< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

44/08/18

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: جلسه 074 - العلامة الثانية صحة الحمل

 

العلامة الثانية صحة الحمل

قد أدعي أن صحة حمل اللفظ المجهول المعنى على معنى بالحمل الأولي الذاتي، يدل على أن هذا الموضوع هو عين المعنى الذي وضعت له الكلمة ذاتاً كما أن حمل اللفظ على معنى بالحمل الشائع الصناعي يدل على أنه فردٌ منه.

فلو قلنا: الحيوان المفترس أسدٌ بالحمل الأولي، دلّ ذلك على أن الحيوان المفترس متحدٌ ذاتاً ومفهوماً مع المعنى الذي وضعت له لفظة الأسد.

وإذا قلنا: زيدٌ إنسانٌ بالحمل الشائع، دلّ على أن زيد ينتسب إلى معنى كلي وهو المعنى الموضوع له لفظ الإنسان.

يراجع[1] .

إلا أن الصحيح أن صحة الحمل ليست علامة على الاستعمال الحقيقي، فنحن نسلم العلامة الأولى وهي التبادر فالتبادر علامة الحقيقة لكن صحة حمل الكلمة على معنى لا يستلزم أن هذه الكلمة وضعت بالوضع الحقيقي لذلك المعنى، لأنه يوجد احتمالان عند استعمال لفظة الأسد في معنى الحيوان المفترس.

الاحتمال الأول أن نفرض استعمال لفظة الأسد في معنى معين كـالحيوان المفترس من دون أن نعرف في المرتبة السابقة أن لفظة الأسد هل وضعت لمعنى الحيوان المفترس أم لا؟!

فغاية ما نعرفه أن هذه اللفظة كـأسد قد استعملت في معنى معين كالحيوان المفترس أو الرجل الشجاع.

الاحتمال الثاني أن نفترض مسبقاً أن هذه اللفظة كـلفظ أسد قد وضعت لمعنى سابقٍ وهو معنى الحيوان المفترس الذي استعمل لفظ الأسد في معناها، فكأنما قد فرغنا عن وجود المعنى الموضوع له اللفظ.

احتمالان لا ثالث لهما، فحينما تحمل لفظ الأسد على معنى الحيوان المفترس إما أن تفترض مسبقاً أن لفظ الأسد قد وضع للحيوان المفترس وإما لا، ولا ثالث في البين.

الاحتمال الأول إن افترض أن المستعمل استعمل الكلمة كـ لفظ أسد في معنى معين كـ الحيوان المفترس، وهو لا يدري أن هذه الكلمة وهي الأسد، هل معنى الحيوان المفترس موضوع لها أم لا؟

فغاية ما تقتضيه صحة الحمل حينئذٍ هو أن الحيوان المفترس عين المعنى الذي استعمل فيه لفظ الأسد، ولكن هذا المعنى هل هو معنى مجازي فهذا غير معلوم. فكيف يتعين الوضع؟!

إذاً بناءً على الاحتمال الأول يحرز المتكلم أن هذا اللفظ كـلفظ الأسد يصح حمله واستعماله في معنى الحيوان المفترس، ولكن نوع هذا الاستعمال هل هو استعمال حقيقي أم استعمال مجازي؟! فإن صحة الحمل لا تعين نوع الاستعمال، وإنما تصحح الاستعمال فقط.

هذا تمام الكلام في الاحتمال الأول، إذا المستعمل استعمل اللفظ في المعنى ولا يعلم أن هذا المعنى موضوع لهذا اللفظ أم لا؟!

الاحتمال الثاني إذا افترضنا وفرغنا من أن هذا اللفظ كـ لفظ الأسد قد استعمل في معناه الذي وضع له وهو الحيوان المفترس ملك الغابة، فحينئذٍ نقول: ما معنى جعل صحة الحمل علامة على الحقيقة؟! فهذا دورٌ واضح، لأن العلم بصحة الحمل فرع العلم بالوضع، فكيف يطلب العلم بالوضع من صحة الحمل؟!

فصار صحة الحمل متوقف على العلم بالوضع، والعلم بالوضع متوقف على صحة الحمل، فيتوقف صحة الحمل على صحة الحمل، وهذا دورٌ واضحٌ وباطلٌ.

واضح إشكال الدور أم لا؟!

إن قلت: ندفع هذا الدور بما تقدم في إشكال الدور بالنسبة إلى العلامة الأولى وهي التبادر، فقد قيل هناك: إن التبادر يتوقف على العلم بالوضع، والعلم بالوضع يتوقف على التبادر، فيتوقف العلم بالوضع على العلم بالوضع.

وأجاب المشهور بأن العلم بالوضع الذي هو في رتبة متقدمة إجمالي، والعلم بالوضع الذي هو في رتبة متأخرة تفصيلي، وقد ردّ السيد الشهيد جواب المشهور، وقال: إن التبادر لا يتوقف على العلم بالوضع، بل يتوقف على واقع الوضع وهو القرن الأكيد، فالتبادر لا يتوقف على العلم بالوضع بل يتوقف على روح الوضع وهي عملية القرن الأكيد وإن لم يعلم بالوضع كـالطفل الذي إذا قيل له: حليب، يتصور الحليب وإن لم يكن عنده علم بالوضع ولكن نتيجة اقتران لفظ الحليب بالمادة التي يشربها.

فلما لا يقال هنا في رفع الدور بناءً على مسلك السيد الشهيد، فيقال: إن صحة الحمل تتوقف على القرن الأكيد وروح العلم بالوضع لا على نفس العلم بالوضع.

ويجيب الشهيد الصدر بوجود فرقٍ كبير بين العلامة الأولى وهي التبادر وبين العلامة الثانية وهي صحة الحمل، ويتلخص الفرق بين المقامين في نقطتين:

النقطة الأولى إن صحة الحمل وهي موطن بحثنا في العلامة الثانية عبارة عن حكمٍ تصديقي من قبل المستعلم بأن هذا ذاك.

ومن المعلوم أن هذا الحكم التصديقي فرع الالتفات إلى كلٍ من الموضوع والمحمول في نفسه وإلا لم يمكن الحمل، فمجرد كون الموضوع له في علم الله تعالى هو ذاك لا يكفي في صحة الحمل، بدون أن يعلم الحامل بذلك.

إذاً صحة الحمل حكم تصديقي يعني علمي يعني علمت أن الأسد حيوان مفترس، حكمت على الحيوان المفترس بأنه أسدٌ.

إذاً صحة الحمل ناظرة إلى الحكم التصديقي يعني ناظرة إلى الحكم على الموضوع، وحمل المحمول على الموضوع، هذا هو واقع صحة الحمل، فلا يأتي الحديث عن واقع الوضع، وروح الوضع وهو عملية القرن الأكيد.

النقطة الثانية وهذا بخلاف التبادر فإن التبادر ليس حكماً تصديقياً بل هو عبارة عن الانسباق التصوري من تصورٍ إلى تصور آخر، وهذا الانسباق التصوري لا يتوقف على علمٍ تصديقي وحكم تصديقي بل يتوقف على القرن بين اللفظ والمعنى.

ومن هنا كانت علامية التبادر معقولة لأنها ناظرة إلى الانسباق الذهني من لفظ إلى معنى، بينما علامة صحة الحمل غير معقولة.

النتيجة النهائية: العلامة الثانية وهي صحة الحمل غير صحيحة، لأن صحة الحمل تثبت أن المحمول كـ أسد قد حمل على الموضوع كـ الحيوان المفترس واستعمل فيه، أما نوع هذا الاستعمال هل هو حقيقي أم مجازي؟! فإن صحة الحمل لا تثبت ذلك.

النتيجة النهائية: تمامية العلامة الأولى وهي التبادر فهي تدل على الحقيقة، وعدم تمامية العلامة الثانية، فصحة الحمل لا تدل على المعنى الحقيقي.

العلامة الثالثة الإطراد، ويمكن تقريب علامية الإطراد بعدة وجوه نذكر منها أربعة، وسيتضح أن الصحيح منها هو خصوص الوجه الرابع، وأن الوجه الأول والرابع تامان إلا أن الوجه الأول لا يشكل علامة مستقلة بل يرجع إلى التبادر، والوجه الرابع يشكل علامة مستقلة ويكون تاماً بخلاف الوجه الثاني والثالث فهما ليسا تامين.

ولنأخذ الوجه الأول فقط في هذا الدرس.

الوجه الأول الإطراد في التبادر، وذلك بأن يقال: إن المراد من الإطراد الذي يعتبر علامة على الحقيقة هو الإطراد في التبادر[2] .

توضيح ذلك:

إن التبادر الذي يكون علامة على الحقيقة هو التبادر الذي ينشأ من حاق اللفظ دون التبادر المستند إلى قرينة خاصة أو عامة، فلو حصل تبادرٌ في ذهننا مرة واحدة فقط احتمل استناد هذا التبادر إلى القرينة لا إلى حاق اللفظ.

وهذا الاحتمال موجود إلا أنه يضعف ويمكن نفيه كلما زاد عدد التبادرات، ففي التبادر الواحد فقط لا يمكن نفي أن يكون سبب التبادر هو وجود قرينة، لكن إذا تبادر المعنى من اللفظ في عدة استعمالات في مختلف الأمكنة والأزمنة والأحوال، فإن هذا الإطراد في التبادر يوجب بالتدريج زمال احتمال أن تكون القرينة هي السبب في التبادر والانسباق. فإن احتمال وجود قرينة توجب هذا الانسباق في كل هذه الموارد في: الأزمنة والأمكنة والأحوال والأفراد موهونٌ جداً بحساب الاحتمالات، فيحقق الإطراد موضوع التبادر، إذ يثبت ببركة الإطراد أن يكون منشأ التبادر هو حاق اللفظ وليس منشأ التبادر هو وجود قرينة خاصة أو عامة.

أقول: هذا الكلام صحيح ولا غبار عليه، لكنه لا يجعل الإطراد علامة مستقلة في مقابل علامة التبادر، وإنما يصبح الإطراد محققاً لصغرى التبادر، يعني الإطراد وسيلة وأداة من أدوات تحقق التبادر، لا أن الإطراد علامة مستقلة في مقابل علامة التبادر وفي مقابل صحة الحمل.

إذاً الوجه الأول لعلامة الإطراد وهو الإطراد في التبادر هذا الوجه صحيحٌ ومعقولٌ إلا أنه لا يشكل علامةً مستقلةً تدل على المعنى الحقيقي للفظ، وإنما هذا الوجه يشكل صغرى من صغريات العلامة الأولى وهي علامة التبادر.

إذاً يبقى الكلام في الوجوه الثلاثة الأخر.

الوجه الثاني الإطراد في الاستعمال، للسيد الخوئي ـ ره ـ .

الوجه الثالث إطراد الحيثية المصححة للاستعمال، لصاحب الكفاية.

الوجه الرابع إطراد الاستعمال بلا قرينة.

هذه الوجوه إن شاء الله نبحثها مفصلاً وسيتضح أن الوجه الثاني والثالث ليسا تامين، والصحيح هو خصوص الوجه الرابع.

الوجه الثاني الإطراد في الاستعمال يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.


[1] الفصول الغروية، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، ص38، السطر 4.
[2] بدائع الأفكار، تقرير الميرزا هاشم الآملي، بحث المحقق العراقي، ج1، ص97، الأمر الثامن في علائم الوضع، في علامية التبادر والإطراد.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo