< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

44/11/01

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الثالث والثمانون: الجهة الثانية تحقيق حال الصحة المأخوذة في عنوان المسألة

 

ويقع الكلام في عدة مقامات:

المقام الأول تفسير الصحة، وقد فسرت الصحة بعدة تفسيرات:

التفسير الأول إنها عبارة عن موافقة الأمر.

التفسير الثاني إنها عبارة عن موافقة الغرض.

التفسير الثالث إنها عبارة عما يسقط الإعادة والقضاء.

وقد ذكر سيد أساتذتنا السيد الخوئي[1] ـ رحمه الله ـ تبعاً للمحقق الآخوند الخراساني[2] أن هذه التفسيرات الثلاثة تفسيرات باللوازم لا الملزوم، وأن حاق معنى الصحة ليس عبارة عن هذه التفسيرات الثلاثة بل معنى الصحة ومدلوله المطابقي هو التمامية وعدم النقصان، وهذه الأمور الثلاثة من لوازم التمامية، ولأن الصحة هي عبارة عن التمامية في مقابل النقصان لا نتعقل الصحة إلا في المركبات التي تشتمل على أجزاء وشرائطـ، ولا تتصور الصحة في الأمور البسيطة.

فالمركبات إما أن تكون تامة وإما أن تكون ناقصة دون الأمر البسيط الذي ليس له جزءٌ ولا شرط.

إذاً المراد بالصحة هو التمامية في مقابل النقصان هذا أولاً.

وثانياً المراد بالتمامية التمامية ذات الشيء أي استجماع الشيء لجميع الأجزاء والشرائط كما أن المراد بالنقصان لحاظ أيضاً ذات الشيء أي نقصان الشيء وعدم استجماعه لبعض الشرائط أو الأجزاء.

وأما موافقة الأمر أو موافقة الغرض أو إسقاط الأداء والقضاء فهذه من شؤون التمامية ومن لوازم التمامية لا أن هذه الأمور من مقومات التمامية.

إلا أن السيد الشهيد الصدر ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ علق على كلام المحقق الخراساني والسيد الخوئي بتعليقين بحقّ[3] .

التعليق الأول إن الصحة والفساد بحسب الدقة ليس بمعنى التمامية والنقصان بل المراد بالصحة الواجدية للخصوصية المطلوبة والمرغوبة في الشيء، والمراد بالنقصان عدم الواجدية للخصوصية المطلوبة والمرغوبة في الشيء.

ولذلك توصف حتى الأمور البسيطة بأنها صحيحة أو فاسدة، فتقول للتفكير البسيط: هذا تفكير صحيح، وهذا تفكير فاسد، فالتفكير الصحيح هو التفكير الواجد للخصوصية المطلوبة والمرغوبة، والتفكير الفاسد هو التفكير الفاقد للخصوصية المرغوبة والمطلوبة.

فالمراد بالتفكير الصحيح هو الذي يوصل إلى الواقع والتفكير الفاسد هو الفاقد لخصوصية الإيصال إلى الواقع.

إذاً ما نراه من صحة نسبة الصحة والفساد إلى الأمور البسيطة دليلٌ على أن مفاد الصحة والفساد ليس هو التمامية والنقصان كما قال صاحب الكفاية والسيد الخوئي بل الملاك هو الوجدان للخصوصية المطلوبة وعدم الوجدان.

نعم، وجدان الخصوصية في المركبات صغراه هو توفر جميع الأجزاء والشرائط كما أن عدم الواجدية في المركبات مصداقه في المركبات نقصان بعض الأجزاء أو الشرائط، فالتمامية صغرى من صغريات الصحة، والمراد بالصحة الواجدية، والمراد بالفساد عدم واجدية الخصوصية.

إنصافاً هذا كلام دقيق وعميق.

التعليق الثاني من قال إن التمامية أو الواجدية بلحاظ نفس الشيء وذاته بل الصحيح إن التمامية أو الواجدية بلحاظ شيء آخر وهو المقياس والضابط فالصحة سواءً قلنا إنها بمعنى التمامية كما عليه السيد الخوئي وصاحب الكفاية أو قلنا إن معناها هو الواجدية كما عليه الشهيد السيد محمد باقر الصدر لا معنى لأن يقال: أن معنى الصحة هو الواجدية أو التمامية بلحاظ أجزاء وشرائط الشيء نفسه بل إن التمامية فضلاً عن الواجدية إنما تكون دائماً ملحوظة بلحاظ شيء آخر فدائماً نحتاج إلى شيء آخر نلحظه مقياساً في مقام فرض أن هذا شيء صحيح أو هذا باطل.

بيان ذلك بشكل معمق:

إن الشيء بلحاظ نفسه وبحدّ ذاته تامٌ دائماً ولا يكون ناقصاً حتى الشيء الفاسد بلحاظ نفسه هو قائم بنفسه فهو تامٌ فالشيء لا يكون شيئاً إلا إذا كان تاماً. نعم، نحن نلحظه شيئاً فاسداً بلحاظ مقياس آخر وهو عدم توفره على شرطٍ معين أو عدم توفره على جزءٍ معين وإلا الشيء لا يصبح شيئاً ولا تصبح له كينون ووجود إلا إذا كانت تاماً ولا يعقل أن يكون الشيء بحدّ ذاته وبلحاظ نفسه ناقصاً وليس تاماً.

إذاً إذا لاحظنا الشيء في نفسه فكل شيءٍ في العالم واجدٌ لتمام أجزائه وشرائطه، ويستحيل عليه النقصان وعدم التمامية، فإن الشيء بلحاظ نفسه لا محالة واجدٌ لذاته، وذاته عبارة عن جميع الأجزاء والشرائط التي توفر عليها، فالمسطرة مثلاً تامة دائماً في نفسها لكن بالقياس إلى مقياس آخر مصمم قد تكون هذه المسطرة غير واجدة لبعض الشرائط، فنقول: هذه مسطرة ناقصة أي بلحاظ المقياس الآخر، وإن كانت بحد ذاتها تامة.

إذاً ليس الإتصاف بالصحة أو الفساد كما تصوروه وصفاً ذاتياً يلحظ بلحاظ ذات الشيء دون أن يضاف إلى شيءٍ آخر، وعليه فما يضاف إليه لكي يكون مقياساً لصحته وفساده هو أحد هذه العناوين، العناوين الثلاثة المتقدمة: إسقاط الإعادة والقضاء أو موافقة الأمر أو موافقة الغرض فأحد هذه الثلاثة مقياسٌ للصحة والفساد.

وهذا معنى ما أفاده المحقق المدقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني من أن التمامية تتحصل بهذه العناوين[4] .

فالمحقق الأصفهاني يقول: إن المحصِل أي المقياس الذي يوجب حصول التمامية هو أحد هذه العناوين الثلاثة إسقاط الأداء أو القضاء، موافقة الأمر، موافقة الغرض.

ومن هنا يتضح أنه لا وجه لإيراد السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ على أستاذه المحقق الأصفهاني بدعوى أن المقصود التمامية بلحاظ الأجزاء والشرائع لا أن التمامية بمعنى موافقة الأمر أو الغرض أو إسقاط الإعادة والقضاء[5] .

بيان ذلك:

إن المحقق الأصفهاني لا يريد أن يقول إن هذه العناوين الثلاثة هي نفس التمامية بل المحقق الأصفهاني يقول: مقياس وضابط التمامية هي هذه العناوين الأخرى، فالمحقق الأصفهاني قد يفهم من كلامه أن التمامية ليس عبارة عن الأجزاء والشرائط بلحاظ ذات الشيء ونفس الشيء فإنه حتى الشيء الناقص والصلاة الناقصة والحج الناقص والفاسد هو بحدّ ذاته تام لكن بلحاظ أنه يسقط الأداء أو القضاء ناقص، بلحاظ أنه موافق للغرض أو موافق للأمر ناقص.

فإذاً هذه العناوين الثلاثة محققة للتمامية بناءً على مبنى السيد الخوئي وصاحب الكفاية، ومحققة للواجدية بناءً على مبنى الشهيد الصدر إلا أن الصحة ليس هو هذه العناوين الثلاثة بل الصحة هو بمعنى الواجدية بناءً على مبنى الشهيد الصدر وهو ما نختاره، أو هو بمعنى التمامية، وسواءً التزمنا بالواجدية أو التمامية ليس المراد الوجدية والتمامية لنفس ذات الشيء بل المراد الواجدية والتمامية لمقياسٍ وضابطةٍ ذكرها الشارع المقدس غير ذات الشيء.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني هل يؤخذ العنوان الانتزاعي في معنى الصحيح أو لا؟

ذكرنا ثلاثة عناوين، وهي: <موافقة الأمر، وموافقة الغرض، وإسقاط الأداء والقضاء> ومن الواضح أن هذه العناوين انتزاعية، فعندنا الصلاة الصحيحة، والحج الصحيح، والصوم الصحيح، وننتزع من العبادة الصحيحة أنها موافقة للأمر، وننتزع أنها موافقة لغرض المولى، وننتزع أنها تسقط الأداء فلا يجب الأداء فضلاً عن القضاء.

إذاً هذه العناوين الثلاثة عناوين انتزاعية وليست عناوين حقيقية أي عناوين انتزعناها من العبادة الصحيحة.

من هنا يأتي هذا السؤال هل هذه العناوين الانتزاعية يمكن أن نأخذها في معنى الصحيح وحقيقة العبادة الصحيحة أو لا؟

فيقال: الصحيح هو الواجد لهذه الخصوصية أنه موافقٌ للغرض وموافقٌ للأمر ومسقطٌ للأداء والقضاء، فالقائل بالصحيح يحتمل في حقّه احتمالان:

الاحتمال الأول أن يكون المراد هو الوضع لمنشأ انتزاع هذه العناوين هو الفعل الذي يكون بحيث ينتزع عنه عنوان <موافقة الأمر أو موافقة الغرض أو إسقاط القضاء والإعادة> هذه العناوين الثلاثة مشيرة إلى ذات الشيء والفعل ومعرفة لذات الشيء والفعل.

وهذا الاحتمال الأول هو الاحتمال الذي انعقد البحث على أساسه، المراد بالصلاة الصحيحة يعني الفعل الصحيح، مراد بالحج الصحيح يعني الحج الذي فيه قد توفرت الأجزاء والشرائط المطلوبة والمرغوبة، فيراد بالصحة ويراد بهذه الأمور الانتزاعية الثلاثة الإشارة إلى الفعل الذي هو منشأ انتزاعها.

الاحتمال الثاني أن يقصد إدخال أحد هذه العناوين بنفسه في المسمى خلافاً للاحتمال الأول، الاحتمال الأول هذه العناوين الثلاثة ليست داخلة في مسمى الصحة، فالعناوين الانتزاعية ليست داخلة في مسمى الصحة بناءً على الاحتمال الأول، ولكن بناءً على الاحتمال الثاني نلتزم بأن هذه العناوين الانتزاعية دخيلة في تسمية العبادة بالصحة.

ومن هنا ينبثق هذا السؤال: أي هذه العناوين الثلاثة يمكن ويعقل أن يدخل في المسمى وأيها لا يمكن ولا يعقل أن يدخل في المسمى؟

الجواب: عنوان موافقة الأمر وعنوان إسقاط الأداء والقضاء لا يعقل أن يدخل في التسمية لأن يلزم الدور، إذ أن موافقة الأمر فرع ثبوت الأمر، فكيف يؤخذ موافقة الأمر في نفس عنوان الأمر الصحيح، وهكذا إسقاط الأداء والقضاء يعني إسقاط الأمر بالأداء أو القضاء، وإسقاط الأمر وإسقاط الأداء أو القضاء متأخر رتبةً عن الأمر الذي هو متقدم رتبةً فكيف تؤخذ ويؤخذ إسقاط الأداء أو القضاء في نفس الأمر؟ يلزم الدور.

نعم، موافقة الغرض ممكنة.

ومن هنا نقول إن عنوان موافقة الأمر والمسقطية للإعادة والقضاء لا ينتزعان من الفعل إلا في طول ثبوت الأمر فلا يعقل تعلق الأمر بهما. نعم، عنوان محصلية الغرض ليس في طول الأمر، تحصيل الغرض ليس فرع الأمر، يمكن للمكلف أن يحصل الغرض ولو من دون أمرٍ محصلية الغرض في طول نفس الغرض، فيعقل تعلق الأمر بمحصل الغرض، فيعقل أن يكون محصل الغرض هو المسمى، هذا كلامنا في عالم الإمكان، عالم الثبوت، لا في عالم الإثبات.

إذاً القائل بالصحيح مدعو إلى أن يصور سنخ مسمى الصحيح الذي يمكن أن يتعلق به الأمر، فإما أن يختار الاحتمال الأول وهو الفعل الذي هو منشأ الانتزاع وكلامنا مبني على هذا الاحتمال الأول، وإما أن يختار الاحتمال الثاني فيأخذ بالممكن من الاحتمال الثاني وهو خصوص محصل الغرض دون موافقة الأمر أو إسقاط الأداء والقضاء

إذاً نذكر الخلاصة ونختم:

كلامنا في المقام الثاني في أن العنوان الانتزاعي كأحد هذه العناوين الثلاثة هل يعقل دخوله في معنى الصحيح أو لا؟ هنا يوجد احتمالان:

الاحتمال الأول المراد الفعل الذي هو منشأ انتزاع هذه الأمور الثلاثة، إذا المراد بالصحيح نفس الفعل الذي هو منشأ الانتزاع هنا لا يعقل أن تأخذ العناوين الثلاثة في نفس السؤال هذا الاحتمال الأول.

الاحتمال الثاني أن نلتزم بـأنه ممكن أخذ أحد هذه العناوين الثلاثة الانتزاعية في مسمى الصحة، هنا نسأل ما هو المعقول أخذه في نفس الصحة من هذه العناوين الثلاثة؟

الجواب: المعقول هو موافقة الغرض موافقة الغرض فرع وجود الغرض وليست فرع أمر، فهنا يمكن أن يتأخر الأمر عن محصل الغرض، فيقول المولى: <أمرك بالإتيان بمحصل الغرض> فيكون المراد بالصحيح هو محصل الغرض، هذا ممكن.

ولكن لا يمكن أخذ موافقة الأمر أو المسقط للأداء والقضاء لأن موافقة الأمر فرع تقدم الأمر، وكذلك إسقاط الأداء والقضاء فرع تقدم الأمر، فكيف تؤخذ الموافقة المتأخرة عن الأمر في نفس الأمر؟! وكيف تؤخذ موافقة الأمر التي هي متأخرة عن الأمر في نفسي إيجاد الأمر؟!

إذاً أخذ أحد هذين الأمرين الانتزاعيين وهما موافقة الأمر أو إسقاط الأداء والقضاء غير معقول أن يؤخذا في نفس الصحة ونفس الأمر بالصحيح.

ولكن يعقل أن يؤخذ الأمر الانتزاعية الثالث وهو موافقة الغرض في نفس مفهوم الصحة لأن موافقة الغرض ليست فرع الأمر موافقة الغرض فرع الغرض.

ومن هنا يمكن أن يقول المولى إن أمري بالصحيح عبارة عن الإتيان بالصلاة المحققة للغرض.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني.

المقام الثالث يأتي عليه الكلام.


[1] المحاضرات، ج1، ص135.
[2] كفاية الأصول، ج1، ص35، حسب الطبعة المشتملة على تعليق المحقق المشكيني.
[3] مباحث الأصول، السيد كاظم الحائري، ج1، ص310.بحوث في علم الأصول، الشيخ حسن عبد الساتر، ج3، المجلد 1، ص13.
[4] نهاية الدارية في شرح الكفاية، ج1، ص50، طبعة مطبعة الطباطبائي في قم.
[5] محاضرات في أصول الفقه، تقرير الشيخ الفياض للسيد الخوئي، ج1، ص135.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo