< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

44/03/19

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الاعتراض الثالث على التعريف ومناقشته

 

الاعتراض الثالث على التعريف المشهور

فقد عرف المشهور علم الأصول بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي، تطرقنا في الدرس السابق إلى الاعتراض الأول والثاني واتضح أن الاعتراض الأول تامٌ والاعتراض الثاني قابلٌ للمناقشة، نتطرق اليوم إلى الاعتراض الثالث وهو للمحقق السيد أبو القاسم الخوئي في محاضراته في أصول الفقه تقرير الشيخ محمد إسحاق الفياض الجزء الأول صـ 10.[1]

وهو أن هذا التعريف يشمل مسائل ليست من علم الأصول من قبيل القواعد الفقهية التي يستنبط منها أحكام فرعية كـ قاعدة التجاوز والفراغ وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، قاعدة نفي العسر والحرج، قاعدة لا ضرر ولا ضرار، وغيرها من القواعد الفقهية.

فالإشكال والاعتراض الثالث مفاده إن تعريف المشهور ليس بمانع فهو لا يمنع دخول القواعد الفقهية في تعريف علم الأصول.

وفیه وهذا الاعتراض قابلٌ للتأمل والمناقشة بلحاظ أن القواعد الفقهية على قسمين:

القسم الأول ما يكون قواعد للانتهاء إلى إحراز صغرى الحكم الشرعي أي أن الحكم الشرعي يكون نتيجة لهذه القواعد الفقهية كـ قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة، فهذه القواعد لا تنتج أحكاماً كلية وجعول شرعية وإنما تنتج موضوعات للأحكام الشرعية، وبالتالي يكون خروجها من التعريف واضحاً لأنها موضوعات للأحكام الشرعية وليست لاستنباط الحكم الشرعي كما هو المفروض في التعريف، فقاعدة الفراغ أو التجاوز تقول هذه الصلاة التي شككت فيها بعد أن فرغت منها ابنِ على صحتها فالنتيجة لا تكون حكماً شرعياً كلياً بل موضوع من الموضوعات هذه الصلاة موضوع للصحة.

القسم الثاني القواعد الفقهية التي يستفاد منها أحكام شرعية كلية، من قبيل قاعدة لا ضرر ولا ضرار ومن قبيل قاعدة نفي العسر والحرج ما جعل عليكم في الدين من حرج، فمثل هاتين القاعدتين يستفاد منهما أن الوضوء الذي يوجب الحرج والمشقة الشديدة أو الوضوء الذي يوجب الضرر يرتفع عنه الوجوب فهذا حكمٌ كلي، فالوضوء الضرري ليس بواجب، كلٌ وضوء فيه حرج ومشقة فليس بواجب هذا حكم كلي.

وهكذا قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده فهي تنتج أن المقبوض بالبيع الفاسد فيه الضمان لأن المقبوض بالبيع الصحيح أيضاً فيه الضمان، فالبيع إذا ضمن بصحيحه فإنه يضمن بفاسده أيضاً، فهذه القواعد خارجة عن التعريف، لأن التعريف ذكر فيه القواعد التي يستنبط منها حكمٌ شرعي والمقصود بالحكم الشرعي الجعل الشرعي، فلا بدّ أن تكون القاعدة التي يمهدها الفقيه في طريق إثبات جعل شرعي أو إقامة الحجة.

وهذا لا يصدق على القواعد الفقهية وإنما يصدق على خصوص القواعد الأصولية كحجية خبر الثقة وحجية الظهور والأصول اللفظية والأصول العملية فهي قواعد في طريق استنباط جعول واقعية وليست هي بنفسها جعول فنفس حجية خبر الثقة ليس حكماً شرعياً ونفس حجية الظهور ليس حكماً شرعياً لكنه ينتج أحكاماً فرعية كلية بخلاف القواعد الفقهية من القسم الثاني هي بنفسها حكمٌ شرعي، ونذكر مثالين:

المثال الأول قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وهي وإن كان يستفاد منها كبرى الضمان أي كل شيءٍ وكل معاملةٍ يضمن في صحيحها فإنه يضمن في فاسدها، لكن هذه الكبرى الشرعية ليست عبارة عن حكمٍ آخر مخالف ومغاير للنتيجة الحاصلة منها فالنتيجة الحاصلة منها هذا البيع يضمن في صحيحه ويضمن في فاسده، تطبيق للكبرى الكلية كلما يضمن في صحيحه يضمن في فاسده.

إذاً القاعدة الأصولية بنفسها ليست جعلاً وحكماً شرعياً كلياً كحجية خبر الثقة وحجية الظهور ولكنها تنتج حكماً شرعياً كلياً مغايراً للقاعدة الأصولية بخلاف القواعد الفقهية من القسم الثاني التي تنتج أحكام كلية فهي وإن أنتجت أحكام كلية إلا أنها بنفسها عبارة عن حكمٍ كلي والحكم الناتج منها إنما هو تطبيق من تطبيقاتها.

المثال الثاني قاعدة نفي العسر والحرج فإنها قاعدة كلية وهي بنفسها كبرى كلية يعني كل حكمٍ يلزم منه العسر والحرج والمشقة الشديدة مرتفعٌ وليس بواجبٍ هذه الكبرى الكلية تنتج صغريات (هذا الوضوء الذي فيه مشقة ليس بواجبٍ) وبالتالي هذه القاعدة الفقهية الكبرى الكلية وإن أنتجت حكماً شرعياً كلياً إلا أنه ليس مغايراً لها وإنما هو عبارة عن تطبيق من تطبيقاتها أي أن هذه القاعدة تنتج حصصاً متعددة من دون أن تكون هذه الحصص والتطبيقات جعولات أخرى مغايرة للقاعدة الفقهية التي يراد إثباتها.

نعم ربما تقع هذه القاعدة الفقهية في طريق إثبات مسألة أصولية أخرى كما هو الحال بالنسبة إلى أصالة البراءة الشرعية وعدم وجوب الاحتياط التام على فرض انسداد باب العلم والعلمي وبهذا اللحاظ تكون القاعدة الفقهية في طريق استنباط حكم شرعي كلي مغاير إذ أن القاعدة رفع عن أمتي ما لا يعلمون تنتج ماذا أصالة البراءة الشرعية، فقد يقال حينئذٍ باندراج هذه القاعدة في علم الأصول وهكذا الكلام بالنسبة إلى قاعدة الطهارة كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر بعينه فتدعه، فنفس القاعدة الكلية كل شيء لك طاهر ينتج صغريات وتطبيقات وهذه التطبيقات هي عين القاعدة الفقهية وليست مغايرة لها.

وعلى هذا الأساس يكون إشكال السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ على تعريف المشهور ليس بوارد إذ أورد على تعريف المشهور وهو أن علم الأصول هو عبارة عن العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي، ونقد عليه بالقواعد الفقهية فإنها تندرج ضمن هذا التعريف فيكون الجواب إن المراد باستنباط الحكم الشرعي هو استنباط حكم شرعي آخر مغاير لهذه القواعد.

والقواعد الفقهية على نحوين: إما تنتج موضوعات لأحكام شرعية كأصالة الصحة وقاعدة التجاوز وإما تنتج أحكام شرعية كلية ولكنها ليست مغايرة للقواعد الكلية.

وفي الختام بعد بيان هذه الاعتراضات الثلاثة وبعد أن اتضح أن الوارد منها هو خصوص الاعتراض الأول وأما الاعتراض الثاني والثالث فهما قابلان للمناقشة، نتطرق إلى رأي السيد أبو القاسم الخوئي في محاضرات في أصول الفقه الجزء الأول صفحة ثمانية ونناقشه ثم نتطرق إلى رأي المحقق العراقي ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ وفي الختام يتضح المعنى الراجح لتعريف علم الأصول.

تعريف الأصول للسيد الخوئي

حاول السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ أن يميز المسائل الأصولية بأنها القواعد التي تمهد للاستنباط والتي يصلح كلٌ منها أن يقع بمفرده ومن دون حاجة إلى ضمّ أي قاعدة أصولية أخرى في طريق استنباط الحكم الشرعي،

إذاً أصبح ملاك القاعدة الأصولية أنها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي من دون حاجةٍ إلى ضمّ مسألة أصولية أخرى، من قبيل حجية خبر الثقة فالقاعدة الأصولية تقول (كل ثقة فخبره حجة) فإذا طبقنا كبرى حجية خبر الثقة أثبتنا وجوب الحج وفقاً لرواية الثقة الذي يفيد وجوب الحج فأثبتنا الحكم الشرعي وهو وجوب الحج بواسطة كبرى حجية خبر الثقة ولم نضم إلى كبرى حجية خبر الثقة قاعدة أصولية أخرى.

وهكذا حجية ظهور الأمر في الوجوب، وحجية ظهور النهي في التحريم، وهكذا أصالة البراءة رفع عن أمتي ما لا يعلمون، فهذه القواعد بمفردها تنتج أحكام شرعية من دون حاجة إلى قاعدة أصولية أخرى، وهكذا الاستصحاب كنا على يقين من عدم الوجوب فشككنا في ثبوت الوجوب فنستصحب بقاء عدم الوجوب السابق، فتكون النتيجة عدم ثبوت الوجوب أو ثبوت الوجوب السابق بواسطة الاستصحاب ومن دون حاجة إلى ضمّ مسألة أصولية أخرى، فمثل هذه القواعد الأصولية التي بمفردها يمكن من خلال استنباط الأحكام الشرعية من دون حاجة إلى ضمّ مسألة أصولية أخرى داخلة تحت تعريف علم الأصول عند السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ أما إذا كانت المسألة بحاجة إلى ضمّ مسألة أصولية أخرى ليمكن استنباط الحكم الشرعي منها فلا تكون هذه المسألة أصولية، من قبيل وثاقة الراوي فكون الراوي ثقة وهي مسألة رجالية لا تنتج بمفردها حكماً شرعياً بل لا بدّ من ضمّ كبرى حجية خبر الثقة إليها فنعرف أن وثاقة زرارة أو محمد بن مسلم ليست مسألة أصولية لأنها أحتاجت إلى كبرى أصولية وهي حجية خبر الثقة.

وهكذا استظهار كلمة كـ كلمة (الصعيد) وتيمموا صعيداً طيباً فإذا استظهرنا أن كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض لا في خصوص التراب الخالص فإن هذا الاستظهار لا ينتج حكم شرعي ما لم نضم إليه كبرى حجية الظهور، ومن هنا نعرف أن استظهار معنى كلمة (الصعيد) ليس مسألة أصولية لأنه في استنباط الحكم الشرعي من هذا الاستظهار نحتاج إلى ضمّ مسألة أخرى.

ايرادات السيد الخوئي على نفسه والجواب عنها

ثم أورد السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ على نفسه عدة اعتراضات وأجاب عليها، وقد ذكر منها الشهيد الصدر في تقرير الشيخ حسن عبد الساتر الجزء الأول صفحة ثمانية وعشرين موردين واعتراضين:

الاعتراض الأول بناءً على هذا التفسير يلزم ألا تكون مسألة دلالة الأمر على الوجوب وما يناظرها من مباحث الدلالات داخلة في علم الأصول لأنها بحاجة دائماً إلى ضمّ كبرى حجية الظهور فتقول الأمر ظاهرٌ في الوجوب وكل ظهورٍ حجة، النهي ظاهرٌ في التحريم وكل ظهور حجة، فلكي تنتهي إلى استنباط حكمٍ شرعي لا يمكن الاكتفاء بظاهر هذه الدلالات دلالة الأمر على الوجوب والنهي على التحريم إلا بعد ضمّ كبرى حجية الظهور.

وأجاب السيد الخوئي عن ذلك بأن الأمر وإن أحتاج إلى ضمّ كبرى حجية الظهور إلا أن مسألة حجية الظهور ليست من مسائل علم الأصول، بل هي قاعدة عقلائية واضحة مركوزة بالبداهة لدى كل شخص، فليست دلالة الأمر على الوجوب محتاجة إلى مسألة أصولية حتى ينقض علينا بذلك بل دلالة الأمر على الوجوب والنهي على التحريم يحتاج إلى كبرى حجية الظهور التي هي قاعدة بديهية عقلائية.

الاعتراض الثاني أورد السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ على نفسه النقد بمسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده فإنها مسألة أصولية رغم افتقارها إلى مسألة أصولية أخرى وهي مسألة إن النهي عن العبادة يقتضي فسادها، فإذا أردت أن تستنبط بطلان الصلاة عند وجوب إزالة النجاسة عن المسجد الذي هو وجوب فوري تقول هكذا: هناك أمر بإزالة النجاسة عن المسجد فوراً والأمر بالشيء وهو الإزالة يقتضي النهي عن ضده الخاص وهو الصلاة، ثم تضم قاعدة أخرى وهي إن النهي عن العبادة يفسدها والنهي عن الصلاة بسبب الأمر بالإزالة يقتضي فساد الصلاة، إذا تقع هذه الصلاة فاسدة عندما يزاحمها وجوب الإزالة فهنا قاعدة أصولية أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده لم نستطع أن نستبط منها الحكم الشرعي وهو بطلان الصلاة إلا بعد ضمّ قاعدة أصولية أخرى وهي إن النهي عن العبادة يقتضي الفساد.

وأجاب السيد الخوئي عن هذا الاعتراض الثاني بأن هذه المسألة وإن أحتاجت إلى مسألة أصولية أخرى على فرض وهو فرض عدم إمكان الاجتماع ولكنها ليست بمحتاجة إلى قاعدة أصولية أخرى بناءً على الفرض الثاني وهو القول بإمكان الاجتماع.

ثم يقول السيد الخوئي يكفي لصيرورة المسألة أصولية أن لا تكون المسألة بحاجة إلى ضمّ مسألة أصولية أخرى ولو على فرض من الفروض فقاعدة اقتضاء الأمر للنهي عن ضده بناءً على إمكان الاجتماع وبناءً على عدم إمكان الاجتماع، بناءً على عدم إمكان الاجتماع نحتاج إلى ضمّ قاعدة أصولية أخرى وهي أن النهي عن العبادة يقتضي الفساد وأما بناءً على إمكان الاجتماع فلا نحتاج إلى ضمّ قاعدة النهي عن العبادة يقتضي الفساد فيقول السيد الخوئي يكفي عدم الحاجة إلى مسألة أصولية أخرى ولو بناءً على فرضٍ من فروض القاعدة.

وهكذا حاول السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ أن يتخلص من نقد على ما ذكره من مائز وضابط للقاعدة الأصولية وهي أنها تقع في طريق الاستنباط من دون حاجة إلى ضم قاعدة أصولية ولو على فرضٍ من فروض المسألة.

هذا تمام الكلام في تقرير تعريف المحقق الخوئي للمسألة النقد عليه يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo