< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/05/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المقام الثاني ملاك دلالة مادة وصيغة الأمر على الوجوب

 

محل البحث: الأوامر-الفصل الأول فيما يتعلق بمادة الأمر- والكلام في مادته يقع في عدة جهات-الجهة الثالثة دلالة مادة الأمر على الوجوب وملاكه- يقع الكلام في المقامين-تم المقام الأول-المقام الثاني

 

المقام الثاني: ملاك ونكتة استفادة الوجوب من الأمر

لقد تم الفراغ عن أصل دلالة كلمة الأمر وصيغة الأمر على الوجوب في المقام الأول، ويقع الكلام في المقام الثاني في ملاك دلالة الأمر على الوجوب صيغة ومادة، وهنا توجد ثلاثة مسالك:

ثلاثة مسالك في ملاك الدلالة على الوجوب

الأول مسلك الوضع

الثاني مسلك حكم العاقل

الثالث مسلك الإطلاق وقرينة الحكمة

المسلك الأول

وهو مسلك المشهور الذي يرى أن الوضع اللغوي هو الذي دلنا على أن لفظة الأمر مادة وصيغة تكشف عن الوجوب، بمعنى أن الأمر مادة وصيغةً موضوع لغةً للدلالة على حصة خاصة من الطلب وهي خصوص الطلب الوجوبي لا مطلق الطلب الأعم من الوجوب والاستحباب.

إثبات المسلك الأول

وإثبات المسلك الأول وهو الوضع يتوقف على إبطال المسلك الثاني وهو حكم العقل وإبطال المسلك الثالث وهو الإطلاق وقرينة الحكمة لأن الدليل عليه إنما هو الوجدان العرفي لأن العقلاء والعرف يرون أن المولى إذا أمر عبده وعصى صحت معاقبة وإدانته ومعاتبته وهذا يكشف عن الوجوب وهذا يكشف عن الوضع إذا بطل المسلكان الأخيران، وأما إذا ثبت أحد المسلكين كحكم العاقل في المسلك الثاني أو الإطلاق وقرينة الحكمة في المسلك الثالث فلربما يدعى أن حمل الأمر مادة وصيغة على الوجوب إنما هو بسبب حكم العقل أو بسبب الإطلاق وقرينة الحكمة لا بسبب الوضع اللغوي.

وبالتالي لا ينحصر وجه السيرة العقلائية والتفاهم العرفي في خصوص الوضع بل يوجد احتمالان آخران لا بدّ من نفيهما.

المسلك الثاني

حكم العقل وهو مسلك المحقق النائيني[1] ـ رحمه الله ـ فهو يرى أن دلالة الأمر على الوجوب إنما هي بحكم العقل، وتبعه على ذلك تلميذه الوفي السيد أبو القاسم الخوئي[2] .

المسلك الثالث

الإطلاق وقرينة الحكمة وهو مسلك المحقق الآخوند الخراساني[3] ، وذهب إليه أيضاً المحقق العراقي[4] [5] فقال صاحب الكفاية والمحقق العراقي: بأن دلالة الأمر على الوجوب إنما هي بسبب الإطلاق ومقدمات الحكمة.

إذاً لإثبات المسلك الأول وهو الوضع لابدّ من إبطال المسلك الثاني والثالث وهو ما يأتي تباعاً.

محاولة إبطال المسلك الثاني

وحاصل ما ذكره المحقق الشيخ حسين النائيني في توضيح مسلكه: هو أن المدلول اللفظي للأمر صيغة ومادةً إنما هو الطلب بمعنى تصدي المولى لتحصيل الفعل، فحينما يقول المولى: «أمرك أو صم» فمفاد كلامه إنما هو طلب فعل الصيام من المكلف، وهذا طلبٌ وقد تصدى المولى لتحصيل الفعل من قبل العبد.

وهنا توجد حالتان:

الحالة الأولى أن يقترن طلب الصيام ببيان من قبل المولى على جواز الترخيص والترك، وهذا البيان قد يكون متصلاً بالكلام كما لو قال له: «صم ولكن يجوز لك ترك الصيام»، وقد يكون مقترناً ببيان منفصل كما لو قال بعد ساعة أو ساعتين: «لا بأس بترك الصيام».

إذا الحالة الأولى أن يقترن طلب المولى بقرينه تدل على الترخيص إما متصلة أو منفصلة.

الحالة الثانية أن يتصدى المولى لتحصيل الفعل من قبل العبد ولا يقترن كلامه ببيانٍ على جواز الترخيص فلا توجد قرينة متصلة ولا منفصلة تدل على الترخيص.

وهنا نقول

أما بالنسبة للحالة الأولى وهي اقتران الطلب بقرينة متصلة أو منفصلة تدل على الترخيص:

فإن مثل هذا الطلب لا يشكل موضوعاً لحكم العقل بوجوب التحرك والامتثال لإمكان أخذ العبد بالرخصة في المقام ولا ضير عليه ولا إشكال إذ أن المولى أذن ورخص في الترك.

أما بالنسبة الحالة الثانية وهي أن الطلب لم يقترن بترخيص متصل أو منفصل وقد تصدى المولى لبيان تمام الطلب وهذا يشكل موضوعاً لحكم العقل بلزوم التحرك على طبق أمر المولى[6] .

لأن المولى حرك العبد ولم يرخصه في ترك التحرك، هنا يأتي العاقل ويقول: بمقتضى مولوية المولى وعبودية العبد يكون الطلب موضوعاً للزوم التحرك بحكم العقل، وفي هذه المرحلة يتصف الطلب بعنوان الوجوب.

إذا الوجوب صفة تتحقق للطلب بلحاظ وقوعه موضوعاً لحكم العقل بلزوم التحرك، وهذا الوجوب ليس سابقاً على مادة وصيغة الأمر بل يقع في مرتبة متأخرةٍ عن صدور الطلب من المولى، بل حكم العقل بالوجوب في طول وفرع صدور الطلب من المولى.

فبناءً على دلالة الأمر على الوجوب من ناحية اللغة تكون دلالة الأمر على الوجوب في مرتبة أسبق وهي مرتبة وضع الوضع اللغوي، ولكن بناء على استفادة الوجوب من مادة وصيغة الأمر من حكم العقل تكون استفادة الوجوب في مرتبة متأخرة فأولاً يصدر الأمر والطلب من المولى وهنا يأتي حكم العقل ويقول يجب التحرك لنظر المولى وحيث لم ينصب قرينة على جواز الترخيص لا متصل ولا منفصلة يرى العقل ويحكم بوجوب تنفي أمر المولى وطلبه فيستفاد الوجوب من مادة وصيغة الأمر ببركة حكم العقل.

فالوجوب ليس أمراً لغوياً ولا أمراً شرعياً سابقاً على الأمر بل الوجوب حكم عقلي يستفاد في مرتبة متأخرة عن صدور الأمر والطلب من المولى.

إذاً كلما صدر من المولى شيء يسمى طلب سواء كان هذا الطلب بمادة الأمر كما لو قال: «أمرك» أو بصيغة الأمر كما لو قال: «صلّ، صمّ» أو بلسان آخر كما لو أشار ولم يتكلم، ولم يقترن ما صدر من المولى من أمرٍ بقرينة تدل على الترخيص متصلة أو منفصلة، فمثل هذا الطلب طلب وجوبي أي أنه يقع موضوعاً لحكم العقل بلزوم التحرك على طبقه من باب قانون المولوية والعبودية.

إذاً استفادة الوجوب من مادة وصيغة الأمر لا يحتاج إلى دلالة لفظية فإن اللفظ لا يدل على الوجوب وإنما الوجوب شأن من شؤون حكم العقل وهو يترتب على صدور الطلب من قبل المولى.

هكذا أفاد الميرزا النائيني ـ رحمه الله ـ .

المناقشة الشهيد الصدر على النائيني رحمة الله عليهما

والثمرة بين الأقوال الثلاثة تظهر عند تعارض الأدلة، ولها ثمار فقهية ستأتي إن شاء الله، لكن الشهيد الصدر ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ ناقش الميرزا النائيني بحقّ حلاًو نقضاً[7] .

إذا يقع الكلام في مقامين:

المقام الأول الجواب الحلي.

المقام الثاني الجواب النقضي.

 

الجواب الحلي:

إننا نمنع أن يكون موضوع حكم العقل بلزوم الإطاعة هو مجرد صدور الطلب من المولى مع عدم بيان الترخيص.

والسرّ في ذلك:

أنه لو صدر طلب من المولى ولم يصدر ترخيص بالترك، ولكن علم واقعاً أن المولى يقبل بالترك، وهذا العلم الواقعي لم نستند فيه إلى بيان المولى/ ولكن علمنا أن الطلب الصادر من المولى نشأ من ملاكٍ غير شديد، وأن المولى تطيب نفسه ويرضى بتفويت هذا الملاك، ففي مثل هذه الحالة لا يحكم العقل بلزوم الامتثال ولا يرى المخالفة فيه مخالفة ومنافية مع العبودية، فلا يكون العبد بنظر العقل عاصياً أو مستحقاً للعقاب.

إذا ليس الميزان في حكم العقلاء بلزوم الامتثال هو مطلق صدور الطلب من المولى مع عدم بيان الترخيص بالمخالفة بل الميزان هو صدور الطلب من المولى بملاك شديد وأكيد بحيث لا تطيب نفسه بالمخالفة.

وهذا الملاك الشديد والأكيد يحتاج إلى كاشف فإذا صدر الطلب من المولى ولم يعلم أنه صدر بملاك شديد وأكيد أم بملاك خفيف غير أكيد بحيث تطيب النفس بالمخالفة ويقبل المولى بالترك، فكيف يحمل حينئذ على الوجوب والحال أن العقل في مثل هذه الصورة لا يحكم بلزوم الطاعة؟!

إذا لا بد أن يدعى في مرتبة سابقة أن لفظة الأمر تدل على الطلب الشديد والأكيد، وهذا رجوع إلى الدلالة اللفظية، فمن أين نستفيد أن الطلب شديد وأكيد؟ إما ببركة الوضع اللغوي كما في المسلك الأول أو ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة كما في المسلك الثالث.

وأما حكم العقل الذي هو ملاك المسلك الثاني فهو لا يثبت كون الطلب قد صدر بملاك أكيد وشديد.

إذاً بعد الالتفات إلى أن حكم العقل بلزوم الطاعة لا يكفي في مجرد صدور الطلب من دون ترخيص كما يقول الميرزا النائيني بل أخذ في موضوعه صدور الطلب وأن يكون قد صدر بملاك شديد بحيث لا يرضى المولى بالمخالفة فحينئذ كيف نعرف أن واقع نفس المولى أن الملاك عنده شديد وأكيد كيف نعرف أن نفسه ترضى بالمخالفة أو لا ترضى بالمخالفة؟ هذا لا يمكن للعقل أن يثبته أو ينفيه وإنما المرجع في معرفة أن الملاك شديد أو خفيف غير أكيد هو الوضع اللغوي كما في المسلك الأول أو الإطلاق ومقدمات الحكمة كما في المسلك الثاني.

إذاً لا يستفاد الوجوب من حكم العقل كما عليه الميرزا النائيني، ولا يستفاد الوجوب من مرتبة متأخر عن اللفظ وفي طول صدور اللفظ بل يستفاد الوجوب من مرتبة سابقة وهي مرتبة الوضع اللغوي دون مرتبة حكم العقل المتأخرة ودون مرتبة الإطلاق ومقدمات الحكمة التي سيأتي إبطالها عند التطرق إلى إبطال المسلك الثاني.

هذا البيان جواب حلي حلّ المطلب إذ أن الميرزا النائيني ذكر أن تمام النكتة هي صدور الطلب من المولى مع عدم صدور الترخيص وهذا هو موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال فيكون الجواب الحلي إن موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ليس هو الطلب مع عدم صدور الترخيص بل هو الطلب وأن يكون ملاك الطلب شديداً وأكيداً بحيث تكون نفسية المولى غير راضية بالترك وآبية عن المخالفة.

الخلاصة

الملاك هو صدور الطلب مع اقترانه بالملاك الشديد القوي في نفس المولى وهذا الموضوع ينحصر إثباته باللفظ اللغوي لا بالحكم العقلي، فإذا لم نقل بأن لفظ الأمر يدل على الوجوب وضعاً وأنه يدل على أن الطلب قد صدر بملاك شديد وقوي في نفس المولى بحيث لا يرضى بالترك والمخالفة فكيف يتم حكم العاقل بلزوم الامتثال والحال أن العقل لا يشخص الملاك الواقعي في نفس المولى وأنه ملاك شديد أو ضعيف؟

هذا تمام الكلام في المقام الأول، الجواب الحلي.

المقام الثاني الجواب النقضي يأتي عليه الكلام.

 


[7] بحوث في علم الأصول، تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، ج2، ص30.مباحث الأصول، السيد كاظم الحائري، ج2، ص12 وما بعدها.تقرير السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، بحوث في علم الأصول، ج2، ص8 وما بعدها.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo