< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

44/10/26

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الواحد والثمانون: الصحيح والأعم في العبادات

 

الصحيح والأعم، ويقع الكلام في بحثين:

الأول الصحيح والأعم في العبادات.

الثاني الصحيح والأعم في المعاملات.

نشرع في البحث الأول وهو الصحيح والأعم في العبادات، ويقع الكلام في عدة جهات:

الجهة الأولى تصوير النزاع وقع في أن أسماء العبادات كـ <الصلاة والصوم والحج> هل هي موضوعة لخصوص الصحيح منها بحيث لا يطلق لفظ الحج على الحج الفاسد أم أن هذه المصطلحات والألفاظ قد وضعت للأعم من الصحيح والفاسد؟

فـ لفظ <الصلاة والصوم والحج> مثلاً يطلق على الحج الصحيح والفاسد معاً.

وهذا النزاع هل يتصور على جميع المباني في الحقيقة الشرعية أم أن هذا النزاع والاختلاف يتصور على بعض المباني في الحقيقة الشرعية دون المباني الأخرى؟

من هنا لابدّ من تصوير موطن النزاع فنقول ـ وبالله المستعان وإليه المرجع وعليه التكلان ـ :

إما أن نبني على حصول الوضع أو لا؟

المبنى الأول أن نبني على تحقق الوضع، وتحقق الوضع على أحد مبنين:

المبنى الأول ثبوت الحقيقة الشرعية، فنقول: إن الشارع المقدس قد وضع مصطلحات لمعانٍ شرعية فالقرآن الكريم أو الرسول الكريم قد وضع لفظ <الصلاة> لمعنى شرعي وهو عبارة عن الكيفية الخاصة من ركوعٍ وسجود وشرائط خاصة.

فبناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية وأن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قد وضع أسماء العبادات لمعانٍ شرعيةٍ خاصة فحينئذ يتصور بحث الصحيح والأعم، فهل وضع النبي لفظ الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك من العبادات لخصوص الصحيح منها أم أنه قد وضع هذه المصطلحات للأعم من الصحيح والفاسد منها.

إذاً بناءً على المبنى الأول وهو ثبوت حقيقة الشرعية يمكن تصوير موطن النزاع وأن أسماء العبادات هل وضعت لخصوص الصحيح من المعاني الشرعية أو للأعم من الصحيح والفاسد؟

المبنى الثاني للمبنى الأول وهو أن نلتزم بوجود وضع ولكن لا نلتزم بثبوت الحقيقة الشرعية، فهناك معنى شرعي للصلاة والصوم والحج إلا أنه كان في الشرائع السابقة على شريعة سيدنا ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ فالنبي الخاتم لم يضع أسماء العبادات لمعانٍ شرعيةٍ خاصة فلم تثبت الحقيقة الشرعية لكنه قد استعمل هذه الأسماء التي وضعت لمعاني شرعية في شرائع سابقة على مجيء الإسلام.

فعلى هذا المبنى الثاني أيضاً يتصور النزاع أن العبادات هل وضعت لخصوص الصحيح من العبادات أو الأعم من الصحيح والفاسد؟

هذا تمام الكلام بناءً على المبنى الأول الالتزام بثبوت وضعٍ.

المبنى الثاني إذا أنكرنا الوضع رأساً، وقلنا بأن لفظ الصلاة مثلاً لم يوضع للمعنى الشرعي لا على يدّ الشارع المقدس، وهو النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ولا على يدّ واضعٍ قبل الشارع كالأنبياء السابقين ـ عليهم أفضل صلوات المصلين ـ فيحينئذٍ كيف يمكن أن يصور النزاع، والحال أنه لا وضع فمع عدم وجود وضعٍ لا أيام الشارع ولا قبل أيام الشارع، كيف نصور النزاع والقول بالصحيح أو الأعم بناءً على إنكار وجود وضعٍ من رأس؟

ذكرت عدة تقريبات وعدة صياغ لإمكان وقوع النزاع بناءً على إنكار الوضع رأساً فالصحيحي والأعمي على ما يتنازعان؟ فهل يتنازعان على تحديد المعنى الموضوع له اللفظ، والحال إن كل منهما ينكر وقوع وضع مسبق؟ أم أنهما يتنازعان في تحديد المعنى المجازي، والحال إن كلاً من المعنيين المجازيين يصح استعماله بلحاظ المشابهة والمشاكلة كما يصح المجاز في الصحيح أيضاً يصح المجاز في الأعم؟ إنه استعمال وهذا الاستعمال يحتاج إلى ما يصححه من وجود وجهٍ شبهٍ كـمشاكلة أو مشابهة.

فمن هنا اتجه البحث إلى تصوير صيغة معقولة للنزاع بين الصحيحي والأعمي بناءً على المبنى الثاني وهو إنكار الوضع رأساً، وأما بناءً على المبنى الأول التسليم بوجود وضعٍ فإن النزاع معقولٌ سواءً قبلنا ثبوت الحقيقة الشرعية أو أنكرنا ثبوت الحقيقة الشرعية.

إذاً بحثنا في الصيغ المذكورة لتصوير النزاع بين الصحيحي والأعمي بناءً على إنكار وجود الوضع رأساً.

وقد تطرق السيد الشهيد الصدر إلى ثلاث صيغ[1] .

الصيغة الأولى يمكن أن يتصور النزاع في تشخيص المجاز الأولي والمجاز الثانوي فهنا لا يوجد وضع حتى نلتزم بوجود استعمال حقيقي بل نلتزم بوجود استعمال مجازي، غاية ما في الأمر يوجد استعمالان طوليان لا عرضيان فالمجاز الثاني يترتب ويتوقف على المجاز الأول لا أن المجاز الثاني في عرض ومقابل المجاز الأول.

تصوير ذلك:

إن كل من الصحيحي والأعمي يتفقان على أن الاستعمال في الصحيح مجاز وكذلك الاستعمال في الأعم مجاز أيضاً لكن يقع الكلام في الأقرب والمجاز الأول فأي الاستعمالين هو الاستعمال المجازي الأول وأي الاستعمالين هو استعمال المجازي الثاني.

فإذا قلنا أن العلاقة بين المعنى اللغوي لوحظت أولاً مع خصوص المعنى الصحيح للفظ العبادة دون المعنى الأعم فحينئذٍ يكون استعمال اللفظة اللغوية في المعنى الصحيح هو استعمال المجازي الأول، وبعد ذلك لوحظت العلاقة كعلاقة المشابهة أو المشاكلة بين الاستعمال في خصوص الصحيح وبين الاستعمال في الأعم من الصحيح والفاسد فاستعمل اللفظ في الأعم استعمالاً مجازياً إلا أن هذا الاستعمال استعمال مجازي ثاني.

إذاً أولاً لحظنا بين المعنى اللغوي ومعنى الصحيح فتشكل الاستعمال المجازي الأول.

وثانياً لحظنا العلاقة بين المعنى الصحيح وبين استعمال اللفظ في الأعم من الصحيح والفاسد فتشكل الاستعمال المجازي الثاني.

وبالتالي أيهما في المرتبة الأولى بناءً على هذا التقريب؟

الجواب: من الواضح أن الصحيح هو في المرتبة الأولى والأعم هو في المرتبة الثانية، هكذا يقول الصحيحي.

وأما الأعمي فإنه يعكس ويقول: أول استعمال لوحظت فيه العلاقة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الجامع الأعم من الصحيح والفاسد فهذا هو المجاز الأول ثم لوحظت العلاقة بين الجامع الأعمي وبين الصحيح الأخصي فتشكل الاستعمال المجازي الثاني.

إذاً موطن الخلاف بين الصحيحي والأعمي في العلاقة الأولى مع المعنى اللغوي، فما هو المعنى الذي ارتبط بالمعنى اللغوي ابتداءً هل هو خصوص معنى الصحيح كما يقول الصحيحي أو هو الجامع بين الصحيح والأعم كما يقول الأعمي؟

إلا أن صاحب الكفاية الشيخ الملا محمد كاظم الخراساني ـ رحمه الله ـ قد اعترض على هذه الصيغة[2] .

وقد يقرر إشكاله حسب فهم الشهيد الصدر ـ لأن هذا الفهم قابل للتأمل لو رجعنا إلى الكفاية ـ بأن هذه الصيغة لا توصل المتنازعين إلى الثمرة المقصودة في المقام لأن الثمرة هي عبارة أنه عند الشك في معنى اللفظ فإنه يحمل على الصحيح عند الصحيحي وعلى الأعم عند الأعمي، ومن الواضح أنه بعد اعتراف كل من الصحيحي والأعمي بأن اللفظ ليس حقيقة في الصحيح وليس حقيقة في الأعم فحينئذ إن وجدت قرينة صارفة عن المعنى اللغوي ولم توجد قرينة تعين الصحيح أو الأعم فحينئذٍ يصبح اللفظ مجملاً ومبهماً فلا تكون هذه الصيغة مؤدية إلى الثمرة المقصودة من هذا النزاع.

واضح إشكال صاحب الكفاية؟!

الخلاصة:

ثمرة البحث أنه عند الشكّ نرجع إلى الأصالة إما أصالة الصحيح وإما أصالة الأعم، والأصالة فرع الاستعمال الحقيقي لا الاستعمال المجازي، وكلٌ من الصحيحي والأعمي يسلم بأن الاستعمال مجازي وينكر الاستعمال الحقيقي فلا موردة لجريان الأصالة.

إن شاء الله واضح الإشكال.

والصحيح أن كلاً من إشكال الآخوند ـ رحمه الله ـ وأصل الصيغة غير تامٍ، فعدم صحة إشكال الآخوند لا يعني صحة الصيغة الأولى.

أما أن إشكال الآخوند ليس بتام لأننا لو تعقلناه هذه الصيغة للنزاع لثبتت الثمرة إذ أن الثمرة لا تتوقف على خصوص الاستعمال الحقيقي بل يمكن تصورها أيضاً في الاستعمال المجازي، لأن القائل بالصحيح يحمل اللفظ على الصحيح عند قيام القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي اللغوي من دون حاجة إلى قرينة معينة، والأعمي أيضاً كذلك يحمل على الأعم من دون ذلك.

وبعبارة أخرى:

إذا سلم الاثنان إنكار وجود وضع حقيقي، وسلم الاثنان وجود استعمالين مجازيين، ودار الأمر بين الحمل على الاستعمال المجازي الأول أو الحمل على الاستعمال المجازي الثاني الذي هو متفرعٌ وفي طول الاستعمال المجازي الأول فإنه لابدّ من الحمل على خصوص الاستعمال الأول دون الاستعمال المجازي الثاني.

إذ أن الظهور أول ما ينعقد للفظ في المعنى الحقيقي فإذا لم يوجد المعنى الحقيقي ووجد معنى مجازي أول ومعنى مجازي ثاني فإن اللفظ أول ما ينعقد له ظهور في خصوص المعنى المجازية أو دون المعنى المجازي الثاني.

فإذا التزم القائل بالصحيح فإنه يرى أن اللفظ أول ما ينعقد إليه ظهور في خصوص المعنى الصحيح دون المعنى الأعم، وإذا التزم القائل بالأعم فإنه يرى أن اللفظ اللغوي أول ما ينعقد له ظهور في خصوص المعنى الجامع بين الصحيح والأعم فيحمله على المعنى الأعمي دون المعنى الصحيح الأخصي.

إذا إشكال صاحب الكفاية بناءً على هذا الفهم على أنه قد يفهم بفهم آخر يراجع ما أفاده سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري في حاشيته على مباحث الأصول، ونحن لا نريد أن نطيل في هذه المباحث التي هي غير عملية، في المباحث العملية نحاول نطيل لكن في المباحث غير العملية لا نريد أن نطيل أكثر مما ذكره الشهيد الصدر إلا بمقدار الضرورة.

إذاً إشكال صاحب الكفاية ليس بتام.

طبعاً الآن طبعت مؤخراً دورة أربعة مجلدات تقريرات الآخوند، من يقرأها يعرف أن الكثير ممن شرح الكفاية وأشكل على صاحب الكفاية لم يفهم كلام صاحب الكفاية، دورة محكمة وقوية ومتينة إن شاء الله تراجعونها من يراجعها سيتراجع عن كثير من إشكالاته على صاحب الكفاية لأن المقرر صاحب بيان.

أيضاً طبعة دورة تقريرات النائيني ستة مجلدات، وللآسف الشديد هناك ظاهرة الكثير من التقريرات أو الأبحاث لما ينقل كلام أحد الأعلام ويقرره يقرره حسب فهمه، وقد يكون فهمه غير آمين بالنسبة إلى ما ذكره الماتن.

ولكن أصل الصيغة غير صحيح إذ كيف يتعقل الأعمي وجود مناسبة قائمة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الأعم في المرتبة الأولى، ولا يتعقل قيام هذه العلاقة في نفس هذه المرتبة بين المعنى اللغوي والمعنى الصحيح؟

والحال إن المعنى الصحيح جزءٌ من المعنى الأعم والجامع بين الصحيح وبين الفاسد، فكيف الأعمي يتصور؟

يقول هكذا: عندنا علاقتان:

العلاقة الأولى ـ يعني في المرتبة الأولى ـ بين المعنى اللغوي والمعنى الجامع الأعم بين الصحيح وبين الفاسدـ .

المرتبة الثانية التي تتفرع على المرتبة الأولى العلاقة بين المعنى الجامع وبين خصوص المعنى الصحيح.

الإشكال يا أخي! يا أخي! المعنى الصحيح موجود ضمن المعنى الجامع فإذا في المرتبة الأولى توجد علاقة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الجامع ـ يعني الأعم من الصحيح والفاسد ـ إذاً توجد في المرتبة الأولى علاقة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الصحيح، فعلى أي أساس تدعي أنه في المرتبة الثانية توجد علاقة بين المعنى الأعم وبين المعنى الصحيح، وتنكر وجود علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الصحيح؟ والحال إن العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الصحيح موجودة في المرتبة الأولى إذ أن الصحيح موجودٌ ضمن الجامع الأعم الجامع للصحيح والفاسد معاً.

إذاً هذا التصوير لا يمكن المساعدة عليه، فهذه الصيغة غير متعقلة للنزاع.

الصيغة الثانية للمحقق الأصفهاني في نهاية الدراية[3] تراجعونها جيداً، يأتي عليها الكلام.


[1] بحوث في علم الأصول، تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، ج3، من المجلد 1، ص6.مباحث الأصول، تقرير السيد كاظم الحائري، الدورة الأولى للشهيد الصدر.بحوث في علم الأصول، ج1، تقرير السيد محمود الهاشمي الشاهرودي ـ ره ـ، الدورة الثانية.تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، عبارة عن الدورة الثانية، ويقال: إنها تفريغ لنصّ كلام الشهيد الصدر في درسه، ولذلك اعتمدناها في بحثنا.
[2] حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم، ج1، ص53.
[3] ج1، ص48 إلى 50.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo