< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

44/10/17

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس السابع والسبعون: الإشكالان المتوجهان على حصول الوضع بنفس الاستعمال

 

ذهب صاحب الكفاية ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ إلى أن الوضع التعييني كما يحصل بالإنشاء يحصل أيضاً بالاستعمال ولو مرة واحدة.

وقد أشكل على تحقق الوضع التعييني بالاستعمار بإشكالين، وسيتضح أن شاء الله تعالى أن كليهما ليس بتام، فتكون النتيجة: موافقة رأي صاحب الكفاية، وأن الوضع التعييني كما يحصل بالإنشاء يحصل أيضاً بالاستعمال ولو لمرة واحدة غاية ما في الأمر ثم قليلة بل نادرة.

الإشكال الأول لزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي، وذلك باعتبار أن اللفظ والمعنى يجب أن يلحظ في عالم الوضع وفي عالم الاستعمال فالمستعمل يلحظ اللفظ والمعنى وكذلك الواضع يلحظ اللفظ والمعنى غاية ما في الأمر الواضع يلحظ اللفظ والمعنى بالاستقلال والمستعمل يلحظ اللفظ والمعنى باللحاظ الآلي، فلو توحد الوضع والاستعمال سيلزم حينئذ اجتماع اللحاظين[1] .

وقد تبنى السيد محسن الحكيم ـ رحمه الله ـ هذا الإشكال.

وخلاصة هذا الإشكال بأسلوب موجز وواضح:

إن اللفظ يلحظ في الاستعمال بشكل آلي ويلحظ في الوضع بشكل استقلالي، وهذا مبني على كون باب الاستعمال من باب الآلية والفناء لا من باب العلامة وذي العلامة.

فإذا قلنا إن الاستعمال من باب الآلية فإن المستعمل يستعمل لفظ الماء كآلةٍ للحصول على معنى الماء بخلاف الواضع فإن الواضع يلحظ لفظ الماء بشكل مستقل، فإذا كان وضع بنفس الاستعمال إذ هذا هو أصل المطلب أن الوضع التعيني يحصل بالاستعمال مرة واحدة.

ففي هذه المرة واحدة يحصل وضع وهو لحاظ اللفظ بالمعنى الاستقلالي ويحصل استعمال وهو لحاظ اللفظ بالمعنى الآلي فاجتمع في استعمالٍ ووضعٍ واحدٍ اللحاظ الآلي والاستقلالي معاً وهذا غير معقول.

الإشكال واضح أم لا؟! لازم يكون واضح حتى نجيب عليه.

إلا أن هذا الإشكال قابلٌ للتأمل على التقدير الثلاثة المتقدمة:

أما التقدير الأول وهو مسلك الشهيد الصدر وأن الوضع عبارة عن القرن الأكيد والشديد فهو عبارة عن أمرٍ واقعي بين اللفظ وبين المعنى فالوضع ليس أمراً مجعولاً يحتاج إلى لحاظ اللفظ ولحاظ المعنى لحاظاً الاستقلالياً بل الوضع عملية تكوينية واقعية تحصل حتى من دون الالتفات إلى اللفظ والمعنى أصلاً.

لذلك قد يحصل القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى صدفةً وبلا واضع أصلاً، وقد يحصل من كثرة الاستعمار، مع أن اللحاظ آلي في الاستعمال.

إذا الإشكال الأول وهو لزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي لا يلزم بناءً على التقدير الأول وهو نظرية القرن الأكيد إذ أن عملية القرن الأكيد عملية تكوينية واقعية وليس عبارة عن عملية جعلية اعتبارية تفتقر إلى لحاظ اللفظ حتى يقال إن اللفظ قد لوحظ عند الوضع باللحاظ الاستقلالي.

والمستعمل حينما يستعمل اللفظ يستعمل اللحاظر آلي.

إذا عندنا لحاظ واحد فقط عند المستعمل وهو اللحاظ الآلي ولا يوجد لحاظ استقلالي.

وأما على مسلك أن الوضع مطلب إنشائي فهنا يوجد مسلكان:

المسلك الأول أو الاتجاه الأول للسيد أبو القاسم الخوئي القائل بأن الإنشاء أمرٌ نفساني يبرزه اللفظ.

إذاً عندنا مبرز وهو اللفظ، وعندنا مبرز وهو الأمر النفساني، ومن الواضح أن اللحاظين لم يجتمعا في مكان واحد وعالم واحد نظراً لاختلاف العالمين فإن الوضع قائم في عالم النفس والاستعمال قائمٌ في عالم اللفظ، إذاً اللحاظ الاستقلال المأخوذ في الوضع كامن في المبرز وهو عالم النفس واللحاظ الآلي المأخوذ في اللفظ إنما هو في عالم المبرِز وهو اللفظ.

إذاً موطن وموقع اللحاظ الآلي اختلف عن موطن اللحاظ الاستقلالي إذ أن اللحاظ استقلالي إنما يكون في الوضع والوضع إنما يكون في الأمر النفساني المبرز، والاستعمال الذي هو لحاظ آلي إنما يكون في اللفظ واللفظ مبز باسم الفاعل وليس مبرزاً اسم المفعول فينتفي المحذور لأنه لم يجتمع اللحاظ الآلي والاستقلالي في عالم واحد ومحل فارد.

وأما على الاتجاه الثاني الذي يرى أن الإنشاء أمرٌ إيجادي فأيضاً لم يجتمع اللحاظان الآلي والاستقلال في عالم واحد أيضاً لأننا نلتزم بوجود استعمالين طوليين وليسا عرضيين:

الاستعمال الأول استعمال اللفظ في المعنى، واستعمال اللفظ في المعنى لحاظ آلي أو استقلالي؟

الجواب: لحاظ آلي تستعمل اللفظ كآلة لإيراد المعنى.

إذا اللحاظ الأول وهو استعمال اللفظ في المعنى هذا لحاظ آلي، هذا اللحظ الآلي في طول وفرع الوضع الذي هو لحاظ استقلالي، إذاً عندنا وجودان طوليان:

الأول استعمال اللفظ في المعنىـ وهذا اللحاظ فيه يكون آلي.

الثاني استعمال هذا الاستعمال في الإنشاء يعني عملية الوضع هذا اللحاظ لحاظ استقلالي.

يعني بعبارة مختصرة مهذبة:

عندنا أصل وهو الوضع والوضع لحاظ استقلالي وليس آلياً يتفرع عليه استعمال اللفظ بالمعنى والاستعمال يؤخذ باللحاظ الآلي لا الاستقلالي.

إذاً الاستعمال الآلي واللحاظ الآلي في طول وفرع الوضع والاستعمال الاستقلالي وليس في عرضه إذا لم يتحد العالم والمكان.

هذا تمام الكلام بناءً على التقدير الثاني، واتضح أنه أيضاً لا يرد الإشكال كما أنه لا يرد بناءً على التقدير الأول للشهيد الصدر.

وأما بناء على التقدير الثالث فقد تقدم أنه غير معقول حتى نتكلم بناءً عليه ثبت العرش ثم النقش فإذا أنكرنا مصداقية الاستعمال للوضع فلا تصل النوبة إلى هذا الإشكال، وإذا سلمنا به وقلنا بالتقدير الثالث فمعنى ذلك أنه لا يشترط في الوضع اللحاظ الاستقلالي.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول، واتضح أنه ليس بتام.

الإشكال الثاني خروج الاستعمال عن كونه حقيقياً ومجازياً[2] .

تقريب الإشكال الثاني إن الاستعمال يجب إما أن يكون حقيقاً على أساس العلقة الوضعية أو مجازياً على أساس العلاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي، وهذا الاستعمار ليس بحقيقي ولا مجازي، أي استعمال؟ أي تحقق الوضع التعيني بالاستعمال مرة واحدة.

أما أنه ليس بحقيقي لعدم العلقة الوضعية لأن المفروض أن اللفظ يوضع للمعنى بهذا الاستعمار فقبل هذا الاستعمال لا وضع والاستعمال الحقيقي ما هو؟

هو عبارة عن استعمال اللفظ فيما وضع له مسبقاً.

إذاً لو التزمنا أن الوضع التعيني يتحقق بالاستعمال مرة واحدة كما يقول صاحب كفاية فهذا يعني أن هذا الاستعمال أول مرة لم يكن مسبوقاً بوضعٍ فلا يصدق عليه أنه استعمال حقيقي لأن الاستعمال هو عبارة عن استعمال اللفظ فيما وضع له مسبقاً وقبل الاستعمال لا وضع فلا يصدق عنوان الاستعمال الحقيقي.

وأما الاستعمال المجازي فلا يثبت أيضاً إذ لا يوجد معنى حقيقي حتى تفرض العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى مجازي[3] .

وقد حاول السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ أن يجيب على هذا الإشكال[4] .

خلاصة جوابه:

إن هذا الاستعمار يمكن الالتزام بأنه استعمال حقيقي وليس استعمالاً مجازياً فإنه استعمالٌ في نفس المعنى الموضوع له اللفظ غاية ما في الأمر إن الوضع ثابتٌ في نفس وقت الاستعمال.

إذاً يوجد عندنا تقارن زماني واختلافٌ رتبي فمرتبة الوضع مرتبة العلة ومرتبة الاستعمال مرتبة المعلول فهناك تقدم رتبي للوضع وتأخر رتبي للاستعمال، وإن حصل تقارن زماني إذ أن نفس الزمن الذي وقع فيه الاستعمال نفس الزمن الذي وقع وتحقق فيه الوضع.

فالاستعمار متأخرٌ عن الوضع زماناً لا رتبةً، والمعلول معاصرٌ زماناً لعلته، فهذا استعمال للفظ في المعنى الموضوع له بالوضع الحالي في آن الاستعمال.

لكن الصحيح أن الاستعمال على نحوين:

الاستعمال الأول الاستعمال التفهيمي، أي الذي يراد به نقل ذهن السامع إلى المعنى ولو شأناً واقتضاء.

الاستعمال الثاني الاستعمال غير التفهيمي، وهو الاستعمال الذي لا يراد به نقل ذهن السامع إلى المعنى بل يراد به الإعلام فقط، فيمكن أن نطلق على الاستعمار غير التفهيمي مصطلح الاستعمال الإعلامي، مثال ذلك ـ لاحظ جيد ـ :

أحياناً انظر إلى الماء، وأقول: <هذا ماءٌ> فيكون غرضي أن يفهم المخاطب أن السائل الذي يشربه الناس وأساس الحياة يطلق عليه في اللغة العربية أنه <ماء>.

وأحياناً أشير إلى الماء، وأقول: <حجر> وليس غرضي أن يفهم المخاطب أن لفظ الحجر قد وضع لمعنى الماء ولكن غرضي أن اعلم المخاطب أن لدي اصطلاح خاص وهو أن السائل الذي يتعارف عليه الناس ويطلقون عليه لفظ <الماء> أنا أطلق عليه لفظ <حجر> فهنا ليس الغرض أن يفهم المخاطب معنى لفظة <الحجر> قد لا يفهم ذلك ولكن غرضي أن اعلمه أنني أطلق مصطلح <الحجر> على هذا الماء.

نعم، قد يقال: هذا غير عقلائي، فالناس عادة تتكلم بغرض التفهيم ولا تتكلم بالألغاز ـ واضح أم لا؟ ـ لكن في موطن بحثنا، قد يقال: إن مورد بحث عبارة عن الاستعمال غير التفهيمي أي الاستعمال الإعلامي وفي الاستعمال الإعلامي يوجد غرض عقلائي.

ما هو الغرض العقلائي؟

إيجاد الوضع، نفس إيجاد الوضع غرض عقلائي. أعطيكم مثال عرفي حتى يصير الشي واضح:

لو ذهبت إلى بيت صديقك، وقال صديقك: يا ولدي! أين الزحرمان؟!

فتأملت ما هو مرض بالزحرمات!!

فجاء الولد بماء الزعفران، فقال الأب للولد: أنت قهرمان أي بطل وشجاع.

فهنا أنت أيها المخاطب لم تفهم معنى الزحرمان لكنا صديقك قد اعلمك بأنه وضع لفظة الزحرمان لماء الزعفران، وأن من يأتي به قهرمان، فهذا استعمال غير تفهيمي، وهذا استعمال إعلامي، وله غرضٌ عقلائي، وهو إعلام الصديق أن صديقه قد اصطلح لفظ الزحرمان على ماء الزعفران وإن لم يفقه الصديق معنى الزحرمان.

إذاً تارة يكون الاستعمال تفهميمي وتارة يكون الاستعمال غير تفهيمي، لو التزمنا بأن الاستعمال تفهمي في هذه الحالة يلزم الدور لأن التفهيم إما أن بوضع سابق أو بعلاقة مع المعنى الحقيقي، والوضع الذي يكون بنفس الاستعمال الواحد التفهيمي لا يمكن أن يكون مصححاً للتفهيم يلزم منه الدور، لماذا؟

لأن الوضع في طول الاستعمال الوضع ما تحقق إلا بالاستعمال الواحد، والاستعمال التفهيمي يتوقف على الوضع، فصار الوضع يتوقف على الاستعمال التفهيمي والاستعمال التفهيمي يتوقف على الوضع، إذاً يتوقف الوضع على الوضع، ويتوقف الاستعمال التفهيمي على الاستعمال التفهيمي.

لكن قد لا نلتزم بأن المراد بالاستعمال هو الاستعمال هو الاستعمال التفهيمي فإذا التزمنا بأن الاستعمال يراد به الاستعمال غير التفهيمي أو الاستعمال الإعلامي يعني يقصد به الإعلام عن الوضع، وهذا هو المراد مراد صاحب الكفاية حينما يقول: الوضع التعيني يحصل بالاستعمال الواحد يعني هذا الاستعمال الواحد يعلم المخاطب بإيجاد الوضع فهذا استعمال غير تفهيمي واستعمال إعلامي ويحقق الوضع.

مثل هذا الاستعمال غير التفهيمي قد يعد مستهجناً وغلطاً عند العقلاء للزوم اللغوية وعدم الفائدة، لكن في موطن بحثنا توجد فائدة، وهي: فائدة الإعلام بتحقق الوضع.

إذاً الإشكال الثاني ليس بتام، واتضح أنه ماذا؟ استعمال حقيقي، يراد به ماذا؟ إيجاد الوضع.

هذا تمام الكلام في البحث الثبوتي.

المقام الثاني البحث الإثباتي للحقيقة الشرعية يأتي عليه الكلام.

 


[1] أجود التقريرات للسيد الخوئي، ج1، ص33.حقائق الأصول، ج1، ص48.
[2] كفاية الأصول، ص21، الأمر التاسع في ثبوت الحقيقة الشرعية.
[3] كفاية الأصول، ج1، ص32، حسب طبعة أبو الحسن المشكيني.
[4] محاضرات في أصول الفقه، ج1، ص129.الهداية في الأصول، ج1، ص78.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo