيطر عليها هانت عليه بقية المطالب الأصولية، ويحتاجها في نصف الفقه، وهي: مسألة اجتماع الأمر والنهي ومنجزية العلم الإجمالي والاستصحاب» فهذه ثلاث مطالب صعبة ودقيقة في علم الأصول بحث اجتماع الأمر والنهي دقيق وبحث من منجزية العلم الإجمالي دقيق وبحث الاستصحاب أيضاً دقيق وهذه المسائل الثلاث تحتاجها في نصف الفقه سيالة في نصف الفقه تحتاج إلى استصحاب أو منجزية العلم الإجمالي أو مسألة اجتماع الأمر والنهي.

جيد وهنا يأتي الشهيد الصدر بتحقيق دقيق ورشيق في بحث اجتماع الأمر والنهي ويذكر ملخصه في هذا المورد من المسألة الثالثة[1] .

خلاصة التحقيق:

إن الوجوب الواجب تارة يكون واجباً بنحو مطلق الوجود كما لو قال المولى: «أكرم كل عالم» فوجوب الإكرام أخذ فيه مطلق الوجود مطلق وجود العالم الذي ينحل إلى كل فرد فرد من أفراد العالم، وهنا لا إشكال في استحالة اجتماع الأمر والنهي، فإذا جاء دليل أكرم عالمٍ بنحو مطلق الوجود الذي يشمل كل فرد فرد وجاء دليل آخر لا تكرم كل عالم فهنا يستحي اجتماع الأمر بالإكرام والنهي عن الإكرام لأن الأمر المجعول بنحو مطلق الوجود ويكون انحلالياً ينحل إلى كل فرد فكل فرد من أفراد المادة يكون موضوعاً للأمر بالوجوب.

فلو تعلقت الحرمة بمطلق الوجود أو ببعض الأفراد كما لو قال: لا تكرم الفاسق، فهنا يقع التعارض في العالم الفاسق، فإن دليل النهي لا تكرم الفاسق يشمل الفرد الفاسق، ودليل الأمر أكرم كل عالمٍ يشمل أيضاً الفرد الفاسق فيحصل تضاد بين الوجوب والحرمة في خصوص الفرد الفاسق من العلماء.

فهنا يستحيل اجتماع الأمر والنهي، هذا إذا كان وجوب الواجب بنحوه مطلق الوجود نظراً لوحدة متعلق الوجوب والحرمة وهو خصوص الفرد.

وأما إذا فرضنا أن وجوب الواجب لم يكن بنحو مطلق الوجود المنحل إلى أفراد بل كان بنحو صرف الوجود الجمع بين الأفراد فهنا لا يوجد محذور بحسب الحقيقة من ناحية التضاد لأن الوجوب وقف على صرف الوجود فقط يعني الوجوب متعلق بالوجود المحض ولا يسري من الوجود المحض إلى الأفراد، فإذا ثبتت الحرمة لفرد من الأفراد لا يلزم من ذلك اجتماع الضدين نظراً لتغاير المتعلقين فالتحريم إنما تعلق بالفرد والوجوب لم يتعلق بالفرد وإنما تعلق بمحض الوجود وصرف الوجود فموضوع الوجوب والحرمة مختلف ومتعدد إذ أن موضوع الحرمة هو الفرد وموضوع الوجوب ليس الفرد بل صرف الوجود ولا سريان ولا سراية من صرف الوجود إلى الفرد أصلاً.

بناءً على هذا الاتجاه الثاني للوجوب بنحو صرف الوجود لا يوجد محذور ثبوتي في اجتماع الأمر والنهي نظراً لتغاير متعلق الوجوب الذي متعلقه محض الوجود، ومتعلق الحرمة الذي متعلقه الفرد، فلا يوجد محذور ثبوتي، وإنما المحذور إثباتي أي في عالم الخطاب والدليل يوجد محذور فهذا الفرد لا يخاطب بالوجوب والتحريم في فرد معين في آن واحد.

وحاصل هذا المحذور الإثباتي إن الدليل الذي يدل على إيجاب الجامع بنحو صرف الوجود يدل بالدلالة الالتزامية العرفية لا العقلية على الترخيص في تطبيق هذا الجامع على جميع أفراده، فإذا تعلق الوجوب بصرف الوجود، فما هو المدلول المطابقي للوجوب؟ أن الواجب هو صرف وخالص وجود الشيء هذا المدلول المطابقي هذا صرف الوجود يعني الجامع بين الغسل المحرم والغسل المحلل كل منهما يصدق عليه أنه وجود صرف وخالص للغسل، فالمدلول المطابقي لدليل الوجوب يتعلق بصرف الوجود.

ولكن يرى العرف أن المكلف يمكن أن يطبق صرف الوجود على أي فرد فرد فهذه دلالة التزامية عرفية، وهذا المدلول الالتزامي العرفي لدليل اغسل وهو الترخيص في تطبيق جامع صرف الوجود للغسل على تمام أفراد الغسل يكون منافياً لا محالة لدليل التحريم لبعض الأفراد.

إذا التنافي ليس بين دليل الحرمة وبين المدلول المطابقي لدليل اغسل بل التنافي بين دليل الحرمة والمذلول الالتزام لدليل اغسل، وبذلك يسقط إطلاق المادة كما سيأتي تفصيل ذلك في بحث اجتماع الأمر والنهي.

إذا بناء على هذا المسلك محض الوجود يكون في إطلاق المادة محذوراً إثباتياً بلحاظ الدلالة الالتزامية العرفية في دليل اغسل ولا يكون هناك محذور ثبوتي أصلاً في إطلاق المادة بجسل عالم الجعل فلو بني على مسلك الامتناع لكن بعد أن يؤول الامتناع بهذا التأويل أي صرف الوجود فحينئذ يكون المحذور إثباتياً ولا يكون ثبوتياً.

وبالتالي يكون الشك ثبوتاً راجعاً إلى الشك في تعلق الوجوب بالجامع بنحو صرف الوجود أو تعلق الوجوب بخصوص الحصة المحللة، فيدخل المورد في موارد الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين، والأقل هو الجامع والأكثر هو تعلق الوجوب بخصوص الحصة المحللة فتجري البراءة عن الوجوب الزائد الذي هو ماذا؟ الحصة المحللة.

فإذا يا أخي حتى بناءً على مسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي تجري البراءة، بناءً على الاتجاه الثاني وهو أن الوجوب يتعلق بصرف الوجود. نعم، لا يتم بناء على الاتجاه الأول وهو أن الوجوب بنحو مطلق الوجوب.

إذا من يقول بامتناع اجتماع الأمر والنهي لمحذور ثبوتي بسبب توهم محذور التضاد بين وجوب صرف الوجود وبين الحرمة مثل المحقق الخراساني صاحب الكفاية حينئذ يكون المحذور عنده ثبوتياً لا إثباتيا فقط ومعه يرجع المقام إلى الشك في المسقط وكل يعمل بمبناه.

وأما إذا قلنا بالامتناع بهذا المشرب الذي وضحناه وهو حمل الوجوب على صرف الوجود لا على مطلق الوجود فحينئذ يكون المحذور إثباتي لا ثبوتي، فمن الناحية الثبوتية يمكن أن يقع الوجوب على الجامع بين الحصة المحللة والمحرمة ويمكن أن يختص بخصوص الحصة المحللة فيكون من موارد الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين فتجري البراءة عن الزائد هذا تمام الكلام في المسائل الثلاث للتعبد والتوصل، واتضح أن الأصل العملي في المسألة الثانية والثالثة هو البراءة الشرعية.

المسألة الرابعة من مسائل التعبدي والتوصلي وهي الأصل يأتي عليها الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


[1] بحوث في علم الأصول، تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، ج4، ص182 إلى 184.وأيضاً مذكور في تقرير أستاذنا السيد كاظم الحائري، مباحث الأصول، ج2.وتقرير أستاذنا السيد محمود الهاشمي الشاهرودي بحوث في علم الأصول، ج2.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo