< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/06/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الجهة الثانية دلالة صيغة الأمر على الوجوب

دلالة صيغة الأمر على الوجوب

هل صيغة الأمر تدل على الوجوب أو تدل على الجامع بين الوجوب والاستحباب؟

ذكرنا أن لصيغة الأمر مدلولاً تصورياً وهو النسبة الطلبية أو الإرسالية، كما أن لها مدلولاً تصديقياً، فصيغة الأمر تدل على في نفس المتكلم، فهل هذه الإرادة القابعة في نفس المتكلم تبلغ مرتبة الوجوب والشدة أو هي بمرتبة الاستحباب؟

المسالك الثلاثة في صيغة الأمر

وقد تقدم الكلام عن نظير ذلك في مادة الأمر، وذكرنا في مادة الأمر وجود ثلاثة مسالك، وهي بعينها موجودة في بحث صيغة الأمر.

المسلك الأول حكم العقل، وهو مسلك الميرزا الشيخ محمد حسين النائيني ـ رحمه الله ـ فهو يرى أن صيغة الأمر تدل على الوجوب بحكم العقل[1] .

فلو تم مسلك حكم العقل في مادة الأمر يأتي نفس الكلام في بحث صيغة الأمر ودلالتها على الوجوب فكلما صدر طلب من المولى وصدرت صيغة أمر من المولى ولم تقترن بما يدل على الترخيص في المخالفة فحينئذ يحكم العقل بالوجوب.

وهنا لا يفرق في الطلب أن يكون صدر بمادة الأمر أو صدر بنحو صيغة الأمر، وقد تقدم الكلام في رد هذا المسلك.

المسلك الثاني الإطلاق وقرينة الحكمة، فصيغة الأمر تدل على الوجوب ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة، وذلك بأن يقال بأن اللفظ الدال على الطلب أو على الشوق والإرادة وإن كان من الناحية الوضعية يلائم الإرادة الشديدة والإرادة الضعيفة فهو يشمل الوجوب الذي هو إرادة شديدة، ويشمل الاستحباب أيضاً الذي هو عبارة عن إرادة ضعيفة، لكن يتعين الحمل على الإرادة الشديدة ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة.

فلو فرضنا أن الإرادة ولفظ الإرادة موضوعٌ للجامع بين الإرادة الشديدة والإرادة الضعيفة، وقال المتكلم: أريد منك كذا، فحينئذٍ يتعين حمل لفظ الإرادة على الإرادة الشديدة ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة.

التقريبان لمسلك الثاني

وذكرنا هناك تقريبين أحد هذين التقريبين أن الإرادة الشديدة شدتها من سنخها فلا تحتاج إلى مؤونة زائدة فشدة الإرادة عبارة عن إرادة بخلاف الإرادة الضعيفة فإن ضعف الإرادة عبارة عن عدم الإرادة فيحتاج إلى مؤونة زائدة للدلالة على عدم الإرادة.

وحيث إن المتكلم في مقام البيان ولم ينص على هذه المؤونة الزائدة عدم الإرادة فيتعين الحمل على المرتبة الشديدة.

إذا مرد هذه الدعوى أن الشديد أخف مؤونة من الضعيف وكلما دار بين الأشد مؤونة والأخف مؤونة تعين الحمل على الأخف مؤونة وهو المرتبة العالية من الإرادة أي الوجوب.

وقد تقدم الكلام في ذلك ودفعه.

قد يناقش في ما قلنا في مادة الأمر والجواب عنه

ولكن هذا الكلام الذي تقدم في مادة قد يناقش في صيغة الأمر، ويقال: إنه لا يجري.

والسر في ذلك: إن القول بجريان ذلك التقريب في صيغة الأمر فرع الالتزام بأنه يمكن تطبيقه على لفظ يقبل الشدة والضعف، ففي مادة الأمر يعقل أن يكون الأمر شديداً أو ضعيفاً، لكن في صيغة الأمر التي تدل على الإرادة والشوق ونحو ذلك من الأمور القابلة للشدة والضعف، بالنسبة إلى هذه الإرادة التي تقبل الشدة والضعف يمكن تطبيق ما ذكر في مادة الأمر.

لكن موطن بحثنا ومقامنا هو صيغة الأمر، وصيغة الأمر مدلولها الإرسال والدفع، ومن المعلوم أن الإرسال والدفع لا يختلف شدة وضعفاً باختلاف شدة الشوق وضعفه، فإن كنت تشتاق جداً بأن يسقط زيد على الأرض فانك تدفعه نحو الأرض سواء كانت إرادتك وشوقك لدفعه شديدا أو ضعيفاً فإنك ستدفعه نحو الأرض في كلتا الحالتين، وهذا الدفع سيكون بنحو واحد إذ ليس للدفع مرتبتين شديدة وضعيفة تبعاً لشدة الشوق وضعفه حتى تتعين إحداهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

إذا يوجد فرق بين مادة الأمر وبين صيغة الأمر لأن صيغة الأمر مدلولها الإرسال والدفع ومرتبت الدفع واحدة سواء كانت الإرادة شديدة أو ضعيفة.

جواب الشبهة

لكن هذه الشبهة كما ترى وواضحة الدفع إذ أن مجرى الإطلاق في المقام لو كان هو المدلول التصوري لصيغة افعل لكان لهذا الكلام بأن يقال بأن المدلول التصوري المطابق للصيغة هو الإرسال والإرسال ليس له مراتب، لكن بحسب الحقيقة مجرى الإطلاق هو المدلول التصديقي لا المدلول التصوري.

والمدلول التصديقي لصيغة الأمر هو الكشف عن الإرادة في نفس المتكلم وإرادة المتكلم قد تكون شديدة ولازمة وقد تكون ضعيفة غير لازمة، فيقال: بأن هذه الإرادة المنكشفة تصديقاً لصيغة افعل إما إرادة شديدة قوية وإما إرادة ضعيفة، فبالإطلاق ومقدمات الحكمة يتعين كونها شديدة.

ثلاثة مداليل لصيغة إفعل

وبتفصيل وتوضيح نقول: إن لصيغة افعل ثلاثة مداليل:

المدلول الأول مدلول تصوري مطابقي وهو الإرسال.

المدلول الثاني مدلول تصوري بالملازمة وهو مفهوم الإرادة.

المدلول الثالث مدلول تصديقي كاشفٌ عن واقع الإرادة.

إذا تم هذا نقول: إن الذي لا يتصور فيه الشدة والضعف إنما هو خصوص المدلول الأول وهو المدلول التصوري المطابقي، فلو كان هناك إشكال في عدم تعقل الشدة والضعف فإنما هو في مرتبة المدلول التصوري المطابقي، إذا هذا المسلك لو تم في الأمر فإنه أيضاً ينطبق في صيغة الأمر، وقد أبطلنا هذا المسلك هناك فلا نعيد.

المسلك الثالث مسلك الوضع بأن نلتزم بأن صيغة الأمر موضوعة للوجوب في اللغة، وهذا المطلب قد يشكل عليه هنا بعين الإشكال السابق.

الإشكال على مسلك الثالث والجواب عنه

فيقال بأنه قد يتعقل الوضع للوجوب باعتبار أن الوضع للوجوب معناه التقييد في المعنى الموضوع له فيتحصص المعنى الموضوع له إلى حصتين حصة تسمى بالوجوب وحصة تسمى بالاستحباب، ولكن المعنى الموضوع له هو الإرسال والإلقاء وهو غير قابل للشدة والضعف، فكيف يمكن بالوضع تقييد المعنى بالمرتبة الشديدة مع أن الإرسال على نهج واحد.

وهذا الإشكال يمكن أن يجاب عليه بعدة تعبيرات، من قبيل أن الإلقاء بما هو إلقاء من ناحية نفسه، وإن كان تصوراً لا يتحصص إلى حصتين لكنه يتحصص تصوراً من حيث منشأه، يعني نفس المدلول التصوري وهو الإنسان لا يتحصص لكن المدلول التصوري الالتزامي كشف هذا الإرسال عن إرادة كذلك المدلول التصديقي يكشف عن إرادة قوية قابلة لتحصيص، لأن الإلقاء تارة يكون بإرادة قوية وأعلائيه وتارة يكون بإرادة ضعيفة، فالواضع في وضع صيغة افعل يمكن أن يضعها لجامع الإلقاء، ويمكن أن يضعها لخصوص الحصة الخاصة، وهو الإلقاء الناشئ من إرادة شديدة، بحيث تكون الصيغة دالة بالتبع تصوراً دالة على تلك الإرادة القوية.

فحينئذٍ نقول: مقتضى التطابق بين المدلول التصوري الذي هو الإرسال وبين المدلول التصديقي وهو الإرسال الكاشف عن إرادة إما تكون قوية أو ضعيفة، يتكشف أن إرادة المتكلم إرادة قوية، وهو معنى الدلالة على الوجوب، فهذا الإشكال مندفعٌ بهذا المسلك.

إذاً دلالة صيغة افعل على الوجوب بحكم اللغة تامة.

كلام الشهيد الصدر

لكن ذكر الشهيد الصدر في نهاية هذا البحث أنه يمكن استفادة الوجوب من صيغة الأمر ببركة الإطلاق وقرينة الحكمة، وبالتالي يمكن استفادة الوجوب إما من الوضع اللغوي وإما من الإطلاق وقرينة الحكمة.

توضيح كلامه:

توضيح البيان الذي ذكره السيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ رحمه الله ـ مفاده هو أن صيغة افعل، ويمكن مراجعة بحوث في علم الأصول تقرير الشيخ حسن عبد الساتر الجزء الرابع صفحة مئة وسبعة وعشرين،[2] ومباحث الأصول للسيد كاظم الحائري الجزء الثاني صفحة مئة وتسعة.[3]

تقريب ذلك: إن صيغة افعل تدل بالدلالة التصورية على الإلقاء الذي هو أمر تكويني خارجي، وهذا الإلقاء يتصور فيه سد تمام أبواب العدم بحيث أن المكلف مقهور ولا مناص له تكويناً عن أن هذا الفعل الذي ألقي عليه كمن ألقي في البحر والبركة فلا مناص له من السباحة فإنه مقهور على ذلك.

وحيث إن صيغة افعل استفيد من سياقها أنها صادرة في مقام الدفع والتسبيب التشريعي فبمقتضى أصالة المطابقة بين المدلول التصوري وبينما هو المتحصل من ظاهر السياق التصديقي يكون هذا الإلقاء والتسبيب التشريعي من سنخ ذلك الإلقاء التكويني، بمعنى أنه يستبطن مقهورية المكلف إذ لا مناص له عن التوجه نحو الفعل، وهذا معنى عدم الإذن بالمخالفة الذي هو الوجوب.

وهذا يكون وجهاً لكيفية استفادة الصيغة وأمثالها بالإطلاق ومقدمات الحكمة، ولكن الإطلاق بتقريب أصالة المطابقة بين المدلول التصوري والمدلول التصديقي لا بتقريب آخر.

وعليه لا ينبغي الإشكال بدلالة صيغة افعل على الوجوب إما بهذا التخريج إطلاق مقدمات الحكمة وإما بالوضع.

المناقشة على كلام الشهيد الصدر

لكن هذا الكلام وهذا التقريب من سيد أساتذتنا الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ قابل للمناقشة، وقد ناقشه سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري ـ حفظه الله ـ في حاشية طويلة من صفحة الجزء الثاني مباحث الأصول من صفحة مائة وتسعة إلى مائة واثنا عشر. [4]

والمهم في المناقشة ما ورد في ذيلها وفي آخرها إذ قال سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري ـ حفظه الله ـ إن صيغة الأمر وافتراض حكايتها تصوراً عن الدفع التكويني ثم بالملازمة عن الإرادة لغلبة نشوء الدفع التكويني عن الإرادة ثم بالدلالة التصديقية على الكشف عن الإرادة ليس تعملاً وتمحلاً لا داعي إليه بل هي تعطي رأساً بالدلالة التصورية نسبة البعث وتكشف بالدلالة التصديقية عن وجود واقع البعث والإرادة والإرادة حقيقة في ذهن الأمر وعليه فمبرر الإطلاق الذي أفاده أستاذنا ـ رحمه الله ـ منتفٍ وبالتالي لا تكون دلالة الأمر على الوجوب إلا وضعية،[5] انتهى كلامه زاد الله في توفيقه وأطال عمره الشريف.

خلاصة المناقشة: يوجد تكلف أنه الصيغة صيغة الأمر تدل على الدفع، وهذا الدفع يشير إلى الدفع التكويني ما دخل الدفع التكويني في الدفع التشريعي؟ أصلاً ما هي علاقة الإرسال التشريعي والدفع التشريعي الاعتباري بالدفع التكويني والإرسال التكويني حتى يقاس عليه، فالعبرة بدراسة الإرسال التشريعي يعني صيغة الأمر لغةً، صيغة الأمر على ماذا تدوم؟

الجواب تدل على النسبة الطلبية والنسبة البعثية والإرسالية، وهذا الإرسال والبعث يكشف عن إرادة في نفس الأمر فيقع الكلام في هذه الإرادة التي هي في نفس الأمر، هل هي إرادة قوية أو إرادة ضعيفة والواضع اللغوي هل وضع صيغة الأمر للنسبة الإرسالية الناشئة من إرادة قوية أم أن الواضع اللغوي وضع صيغة الأمر الناشئة من جامع الإرادة الأعم من الإرادة القوية والإرادة الضعيفة، والدعوى التبادر الذي هو علامة الحقيقة.

ونحن ندعي أنه في اللغة العربية إذا صدرت مادة الأمر كما لو قال الأب أو المولى لعبده أمرك، أو صدرت صيغة الأمر فقال له: اذهب إلى السوق، فإننا نفهم من صيغة الأمر اذهب إلى السوق وجود نسبة إرساليه تكشف عن إرادة قوية في نفس المولى، بحيث إن العبد إن لم يذهب إلى السوق وقال له المولى: لم لم تذهب إلى السوق، فقال: إن أمرك يكشف عن إرادة وهذه الإرادة أعم من الإرادة القوية والإرادة الضعيفة، فحينئذ سنجد المولى يرفع يده ويعطي طراق على وجهه، ويقول: فاعلم أنها للإرادة القوية والشديدة لا الإرادة الضعيفة.

هكذا يتبادر إلى أذهاننا من دون حاجة إلى قياسه قياس الدفع والإرسال التشريعي المستفاد من الصيغة على الدفع التكويني، والله العالم.

إذاً اتضح في الجهة الثانية في الجهة الأولى اتضح أن صيغة الأمر تدل على النسبة الإرسالية والطلبية، وفي الجهة الثانية اتضح أن صيغة الأمر تدل على الوجوب. يبقى الكلام في الجهة الثالثة يأتي عليه الكلام.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo