< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

44/10/29

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الثاني والثمانون: الصيغة الثانية وهي التي تصورها المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني[1]

 

ومضمونها إن الصحيحي يقول:

إن اللفظ دائماً يستعمل في الصحيح، وحينما يرى استعمال اللفظ في الأعم، ويقصد منه الأعم، فإن اللفظ لا يستعمل في الأعم يستعمل في خصوص الصحيح، لكن يعمل العقلاء عناية عقلية فيوسعوا دائرة الصحيح وينزل الفاسد منزلة الصحيح، فـبالعناية والتنزيل يريد الأعم، وإن استعمل اللفظ في خصوص الصحيح.

أعيد وأكرر يقول الصحيحي:

إن المستعمل دائماً يستعمل اللفظ في خصوص المعنى الصحيح ولا يستعمله في المعنى الأعم لكنه إن قصد وأراد المعنى الأعم فإنه لا يستعمل اللفظ في المعنى الأعم، وإنما يستعمل اللفظ في خصوص المعنى الصحيح لكنه ينزل الفاسد منزلة الصحيح فيدل اللفظ على المعنى الأعم ببركة العناية العقلية، وهي تنزيل الفاسد منزلة الصحيح.

لا، لأنه استعمل اللفظ في المعنى الأعم بل استعمل اللفظ في خصوص الصحيح لكنه نزل الفاسد منزلة الصحيح فدلّ اللفظ على المعنى الصحيح ببركة هذه العناية العقلية.

هذا التخريج بالنسبة إلى الصحيحي.

وأما تخريج الأعمي فهو يقول:

إن اللفظ دائماً يستعمل في الأعم ولا يستعمل في الصحيح، ولكن كيف يدل اللفظ على المعنى الصحيح، والحال إن اللفظ دائماً يستعمل في المعنى الأعم من الصحيح والفاسد؟

والجواب:

يمكن استفادة الصحيح ببركة تعدد الدال والمدلول فاللفظ مستعمل في الجامع بين الصحيح والفاسد لأن اللفظ حسب مدعى الأعمي لا يستعمل إلا في الجامع الأعم من الصحيح والفاسد لكن استفادت خصوص الصحيح إنما يكون ببركة دالٍ آخر يدل على خصوص الصحيح فلابدّ من وجود الدليل الدال على دال آخر يفيد خصوص المعنى الصحيح.

أعيد وأكرر بشكل موجز لأنه سوف نناقش، يقول الصحيحي:

اللفظ يستعمل في خصوص الصحيح دون الأعم، وإذا أريد المعنى الفاسد أو الأعم فهذا إنما يستفاد ببركة تنزيل الفاسد منزلة الصحيح لا ببركة استعمال اللفظ في المعنى الفاسد أو الأعم من الفاسد والصحيح فالصحيح يقول: الاستعمال دائماً في خصوص المعنى الصحيح دون المعنى الأعم، واستفادة الأعمية ببركة تنزيل الفاسد منزلة الصحيح أي ببركة العناية العقلية.

وأما الأعمي فهو يقول:

اللفظ دائماً يستعمل في المعنى الأعم ولا يستعمل في المعنى الصحيح وإذا قصد المعنى الصحيح فالدال عليه دال آخر غير نفس الاستعمال فاللفظ دائماً يستعمل في الأعم، واللفظ يدل على الجامع بين الصحيح والفاسد، وإرادة الصحيح يدل عليها دال آخر غير استعمال اللفظة في معنى الجامع.

وبناءً على هذه الدعوة من المحقق الأصفهاني ـ رحمه الله ـ يتوصل المتنازعان إلى الثمرة المقصودة.

لأنه بناءً على مدعى الصحيحي إذا ورد اللفظ وعُلِمَ عدم إرادة المعنى اللغوي له فحينئذ يجب حمله على خصوص المعنى الصحيح لا على المعنى الأعم لأن إرادة الأعم تتوقف على العناية الزائدة فلابدّ من وجود دليلٍ على تنزيل الفاسد منزلة الصحيح.

وهذه العناية على خلاف الأصل إذ الأصل عدم وجود عناية فإذا شككنا في وجود ولم يدل الدليل عليها تمسكنا بالأصل وهو عدم وجود عناية فنحمل اللفظ على خصوص الصحيح.

هذا بناءً على مدعى الصحيح.

وأما بناءً على مدعى الأعمي فهو يحمل اللفظ على المعنى الأعم من الصحيح والفاسد لأن إرادة خصوص الصحيح تحتاج إلى عناية زائدة وهي وجود دال آخر يدل على خصوص المعنى الصحيح، فإذا جاء قيدٌ يدل على الصحة حملنا اللفظ على خصوص الصحيح ببركة القيد.

وإذا شككنا ولا يوجد دالٌ يدل على إرادة خصوص المعنى الصحيح فبمقتضى جريان مقدمات الحكمة يحمل اللفظ على الجامع أي على المعنى الأعم من الصحيح والفاسد.

إذا بناءً على تقريب المحقق الأصفهاني توجد ثمرة بين القول بالصحيح أو الأعم حتى لو لم نلتزم بوجود وضعٍ.

لكن هذه الصيغة لا يمكن المساعدة عليها فهي صيغة تدقيقية غير عرفية، فلو سألت القائل بالصحيح لما التفت إلى نكتة التنزيل تنزيل الفاسد منزلة الصحيح، ولو سألت الأعمي لما التفت إلى نكتة تعدد الدال والمدلول وأن اللفظ يدل على الجامع وصرفه إلى خصوص الصحيح يحتاج إلى دال آخر هذه تدقيقات عقلية غير عرفي هذا أولاً.

وثانياً ما أفاده الشهيد الصدر[2] ـ رضوان الله عليه ـ إذ قال:

<إن افتراض الأعمي غير عقلائي في المقام> أي في بحث وضع الأسماء للعبادات، فهذا الكلام بالنسبة إلى الأعمي قد يكون عقلائياً في أسماء الأجناس كـلفظ الإنسان ولفظ الحيوان، فيمكن أن تطلق لفظ الحيوان وتريد به حصة خاصة من الحيوان، وهو الحيوان الذي يعيش في بيتك كالحمام أو الدجاج، فتقول: <يا بني اطعم الحيوان> وتشير إلى الدجاج الموجود في منزلك، فهنا لفظ الحيوان دلّ على الأعم من الدجاج وغيره فلفظ الحيوان دالٌ على الأعم، ولكن هذه القرينة <أطعم هذا الحيوان> هذه القرينة دلت على خصوص حصة خاصة من الحيوان.

والثمرة في ذلك:

منع التجوز وأن يبقى الاستعمال استعمالاً مجازياً، فيمكن أن تأتي بلفظة ظاهرة في الأعم ثم تأتي بدالٍ آخرٍ يدل على خصوص الحصة الخاصة، والثمرة في ذلك: أن يبقى الاستعمال استعمالاً حقيقياً ولا يصبح مجازياً.

فمثلاً يأتي الضيف، ويقول: الولد لولده <يا بني أكرم هذا الإنسان> فإن لفظ الإنسان يشمل جميع الحصص، ولكن حينما أشار إلى ضيفه قائلاً: <أكرم هذا الإنسان> فإن هذا الدال الآخر، وهو قوله: <هذا> اسم الإشارة يدل على حصة خاصة، فهنا لم يطلق لفظ الإنسان على خصوص حصة خاصة وهي ضيفه إطلاقاً مجازياً وإنما استعمله استعمالاً حقيقياً.

إذاً إطلاق اللفظ على العام واستفادة الحصة الخاصة من دال آخر إنما يفيد في أسماء الأجناس كالحيوان والإنسان والشجر والحجر والمدر وغير ذلك، والثمرة هي التحفظ على كون الاستعمال حقيقياً ولا يكون مجازياً فيؤتى بالدال الآخر للدلالة على الخصوصية.

لكن في موطن بحثنا وهو أنه لا يوجد وضع إذا ما يوجد وضع يعني لا يوجد استعمال حقيقي يوجد استعمال مجازي أما استعمال حقيقي ما موجود لأنه لا وضع فتكون نسبة اللفظ إلى الأعم وإلى خصوص الصحيح على حدٍّ واحد فكل منهما مجاز، استعمال اللفظ في الجامع الأعم مجاز إذ لا وضع واستعمال اللفظ في خصوص المعنى الصحيح أيضاً مجاز إذ لا وضع فليس استعمال اللفظ في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز بل كل منهما مجاز ولا توجد طولية بينهما، فما هو المبرر العقلائي لاستعمال اللفظ في خصوص الأعم دون الأخص حتى نحتاج عند إرادة الأخص على إقامة دال يدل على الخصوصية.

إذاً تصوير الأعمي غير عقلاء إذ أن الاستعمال مجازي في كل منهما، وهما استعمالان عرضيان ولا طولية بينهما، هذا تمام الكلام في مناقشة صيغة المحقق الأصفهاني بالنسبة إلى الأعمي.

وأما مناقشة صيغة المحقق الأصفهاني بالنسبة إلى الأخصي فهي أيضاً غير صحيحة، إذ أنه قال: إن الصحيحي دائماً يستعمل اللفظ في الصحيح وإذا أراد الأعم ينزل الفاسد منزلة الصحيح، والحال إنه في الاستعمالات العرفية كثيراً ما نستعمل اللفظة في خصوص الفاسد، فتقول: الصلاة الفاسدة، فهل لفظة الصلاة الفاسدة معناه تستعمل لفظ الصلاة في الصحيحة ثم تنزل الفاسدة منزلة الصحيحة، فتقول: <الصلاة الفاسدة> هذا غير عرفي.

أو أحياناً تقول: <الصلاة إما صحيحة وإما فاسدة> فهل المراد الصلاة إما صحيحة وإما فاسدة أي نزل الفاسد منزلة الصحيحة؟

هذا أيضاً تخريجٌ غير عرفي فكثيراً ما يقع لفظ الصلاة في لسان الشارع ويراد به استعمال لفظ الصلاة في خصوص الفاسدة، وليس فيه رائحة ولا شائبة استعمال لفظة الصلاة في خصوص المعنى الصحيح.

إذاً في هذا الاستعمال الصلاة الفاسدة أو الصلاة إما صحيحة أو فاسدة لم ينزل الفاسد منزلة الصحيح فهذه الصيغة لتصوير النزاع أيضاً غير تامة.

الصيغة الثالثة ـ وهي صيغة سهلة وعرفية ـ وهي التي يمكن القول بها، وقال بها الشهيد الصدر[3] ـ رحمه الله ـ .

مفاد الصيغة الثالثة أن يقال:

أن الصحيحي والأعمي اللذين ينكران الحقيقة الشرعية والوضع أيام النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ إما أن يعترفا بثبوت وضعٍ بعد النبي كأيام الأئمة ـ عليهم السلام ـ وإما أن ينكر أصلاً تحقق وضعٍ وأنه لم يحصل وضع لا في أيام النبي ولا ما بعد النبي احتمالان لا ثالث لهما.

الاحتمال الأول إذا التزموا بأن الوضع لم يحصل أيام النبي أي أيام الشرع لكنه حصل بعد النبي أيام الأئمة ـ عليهم السلام ـ فهنا هذا تسليمٌ بأن اللفظ قد وضع للمعنى الشرعي بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وبالتالي يتحقق محل النزاع، فنقول: اللفظ مثل لفظ الصلاة ولفظ الحج حينما وضع في أيام الأئمة ـ عليهم السلام ـ هل وضع لخصوص الحج الصحيح أو وضع للأعم من الصحيح والفاسد، فيتصور النزاع بين الصحيحي والأعمي بناءً على الاحتمال الأول.

وأما بناءً على الاحتمال الثاني وهو إنكار وجود وضع أصلاً فلم يتحقق الوضع لا أيام النبي ولا ما بعد النبي فيمكن أيضاً تصوير ذلك بما أفادة المحقق الخراساني في كفاية الأصول بناءً على ما ذكره الباقلاني[4] .

مفاد ذلك:

نحن نلتزم بأنه لم يتحقق وضع لا أيام ولا ما بعد أيام النبي وأن اللفظ يستعمل في خصوص المعنى اللغوي ولكن قد نشك هل استعمل في المعنى اللغوي أو لا؟ وهنا نلتزم بوجود قرينة عامة هذه القرينة العامة دلت على المعنى الشرعي، فنحن وإن التزمنا بأنه لا يوجد وضع لكن توجد قرينة عامة، هذه القرينة العامة هي التي أثبتت المعنى الشرعي، ومن هنا يقع النزاع هل هذه القرينة العامة دلت على خصوص المعنى الشرعي الصحيح أو أن هذه القرينة العامة دلت على المعنى الشرعي الأعم الجامع بين الصحيح والفاسد؟

إذاً كل من الصحيحي والأعمي يتفق أولاً في عدم تحقق وضع، ويتفق ثانياً في وجود قرينة عامة تدل على المعنى الشرعي، لكنهما يختلفان في مدلول هذه القرينة العامة، هل هذه القرينة العامة تدل على خصوص المعنى الصحيح كما يقول الصحيحي أو تدل على المعنى الأعم الجامع بين الصحيح والفاسد كما يقول الأعمي؟

فهنا كل واحد واستظهاره، ومن هنا يتصور النزاع، فالصحيحي يستظهر أن القرينة تدول على خصوص المعنى الصحيح، والأعمي يستظهر من القرينة العامة المعنى الأعم الجامع بين الصحيح والفاسد، إذاً على كلا المبنيين لا يحمل اللفظ على المعنى اللغوي بل يحمل على المعنى الشرعي لوجود قرينة صارفة. نعم، اختلفا في مؤدى هذه القرينة الصارفة.

ولكن قد يتخيل في المقام أن هذا النزاع غير عقلائي إذ لا مدرك ولا دليل يدل عليه فهي مجرد دعوة معلقة في الهواء ولا دليل عليها إذ من أين أخبر الصحيحي أن مفاد القرينة العامة هو خصوص الصحيح ومن أين أخبر الأعمي بأن مفاد القرينة العامة التي نصبها النبي هي الجامع الأعم من الصحيح والفاسد إذ لم يرد في الروايات تحديدٌ لهذه القرينة فتكون دعوى كل منهما بلا موجب ودعوة بلا دليل.

لكن هذا التوهم غير صحيح لأن هناك وسيلة لإثبات هذا المدعى، وهذه الوسيلة هي التبادر، والتبادر إما أن يكون منشأه الوضع، وإما أن يكون منشأه القرينة بلا وضع.

ففي الاستعمال الحقيقي يكون التبادر علامة الحقيقة إذ أن يكشف عن استعمال اللفظ في معناه الذي وضع له هذا المورد الأول لدلالة التبادر على المعنى.

المورد الثاني إذا لم يكن وضع فإن تدل على المعنى وإن لم يكن هذا المعنى قد وضع لذلك اللفظ فمن خلال التبادر يستكشف أن القرينة العامة هي المعنى الشرعي غاية ما في الأمر يختلفان في الصغرى، الصحيحي يقول: أنا تبادر إلى ذهني من القرينة العامة خصوص المعنى الصحيح، والأعمي يقول: تبادر إلى ذهني من القرينة العامة هو المعنى الأعم.

إذاً كما أن التبادر مع عدم القرينة يكشف عن الوضع كذلك التبادر مع عدم الوضع يكشف عن المعنى، إذاً منشأ التبادر أحد سببين:

السبب الأول الوضع.

السبب الثاني القرينة.

فالتبادر مع عدم القرينة يكشف عن الوضع، والتبادر مع عدم الوضع يكشف عن وجود قرينة دالة على هذا المعنى الذي لم يوضع له اللفظ، إذا التبادر يكشف عن القرينة لا محالة.

إذاً النزاع بناءً على هذا المعنى، وهذه الصيغة الثالثة معقول وقابل للإثبات والنفي هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية يأتي عليها الكلام.


[1] نهاية الدارية في شرح الكفاية، الأصفهاني، ج1، ص48 إلى 50.
[2] بحوث في علم الأصول، تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، ج3، المجلد 1، ص9.
[3] تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول، ص10 و 11.وأيضاً يمكن مراجعة مباحث الأصول، ج1، السيد كاظم الحائري.
[4] حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم، ج1، ص53 و 54.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo