< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/07/17

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس مائة وأربعة وأربعون: التقريب الثاني للسقوط عدم إمكان التمسك بإطلاق الهيئة

 

التقريب الثاني للسقوط عدم إمكان التمسك بإطلاق الهيئة

بيان ذلك:

لو سلم أن إطلاق المادة ساقطٌ باعتبار البرهان العقلي الذي قال به الميرزا النائيني القائم على استحالة الشمول للحصة غير الاختيارية لا بلحاظ المحمول الأول وهو الوجوب ولا بلحاظ المحمول الثاني وهو الملاك لكن ما هو مدرك عدم السقوط أليس مدرك عدم سقوط الواجب هو التمسك بإطلاق الهيئة في المقام؟

فلو قال المولى: «اغسل» فهنا عندنا مادة الغسل وهي مطلقة تشمل: الغسل الاختياري والغسل غير الاختيار، وعندنا هيئة اغسل الدالة على الوجوب، وهذا الوجوب مطلقٌ فهو يعم صورتين:

الأولى إذا لم يغسل أصلاً، والثانية إذا غسل لا عن اختيار.

فإذا التزمنا بأن المادة مطلقة وغسل لا عن اختياره فمن الواضح أن إطلاق المادة يقتضي الإجزاء وسقوط وجوب الغسل لأن إطلاق المادة يشمل الحصة الغير اختيارية للغسل كما يشمل الحصة الاختيارية.

لكن لو أنكرنا إطلاق المادة وإنكار الإطلاق يعني التقييد أي أن المادة مقيدة بخصوص الحصة الاختيارية ولا تشمل الحصة غير الاختيارية فحينئذ تصل النوبة إلى التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات أن الوجوب ثابتٌ على كل حال سواءً لم يأت بالغسل أو أتى بالحصة غير الاختيارية.

نعم، لو كان إطلاق المادة ثابتاً لما وصلت النوبة إلى التمسك بإطلاق الهيئة إذ مع إطلاق المادة تكون الحصة غير الاختيارية مصداقاً للواجب وبالتالي لا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة أي الوجوب نظراً لفرض وقوع الحصة الغير اختيارية، فكيف يعقل ثبوت الوجوب مع وقوع المادة والمتعلق خارجاً، فبعد أن صلى خارجاً، كيف يخاطب بخطاب صل؟!

لكن لو تنزلنا وأنكرنا إطلاق المادة وإنكار إطلاق المادة يعني تقييد المادة وأنها قد قيدت بخصوص الحصة الاختيارية فلا تشمل الحصة غير الاختيارية فحينئذ تصل النوبة إلى التمسك بإطلاق الهيئة فصيغة وهيئة «اغسل» كما تشمل مورد عدم الغسل تشمل أيضاً مورد الغسل لا عن اختيار، إذاً مدراك عدم السقوط وعدم الإجزاء هو التمسك بالهيئة إطلاق الهيئة، وصاحب التقريب الثاني هذا كله تمهيد صاحب التقريب الثاني يريد أن يقول حتى لو أنكرنا إطلاق المادة فإنه لا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة فلا دليل يوجب ماذا؟ لا دليل ولا يوجد دليل يقتضي ماذا؟ لزوم الإتيان بالغسل لأن الدال عليه يعني الدال على عدم الإجزاء وعدم السقوط هو إطلاق الهيئة ولا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة، إذا لا دليل على عدم السقوط، وإن أنكرنا إطلاق المادة.

واضح إن شاء الله هذا كله تمهيد هذا تمهيد للتقريب الثاني ولنشرع الآن في بيان التقريب الثاني، وحاصله: أنه في خطاب «اغسل»كان يوجد إطلاقان: إطلاق الأول في المادة، والإطلاق الثاني في الهيئة، ويستفاد منها الوجوب، ومقتضى إطلاق الهيئة الذي هو إطلاق الوجوب أن الوجوب ثابت على كل حال سواء وقع الغسل خارجاً أو لم يقع، ومقتضى إطلاق المادة في نفسه أن متعلق الوجوب هو مطلق الغسل سواء كان اختيارياً أو غير اختيارياً.

من الواضح أن المادة هنا وهي الغسل والهيئة هنا وهي صيغة اغسل وافعل قد وقع في دليل واحد لا في دليلين.

إذاً إطلاق المادة الذي يفيد العموم والشمول للحصة الاختيارية وغير الاختيارية يعني يفيد السقوط، وإطلاق الهيئة الذي يفيد عدم السقوم، قد وردا معاً في دليل واحد لا في دليلين إذ لا معنى أن يقول المولى: صل حتى لو صليت، «صل» هذه هيئة، «لو صليت» يعني المادة بل المراد صل إذا لم تصلي وليس المراد صل حتى لو صليت، فإن الوجوب مقيد لا محالة بعدم وقوع متعلقه خارجاً لأن وقوع المتعلق خارجاً وهو الصلاة يوجب سقوط الوجوب واضمحلال التكليف، هذا ستأتي مناقشته هذا صاحب البيان هكذا.

إذاً لا يعقل أن يكون الوجوب ثابتاً مع وقوع متعلقه خارجاً، وحينئذ فكل ما شملته المادة من الحصص خرج عن إطلاق الهيئة، وكلما اتسعت المادة كلما ضاقت الهيئة، وهذا معناه أن إطلاق المادة مقيدٌ لإطلاق الهيئة، وحيث إن إطلاق المادة متصلٌ بإطلاق الهيئة لا منفصلٌ عنه نظراً لوقوع المادة والهيئة معاً في دليل واحد إذا إطلاق المادة يشكل قرينة متصلة ويمنع من انعقاد إطلاق الهيئة رأساً باعتبار أن إطلاق المادة مقيدٌ متصل بالهيئة والصيغة فبمقدار ما تتسع له المادة بحسب إطلاقها لا ينعقد إطلاق في الهيئة رأساً ومن أول الأمر نظراً لأن إطلاق المادة يشكل قرينة متصلة من انعقاد أصل الظهور لا أنه يحصل ظهور للهيئة ثم تأتي المادة وتسلب حجية هذا الظهور في الإطلاق.

الآن نأتي في بيان إشكال المحقق العراقي وهو إشكال دقيق وعميق مفاد الإشكال بعد أن قام البرهان العقلي الذي إدعاه الميرزا النائيني[1] والذي مفاده: إن إطلاق المادة للحصة غير اختيارية ساقطٌ لأنه لا يعقل البعث والتحريك نحو الحصة غير الاختيارية فإطلاق المادة مقيدٌ بخصوص الحصة الاختيارية ببركة حكم العقل فيسقط إطلاق المادة، وحكم العقل يعتبر مقيدٌ لإطلاق المادة، وهنا يوجد احتمالان: فحكم العقل إما أن يكون مقيداً متصلاً وإما أن يكون مقيداً منفصلاً، ولنبحث المسألة على كلا الاحتمالين:

الاحتمال الأول فرض كون حكم العقل مقيداً متصلاً أي أن حكم العقل حكم بديهي فهو قرينة متصل بالمادة نسبته إلى إطلاق المادة كنسبة إطلاق المادة إلى إطلاق الهيئة، فكما أن المادة قيدت إطلاق الهيئة كذلك حكم العقل قد قيد إطلاق المادة فحكم العقل مقيد المقيد أي أن حكم العقل قيد إطلاق المادة وإطلاق المادة قد قيد إطلاق الهيئة، وجميع هذه القرائن متصلة وليست منفصلة، إذاً نسبة حكم العقل إلى إطلاق المادة كنسبة إطلاق المادة إلى إطلاق الهيئة فحكم العقل مقيد المقيد أي أن حكم العقل مقيد المادة التي قيدت الهيئة.

وحينئذٍ بمقدار ما يهدم المقيد وهو حكم العقل يبقى إطلاق الهيئة على حاله يعني المادة قبل أن تقيد إطلاق الهيئة كانت مقيدة من أول الأمر بحكم العقل فإذا المادة مقيدة بخصوص الحصة الاختيارية يبقى إطلاق الهيئة على حاله فيشمل الحصة الاختيارية والحصة غير الاختيارية.

كل هذا بناء على ماذا؟ على الاحتمال الأول أن نفرض أن حكم العقل قرينه متصلة وليست منفصلة.

الاحتمال الثاني إذا فرض برهان الميرزا ـ رحمه الله ـ أن حكم العقل يمثل برهاناً عقلياً منفصلة وقرينة منفصلة فهذا معناه أن إطلاق المادة للحصة الاختيارية وغير الاختيارية قد انعقد بالفعل لأنه لم تتصل به قرينة، وبما أن المادة متصلة بالهيئة فحينئذ لا تصل النوبة إلى التمسك بإطلاق الهيئة لأن إطلاق المادة يهدم ظهور الهيئة في الإطلاق من الأساس ومن البداية فلم يتولد للهيئة إطلاق من أول الأمر نظراً لاتصال الهيئة بإطلاق المادة الهادم لإطلاق الهيئة من أول الأمر وإن وجد فيما بعد المقيد المنفصل للمادة وهو حكم العقل.

الخلاصة والزبدة:

حكم العقل إما قرينة متصلة وإما قرينة منفصلة للمادة ،إذا حكم العقل قرينة متصلة للمادة فحينئذ المادة مقيدة بخصوص الحصة اختيارية ويبقى إطلاق الهيئة على حاله وإطلاق المادة لا يقيد إطلاق الهيئة، وإما بناء على الاحتمال الثاني وهو أن حكم العقل قرينه منفصلة فإن إطلاق المادة قرينة متصلة بإطلاق الهيئة وتقيد إطلاق الهيئة ثم بعد ذلك تأتي القرينة المنفصلة وهي حكم العقل، فتكون النتيجة بناء على أن حكم القرينة متصلة عدم جواز التمسك بإطلاق الهيئة لأن إطلاق الهيئة قد قيد بإطلاق المادة من أول الأمر ثم جاء حكم العقل إطلاق المادة.

يقول الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ في تقرير الشيخ حسن عبد الساتر بحوث في علم الأصول الجزء الرابع الصفحة مئة وتسعة وستين وهذا إشكال دقيق مستفاد من بعض تحقيقات المحقق العراقي ـ قدس سره ـ في هذه المسألة.

يراجع بدائع الأفكار الجزء الأول تقرير الميرزا هاشم الآملي صفحة مئتين وتسعة وأربعين وصفحة مئتين وخمسين.

وقد أجاب المحقق المدقق الشهيد السيد محمد باقر الصدر على إشكال المحقق العراقي بأربعة أجوبة دقيقة ومتينة:

الجواب الأول حلي، ويقال: إن المدعى للقائلين بسقوط المادة كالميرزا النائيني هو أن حكم العقل المسقط لإطلاق المادة إنما هو قرين متصلة وليس قرينة منفصلة، وبالتالي يصح التمسك بإطلاق الهيئة فلا يتم التقريب الثاني إذ أن كون المولى في مقام البعث والتحريك مع استحالة تحريك نحو غير المقدور يشكل قرينة متصلة على تقييد إطلاق المادة.

وبالتالي حكم العقل يهدم أصل ظهور المادة في الإطلاق فلا يتكون إطلاق للمادة مع حكم العقل هذا وبعد هدم أصل ظهور المادة في إلاطلاق لا يبقى ما يوجب المنع عن التمسك بإطلاق الهيئة فيبقى إطلاق الهيئة على حاله وهو يقتضي عدم السقوط وعدم الإجزاء.

فلو غسل لا عن اختيارٍ وشك هل يجب عليه أن يغسل أو لا؟ يمكنه أن يتمسك بإطلاق هيئة اغسل، ولا يجتزء بالغسل لا عن اختيار.

هذا تمام الكلام في الجواب الأول.

الجواب الثاني نقضي، فيقال: بأنه لو سلم المقيدة لإطلاق المادة بالحصة الاختيارية كان مقيداً منفصلاً فتنزلنا وسلمنا جدلاً وقلنا إن حكم العقل ليس قرينة متصلة بالمادة بل هو قرينة منفصلة عن المادة كما في الاحتمال الثاني، وحينئذ يرد النقض بسائر الموارد الفقه التي تقيد فيها المادة بقيد منفصل من قبيل ما إذا قال: صل ثم قيد في دليل آخر منفصل وقال لا صلاة إلا بطهور.

فبناء على أن مثل هذه التقييدات زائدة على المسمى فحينئذ تأتي نفس الشبهة والإشكال وهي هل أن الإتيان بالصلاة الفاقدة للطهور مسقطة للأمر بالصلاة أو غير مسقطة؟

عندنا خطاب صل وهو صلى بدون طهارة، فهل يسقط خطاب صل بالإتيان بصلاة من دون وضوء أو غسل من دون طهارة أو لا؟

فإن قيل أنه مسقطٌ فهذا خلاف الضرورة الفقهية إذ لا خلاف في أن الإتيان بالصلاة الفاقدة للطهارة غير مسقط للأمر بالصلاة.

وإن قيل أنه مسقط إذا مدرك عدم السقوط هو التمسك بإطلاق الهيئة صل الذي يقتضي وجوب الصلاة تامة سواء أوتي بالصلاة الناقصة وهي من دون وضوء وطهارة أو لم يؤتى بها.

فلو تم هذا الإشكال المنقول عن المحقق العراقي للزم منه عدم إمكان التمسك بإطلاق الهيئة في سائر هذه الموارد لأن إطلاق الهيئة في صل اقترن بإطلاق المادة وهو الصلاة فقيده فلم يبق للهيئة إطلاق يقتضي الوجوب مع إيقاع الصلاة كيفما اتفق.

وحينما يأتي المقيد المنفصل ويقيد إطلاق المادة وهو الصلاة فلا يتولد من جديد إطلاق في الهيئة يقتضي وجوب الصلاة بطهور سواء أوتي بطهور أو لم يأتي لأن إطلاق الهيئة سقط بموجب الإشكال المذكور.

فأي فرق بين محل كلامنا وبين سائر هذه الموارد الفقهية التي يرد فيها التقييدات المنفصلة الطارئة عن المادة؟

إنصافاً هذا إشكال نقضي قوي ومحكم جداً هذا تمام الكلام في الجواب الثاني.

الجوابين الثالث والرابع يأتي عليهما الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


[1] فوائد الأصول، للشيخ الكاظمي، ج1، ص75.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo