< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/06/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المسلك الثاني لحل الشبهة الفلسفية

 

محل البحث: الأوامر-الفصل الأول فيما يتعلق بمادة الأمر- والكلام في مادته يقع في عدة جهات- تم الجهات الثلاثة، أما الجهة الرابعة(الطلب والإرادة)-للمسألة ثلاثة أبحاث: كلامية، فلسفية وأصولية-تم البحث الكلامي وشرعنا في المسألة الفلسفية-قلنا وشرحنا أن شبهة عدم اختيارية الإنسان تترتب من مقدمتين-ألان نتكلم عن دفع هذه الشبهة

 

المسلك الثاني لحل الشبهة الفلسفية

معاكس للمسلك الأول فهو يسلم بالمقدمة الأولى وهي أن الاختيار ينافي المساواة للاضطراب، وينكر المقدمة الثانية الناظرة إلى قانون العلية، ويقول:

إن الضرورة غير ثابتة في أفعال الإنسان فأصحاب المسلك الثاني يشككون في أصل الضرورة وأصل للزوم وجود معلول عند وجود علته، بمعنى أن الشبهة إنما قد نشأت من مبادئ العلية القائلة بأن كل حادثة لابد لها من سبب ولكل معلول علة ولكل مسبب سبب، فهذا المسلك ينكر أن الحادث يكون واجباً وضرورياً عند وجود سببه وعلته، فمع إنكار قانون العلية والسببية لا يكون الحادث ضرورياً أي أنه يمكن أن يوجد الحادث مع صفة الإمكان بدون حاجة لأن يخرج من عالم الإمكان إلى الوجود.

وهذا المسلك مال اليه بعض الفلاسفة المتأخرين من غير المسلمين[1] .

الإشكال على هذا المسلك

فهؤلاء المتأخرون من الفلاسفة خيل لهم أنهم إذا أنكروا قانون العلية وأنكروا ضرورة وجود المعلول عند وجود علته، خيل لهم أنهم استطاعوا أن يدفعوا شبهة الجبر والاختيار وبالتالي لا يكون حينئذ في صدور الفعل من الإنسان ضرورة بل يكون الفعل باقياً على الإمكان من دون أن تلحق به الضرورة، فعند الضرورة وعدم الضرورة يكون الاختيار ثابتاً.

الخطأ في الشبهة والخطأ في المسلك

وفيه إن أصل الشبهة وهذا المسلك كل منهما قد وقع في خطأ، فإن أصل الشبهة الفلسفية قد جعلت الضرورة بقول مطلق منافية للاختيار، وهذا المسلك جعل الإمكان مساوقاً للاختيار.

الخطأ في الشبهة

الإحتمالين في ضرورة الفعل

أما الخطأ الأول وهو لأصل الشبهة فإن الضرورة ليست مطلقاً منافية مع الاختيار، بل ينبغي أن نبحث أن هذه الضرورة، هل هي في طول الاختيار وناشئة من الاختيار أم أن هذه الضرورة مستقلة عن الاختيار؟ احتمالان لا ثالث لهما.

أما الاحتمال الأول فلو قلنا بأن الضرورة تكون ناشئة من الاختيار فالضرورة فرع وفي طول الاختيار فحينئذ لا تكون الضرورة منافية مع الاختيار.

وأما الاحتمال الثاني فلو قلنا بأن الضرورة مستقلة عن الاختيار وليست فرعه وفي طوله فحينئذ تكون الضرورة مخالفة ومنافية للاختيار لا محالة.

إذاً لابد من هذا البحث وهو أن الضرورة هل هي في طول الاختيار أو مستقلة عن الاختيار؟ وهذا ما سيأتي بحثه مفصلاً إن شاء الله، فإن الفلاسفة كما تقدم فسروا الاختيار بقولهم: إن أراد فعل وإن لم يرد لم يفعل، فبناءً على قول الفلاسفة تكون الضرورة فرع الاختيار، أولاً يريد ويختار فيصبح الفعل ضرورياً، وهذا ما سيأتي بحثه.

الخطأ في المسلك

وأما الخطأ الثاني وهو خطأ هذا المسلك فهو يزعم أن قانون العلية ليس بتام، فمن قال إن المعلول والمسبب يجب بالضرورة عند وجود علته وسببه؟! بل قالوا إن الفعل يساوق الإمكان وهذا الممكن قد يكون ضرورياً وقد لا يكون ضرورياً فقالوا بإبقاء الفعل على الإمكان، وهذا مساوق مع الاختيار.

وهذا ليس بصحيح إذ أن هذا معناه التسليم بوجود الصدفة فهناك أحد أمرين إما أن يقال بأن الشيء يحدث لقانون العلية وبسبب، وإما أن يقال أنه يحدث صدفة أي من دون علة مع كون الشيء ممكن الوجود وممكن العدم وإخراجه من العدم إلى الوجود يحتاج إلى علة.

ومن الواضح أن الصدفة غير الاختيار، فكون الفعل يوجد صدفة لو سلمنا وتنزلنا جدلاً وقلنا بصحة الصدفة فالقول بالصدفة لا يعني الاختيار، فمثلاً: لو أن الماء قد غلى من دون نار ومن دون وجود سبب وعلة بل غلى النار من دون علة فهذا لا يعني أن سبب الحرارة وسبب الغليان هو الماء، حتى لو التزمنا بالصدفة.

وهكذا لو برد الماء من دون علة ومن دون ثلج أو ثلاجة وقلنا بتحقق الصدفة صدفة صدلي أصبح الماء بارداً فهذا لا يعنيه أن الماء مختار في إيجاد البرودة له، فهذا المعنى وهو سلب الضرورة عن الممكن لا ينتزع منه العقل عنوان الاختيار، فلو فرض محالاً وفرض المحال ليس بمحال، وافترضنا وقوع حادثة في الطبيعة صدفة كبرودة الماء أو حرارة الماء، فحينئذ لا ينتزع العقل من طبيعة الماء أن الماء هو الذي أوجب الحرارة أو البرودة، فلا يقول العاقل: إن الماء أصبح مختاراً في إيجاد حادثة البرودة أو حادثة الحرارة بل يقال: إن هذه الحادثة كالبرود أو الحرارة من الممكن أن تقع، ومن الممكن أن لا تقع، وصدفةً ووجدت في المقام بالاختيار للطبيعة والماء في إيجاد هذه الحادثة.

إذاً اتضح أن الاختيار ليس مساوقاً لتعطيل قانون العلية والتسليم بالإمكان المحض فحتى لو سلمنا وتنزلنا وقلنا بالإمكان المحض وأن المعلول قد يصدر بلا علة وأنكرنا الضرورة التي هي بمعنى إنكار قانون العلية لأن قانون العلية هكذا يقول المعلول ضروري الوقوع بعد وقوع علته، فإذا أنكرنا الضرورة أنكرنا قانون العلية، فإذا أنكرنا قانون العلية والتزمنا بالإمكان المحض الذي قد يلتقي مع الضرورة وقد لا يلتقي مع الضرورة فحينئذ نقول هذا الإمكان المحض لا يساوي الاختيار، فالقول بالصدفة وهذا غير صحيح لا يعني أن الطبيعة تكون مختارة.

إذا المسلك الثاني لا يفي بتحقيق عنوان الاختيار.

المسلك الثالث لحل الشبهة الفلسفية

ومفاده إن الكائنات التي تعيش في الطبيعة مختلفةٌ في تحديد مجال سيرها، ومسار كل كائن بحسبه، فمسار الإنسان وحركته يختلف عن مسار الذبابة، ومسار الذبابة والحشرات والحيوانات يختلف عن مسار الجمادة.

توضيح ذلك:

إن كل كائن يوجد في الطبيعة فهو لا محالة محددٌ تكويناً بحدود مفروضة قاصراً وجبراً في عالم الطبيعة، فمثلاً: لو أخذت حصى ورميتها في الجو فإنها ستسقط تلقائياً على الأرض لا أنها ستعبر إلى السماء ولن تسقط على الأرض.

إذاً هناك مسارٌ طبيعي تكويني لحركة الحجر في الهواء، فهذه الحجرة لن تذهب شرقاً أو غرباً وإنما تحدد مسار هذه الحجرة وفقاً لقانون الجاذبية الأرضية التي اكتشفها نيوتن كيف اكتشفها نيوتن، كان نايم عند شجرة وطاح على رأسه تفاحة ففكر قال: هذه التفاحة لماذا لم ترتفع إلى الأعلى بل سقطت على الأرض؟! إذاً توجد جاذبية أرضية لو غيره أكل التفاحة وقال رزق ساقه الله إلي.

هذا بالنسبة إلى ماذا؟ الحجر، فالطبيعة لم تعطي الحجر أي فرصة، وأمكن التنبؤ بمسير حركة الحجر، هذا خطّ عملي مرسوم وفق قانون تكويني.

ولكن لو ألقيت هذا الحجر على حيوان كالهرة المسكينة فإنها ستهرب وهنا نسأل هذا السؤال هل يمكن أن تتنبأ بحركة الهرة إلى أين ستهرب؟ إنك لن تستطيع تحديد جهة هروب الهرة لأن الطبيعة لم تقيد خط سير الهرة بالقدر الذي قيدت به خط سير الحجر.

الآن نترقى درجة ثالثة أول شيء درسنا حركة الحجر وقلنا يمكن التنبؤ به، ثاني شيء درسنا خط حركة الحيوان كالهرة وقلنا لا يمكن التنبؤ به، الآن شيء ثالث ارفع وهو خطّ حركة الإنسان وهذا لا يمكن أن تتنبأ به أكثر من الحيوان، لماذا؟

السرّ في ذلك:

إن الإنسان حركته أوسع فرصة من الحيوان لأمرين:

الأمر الأول وجود غرائز الإنسان، فغرائز الإنسان أكثر من غرائز الحيوان فغرائز الحيوان محدودة وغرائز وشهوات الإنسان أكثر، فعند الإنسان ميول روحية وميول جسدية.

وبالتالي لا يمكن التنبؤ بتصرف الإنسان، ويكون التنبؤ بحركة الإنسان مشكلاً، فلعله عند إلقاء الحجر عليه يميل إلى الهروب، ولعله يتلقى الحجر في جبهته وهذا محتمل في الإنسان وغير محتمل في الحيوان، الحيوان ما يتلقى الحجر يهرب، ولكن الإنسان العقائدي قد يتلق حجار بصدره ورأسه.

الأمر الثاني وجود العقل عند الإنسان، فالعقل يتحكم في هذه الغرائز والميول، وينظر إلى المصالح والمفاسد، وبالتالي تكون دائرة التصرفات البديلة عند الإنسان كثيرة وأوسع من الحيوان فينتزع عن الإنسان عنوان الاختيار، والاختيار عنوان ينتزعه العقل من سعة منطقة الفراغ ودائرة الفرصة التي تعطيها الطبيعة للإنسان.

فالطبيعة لم تعطي للجماد خيارات كثيرة، وعينت لحركة الحجر خطاً مرسوماً من البداية إلى النهاية فهذا قصرٌ محض، لكنها أعطت الحيوان بعض المساحة بحيث يشكل التنبؤ والتكهن بحركة الحيوان، وأما بالنسبة للإنسان فحركته أوسع بكثير من الحيوان، نظراً لوجود الشهوات من جهة والعقل من جهة أخرى.

والعجب كل العجب أن هذا الكلام يصدر ممن يسمون بفلاسفة، إذ أن هذا الكلام لا يرجع إلى محصل لأن مرجعه إلى أن الاختيار هو أمر وهمي غير حقيقي، فقولهم: إن الفرصة المتاحة للحيوان هي أكبر من الفرصة المتاحة للجماد والحجر، والفرصة المتاحة للإنسان هي أكبر من الفرصة المتاحة للحيوان، هذا إنما يخضع إلى نظر الملاحظ، فالملاحظ والمتأمل بمقدار علمه يستطيع أن يحدد مسير حركة الحجر أو الهرة أو الإنسان.

فلو أطلع الإنسان على الخصوصيات، ودرس الفيزياء والكيمياء وعلم النفس والاجتماع فإنه سيستطيع أن يتنبأ بحركة الحيوان لأنه درس ردة فعل الحيوان، وهكذا يستطيع أن يتنبأ بحركة الإنسان.

فمثلاً: لو أغلقت الحجرة على الهرة وسعيت لقتلها فإنها تهجم عليك وتقتلك، يا روح ما بعدك روح، لأن الحرب ستكون حرب وجود، فكيف تقول لا نستطيع أن نتنبأ بحركة الهرة؟! فالهرة إذا أغلقت عليها جميع المنافذ وهكذا أي حيوان إذا تقتله تسعى لقتله وما تترك إليه منفذ يهاجمك للدفاع عن نفسه وعن وجوده.

وهكذا بالنسبة إلى حركة الإنسان، فالغرب سيطر على الشرق من خلال علمي النفس والاجتماع، علم النفس يدرس السلوك الشخصي وعلم الاجتماع يدرس السلوك الجمعي، وعملوا الخطط والدراسات لكي يسيطروا على العالم من خلال معرفة فن السلوك.

إذاً يمكن التنبؤ والتكهن بهذه الأفعال، فمنشأ هذا القول هو الجهل بالخصوصيات، الجهل بخصوصيات الفيزياء والكيمياء بالنسبة إلى الحجر، والجهل بخصوصيات علم النفس والاجتماع بالنسبة إلى الإنسان، والجهل بغرائز وميول وشهوات الحيوان بالنسبة إلى الحيوانات.

فهناك خصوصيات كثيرة وغامضة بعضها بالنسبة إلى الإنسان نفساني وبعضها خارجي ولا يمكن استيعابها، فالعاقل يتوهم أن هذا الإنسان يختار، ولكن لو استوعبت تمام هذه الخصوصيات الدخيلة في تحركه يكون حال الإنسان حال الحجر، فكما أن الحجر يتنبأ بالدقة بالنسبة إلى مساره كذلك لو أطلع على تمام خصوصيات الإنسان.

فالقول بأن الاختيار يرجع إلى هذا المعنى معناه أن الاختيار أمر وهمي للجهل وعدم الإطلاع على كامل الخصوصيات الدخيلة في تحرك الإنسان أو الحيوان.

وبالتالي يكون هذا هو عين القول بالجبر وليس دفعاً لشبهة الجبر، يعني إذا تعرف خصوصيات الإنسان وكذا وكذا يصير بعد مسير لا مخير ومجبور.

إذاً المسلك الثالث ليس بتام.

المسلك الرابع لحل الشبهة الفلسفية

وهو مختار المحقق النائيني هذا يسوى الكلام فيه أما ما يعني الأمر الثاني والثالث درس اليوم ما يسوى الكلام فيهم.

المسلك الرابع يأتي عليه الكلام.


[1] كتاب مشكلة الحرية في الفلسفة الوجودية، ص44، السيد عبد العزيز حباتر.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo