< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

39/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الآية الثامنة التي استدل بها على ولاية الفقيه العامة قولهO في كتابه الكريم

الآية الثامنة التي استدل بها على ولاية الفقيه العامة قولهO في كتابه الكريم {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء}([1] ).

الآيات الخمس وهي من الآية الثامنة إلى الآية الثانية عشر استدل بها آية الله الشيخ محسن الآراكي~([2] )، لذلك سنتطرق إلى هذه الآيات الخمس ونذكر تقريب الاستدلال وسنذكر ما ذكره الشيخ محسن الآراكي~ في تقريب الاستدلال وسيتضح أنها بأجمعها لا تدل على ولاية الفقيه العامة فضلاً عن المطلقة، فتكون النتيجة النهائية أن الآيات الاثني عشر التي استدل ببعضها آية الله الشهيد السيد مصطفى الخميني+ وهي أربع آيات واستدل أيضاً آية الله الخائفي بخمس آيات، واستدل أيضاً آية الله الآراكي بخمس آيات، هذه الآيات الاثني عشر لا تدل على ولاية الفقيه العامة فضلاً عن المطلقة فتكون النتيجة النهائية إن ولاية الفقيه المطلقة أو العامة لم تثبت بالدليل اللفظي الشرعي القرآني وإنما تثبت بالدليل الشرعي اللفظي الروائي.

الآية الخامسة تقريب الاستدلال بها ببيان أربع مقدمات ونتيجة وأذكر نص المقدمات من استدلال آية الله الشيخ الآراكي~.

المقدمة الأولى دلت الآية الشريفة على أن الحاكمين بالتوراة هم ثلاث طوائف، النبيون الذين أسلموا والربانيون والأحبار وهم علماء اليهود.

المقدمة الثانية أشارت الآية المباركة إلى أن العلة والسبب الذي جعل الطوائف الثلاث هم الحاكمين بالتوراة هو أنهم استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء وما في قوله بما استحفظوا مصدرية فيكون المعنى إنهم يحكمون بالتوراة بسبب استحفاظهم لكتاب الله وكونهم عليه شهداء والباء هنا تفيد معنى العلية كما هو ظاهر لأنه هو المعنى المناسب للدخول على المصدر أي الاستحفاظ وليس من الصحيح ما زعمه بعض المفسرين من كون ما هنا موصولة ليكون المعنى والأحبار يحكمون بالذي استحفظوه من كتاب الله فإنه سوف يكون تكراراً غير مفيد لقوله يحكم بها بل تكراراً مخلاً لأنه يفقد كلمة الاستحفاظ شأنها في العبارة وتكون كالحشو الزائد وهو لا يناسب فصاحة الكلام الإلهي وبلاغته، هذه المقدمة الثانية وهذا نص كلام الشيخ الآراكي([3] ).

المقدمة الثالثة ـ أذكر نص كلام الشيخ الآراكي ثم نناقش ـ المقدمة الثالثة وإذا كانت العلة في أن النبيين والربانيين والأحبار يحكمون بالتوراة كونهم علماء بالكتاب شاهدين عليه ومن المعلوم أن عموم العلة يستوجب عموم الحكم فتكون الآية دالة بمقتضى عموم العلة على أن كل عالم بالكتاب شاهد عليه يكون هو الحاكم بالكتاب فالكتاب الإلهي ومنه القرآن العظيم كتاب الله الأعظم إنما يحكم به العلماء به الشاهدون عليه.

المقدمة الرابعة والأخيرة الشهادة في القرآن الكريم في هذه الآية وفي كثير من الآيات يراد بها معناها الظاهر وهو المعنى اللغوي لا معناها الاصطلاحي الفقهي وهو الذي يقتل في سبيل الله ومعناها اللغوي الدليل والحجة والقرائن كثيرة على أن المقصود بالشهادة في القرآن الكريم الشهادة التامة أي الشهادة على الحق باللسان والوصف والفعل وليس باللسان فحسب كما هو الحال في الشهادة المتعارفة في القضاء، إذ يكون الشاهد شاهداً على الحق بلسانه فحسب، إذا تمت هذه المقدمات الأربع.

يقول الشيخ الآراكي([4] ) وحينئذ فيكون معنى الشهادة على الكتاب أن الشاهد هو المعيار العملي المفسر للكتاب في عالم التطبيق ولا يكون كذلك إلا بأن يكون عاملاً بالكتاب متصفاً بما يدعوا إليه الكتاب وآمراً به منتهياً عما ينهى عنه الكتاب ومزدجراً عنه فإن العامل بالكتاب المتصف بما يدعو إليه والذي تتجسد فيه قيم الكتاب ومفاهيمه هو الدليل العملي على الكتاب والحجة القائمة عليه وهذا هو معنى الشهادة على الكتاب وهو المقصود بالعادل الذي يصلح أن يكون حاكماً بالكتاب مقيماً لأحكامه، انتهى كلامه~.

وفيه: أوّلاً لو رجعنا إلى الآية الكريمة وإلى ذيلها وهو قولهO {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء}([5] ) لوجدنا أن الاحتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أن يعود قيد بما استحفظوا إلى الطوائف الثلاث، أي النبيون الذين أسلموا والربانيون والأحبار، نذكر الآية الكريمة لنرى كيف تعود قالO {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}([6] )، هذه الطوائف الثلاث التي تحكم وهي النبيون والربانيون والأحبار بسبب ماذا تحكم؟ على أي أساس تحكم؟ الجواب بسبب ما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، هذا هو الاحتمال الأوّل وبناء على هذا الاحتمال يتم استدلال الشيخ الآراكي.

الاحتمال الثاني: أن يعود قيد بما استحفظوا على الطائفتين الثانية والثالثة فيكون قيد بما استحفظوا يعود إلى خصوص الربانيين والأحبار دون النبيين وبناء على هذا الاحتمال أيضاً يتم الاستدلال.

الاحتمال الثالث: أن يعود قيد بما استحفظوا إلى خصوص الطائفة الثالثة وهي الأحبار فيصير معنى الآية هكذا {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ}([7] ) يعني أنبياء اليهود يحكمون بالتوراة وأيضا الربانيون يحكمون بالتوراة ثم يأتي القيد الثالث ويحكموا بها الأحبار بالذي استحفظوا من كتاب الله فإذا عاد ذيل الآية وهو قيد استحفظوا إلى خصوص الأخير وهو الأحبار يكون الأوجه أن تكون ما موصولة وليست سببية، فيصير هكذا معنى الآية {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}([8] ) فإذا أصبحت ما موصولة عادت إلى خصوص الأحبار دون الربانيين والنبيين فلا يتم الاستدلال بالآية الكريمة على ولاية الفقيه لأن الاستدلال بالآية الكريمة على ولاية الفقيه فرع أمرهم، أوّلاً أن يكون قيد بما استحفظوا راجعاً للربانيين، ثانياً أن تكون ما بمعنى السببية لا بمعنى الموصول، فهذه احتمالات ثلاثة، فإن تم استظهار الاحتمال الأوّل أو الاحتمال الثاني تم مطلوب الشيخ الآراكي وإن لم يتم استظهار الأمر الأوّل أو الثاني بل قوينا استظهار المعنى الثالث كما استظهره صاحب مجمع البيان الطبرسي([9] ) وجعل كلمة الأحبار متعلقة بما استحفظوا ففي هذه الحالة لا يتم استدلال الشيخ الآراكي ولا أقل من الشك فيحصل الإجمال في الآية الكريمة فلا يتم المطلوب.

المناقشة الثانية ظاهر الآية الكريمة أنها في مقام الحديث عن بني إسرائيل وأن الله§ قد منَّ عليهم بإنزال التوراة التي فيها هدى ونور، وهذه التوراة كانت تشكل قانوناً ودستوراً لأنبياء بني إسرائيل ولعلماء بني إسرائيل وهم الأحبار وللربانيين فيكون المراد من الربانيون بني إسرائيل وأما قيد {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء}([10] ) فلا يستفاد منه التعميم لفقهاء عصرنا وإنما يراد لأن هذه الطوائف الثلاث الذي كانت في بني إسرائيل استحفظها الله على كتاب الله وكانت شاهدة عليه، يعني كان قولها حجة لذلك حكمت فالآية ليست في مقام جعل الولاية وإنما الآية الكريمة كانت في مقام بيان أهمية التوراة ودور أنبياء بني إسرائيل ورباني بني إسرائيل وأحبار بني إسرائيل في الحكم وهداية الأمة، فتكون الآية أجنبية عن مقامنا.

إن قلت: العبرة بالعموم وخصوصية الوارد لا يلغي عمومية اللفظ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟! قلنا من غير الواضح أن الآية الكريمة فيها عموم، القدر المتيقن أن الطوائف الثلاث حكمت لأن الله استحفظها على كتابه وجعل قولها حجة، أما أن الله قد استحفظ الفقيه وجعله حجة فهذا أول الكلام، الكلام طبعاً جعل قوله حجة في الحكم والشؤون العامة هذا تمام الكلام في المناقشة الثانية وهو أن الظاهر من الآية هو بيان دور التوراة والطوائف الثلاث في بني إسرائيل وليس بيان دور الفقيه الجامع للشرائط.

المناقشة الثالثة لو سلمنا بالمقدمات الأربعة التي جاء بها الشيخ الآراكي~ فإنها أيضاً لا تدل على المطلوب يعني سلمنا بالمقدمة الأولى أن الآية دلت على أن الحاكمين هم طوائف ثلاث، الأنبياء والأحبار والربانيين وسلمنا بالمقدمة الثانية أن العلة في حكمهم هو ما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء وأن الباب بمعنى السببية والعلة.

المقدمة الثالثة عموم العلة يوجب عموم الحكم فبما أن العلة عامة وهي الاستحفاظ على كتاب الله والشهادة عليه فيكون المحمول والحكم عام يعني كل من استحفظ على كتاب الله وكان عليه شهيداً يعني وكان قوله حجة فهو حاكم فيشمل الفقيه.

المقدمة الرابعة المراد بالشهادة هو المعنى اللغوي، يعني أن يكون قوله حجة وأن يكون دليلاً على الحق، فلو سلمنا بهذه المقدمات الأربع فهي غاية ما يمكن أن تثبت ولاية عموم المؤمنين ولا تثبت ولاية الفقيه العامة لأن اللفظ الوارد في الآية هو الربانيون ولم يرد فيها العلماء الربانيون، فغاية ما يمكن أن يستدل بالآية على ولاية عموم المؤمنين لا على ولاية الفقيه العامة ولذلك ورد في آخر كلام الشيخ الآراكي~ يقول([11] ): وهذا هو معنى (الشهادة على الكتاب)، وهو المقصود بـ (العادل) الذي يصلح أن يكون حاكماً بالكتاب، مقيماً لأحكامه، يعني المدار على العدالة لا على الفقاهة وهذا أجنبي عن بحثنا نحن نبحث ولاية الفقيه العامة ولا نبحث ولاية عموم المؤمنين العدول، إذاً الآية الثامنة لا يتم الاستدلال بها.

الآية التاسعة قولهO: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}([12] )، يقول الشيخ الآراكي([13] ): فالآية الأولى تؤكد على عدم استواء العالم وغيره في ولاية الأمر وأن العالم هو الذي يستحق ولاية الأمر دون غيره والعلم هو المراد بالرزق الحسن كما يدل على ذلك بعض آخر من آيات الكتاب وكذا ما ورد في الحديث من تفسير الرزق بالعلم ومن القرينة على ذلك قوله تعالى في ذيل الآية {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، كما وأن الآية الثانية مثلٌ يراد به توضيح عدم استواء العامل بالعدل مع غيره في استحقاق ولاية الأمر فالآية تستشير العقل الفطري وتستنطقه وهو الذي يحكم بعدم استواء العامل بالعدل الأمر به مع من لا يعلم بالعدل ولا يعمل به في القيام بالأمر([14] )، إلى أن يقول([15] ): إلا أنّ أهليّة الحكم والأمر والنهي خاصة بالعالم العادل، لا يشاركه فيها غيره، وهو المطلوب. هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال بالآية الكريمة.

وفيه: إن سورة النحل من السور المكية وفرق كبير بين السور المكية والسور المدنية، فإن السور المكية ركزت على توحيد الله§ وعلى الكثير من الأمور الظاهرة والبسيطة لدى المجتمع المكي الذي كان مجتمع شرك وبالتالي يحمل لفظ الرزق في الآية الكريمة على المعنى الظاهري والعرفي بين الناس وهو الرزق المادي والحصول على الأموال، بخلاف الآيات المدنية التي نزلت في المدينة أو نزلت بعد الهجرة على ما هو الصحيح في التفريق بين المكي والمدني، فالمكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان في مكة والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان في مكة فإن الآيات المدنية ركزت على معاني أعمق في المجتمع الإسلامي، فإذا تمسكنا بهذه القرينة وهي كون السورة مكية وقرأنا الآيات الكريمة فإننا نحمل لفظ الرزق على ظاهره فالآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}([16] )، فهذا مثال للعبد الضعيف والمخلوق الضعيف المسلوب الإرادة، {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}([17] )، فهل يحمل من رزقه الله رزقاً حسناً وينفق منه سراً وجهراً على العالم في ذلك المجتمع المكي المليء بالشرك أو يحمل على الثري الذي كانت لديه أموال وهو من أصحاب الوجاهة الاجتماعية وينفق سراً وجهراً {هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}([18] )، يعني أكثر هذا المجتمع المشرك في مكة لا يعلم ولا يفقه هذه الأمور فرق بين الرجل القوي الذي ينفق كيف يشاء سراً وعلانية وبين الرجل الضعيف كالعبد المملوك المسلوب الإرادة، فلا يتم الاستدلال بالآية الأولى على المطلوب هذه المناقشة الأولى.

المناقشة في استظهار الرزق الحسن ونحن نقول إنها ظاهرة في الرزق المادي والأموال وليست ظاهرة في العلم فتكون الآية أجنبية عن المدعى وبعيدة عن المطلوب.

المناقشة الثانية لو سلمنا بجميع ما ذكره الشيخ الآراكي~ من أن المراد بالآية الأولى وبالرزق هو العلم ومن أن الله§ ضرب هذا المثل لكي يقول لهم من أعطيته رزقي وهو العلم يختلف عن العبد المسلوب العبارة الذي لم أعطه هذا الرزق وهو العلم والآية الأخرى {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}([19] ) فلو سلمنا بالمقدمات التي ذكرها الشيخ الآراكي~ فإنها أقصى ما تدل على أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفيه كل الخير، فالآية في مقام بيان أن الرجل المقتدر مقدم وهو أفضل من الرجل الضعيف ولكن هذا الرجل المقتدر والمقدم هل لابد أن يكون فقيهاً، أم يكفي أن يكون من عموم المؤمنين العادلين الذين لديهم مقدار معين من العلم، فالاستدلال بالآية لا يختص بالفقيه الجامع للشرائط فكما يشمل الفقيه يشمل عموم المؤمنين فلا يتم الاستدلال بالآية الكريمة على ولاية الفقيه بالخصوص على أننا نرى أن الآية الكريمة أجنبية عن المدعى وفقاً للمناقشة الأولى، إذاً الآية التاسعة لا يتم الاستدلال بها على ولاية الفقيه العامة.

الآية العاشرة وهي قوله§ {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}([20] )، تقريب الاستدلال ما ورد عن الشيخ محسن الآراكي([21] )، دلّت الآية الكريمة على أنّ الذي يهدي إلى الحقّ ـ لكونه عالماً بالحقّ، وسالكاً طريقه ـ أحقّ بالاتّباع من غيره الذي يحتاج في سلوكه طريق الهدى إلى أن يتعلّم من العالم به، وأن يقتدي به، ويتّبعه فهي واضحة الدلالة على أن الفقيه العادل أولى بالولاية والقيادة من غيره الذي يُحتاج إليه في الاهتداء، فمع وجود الفقيه العادل لا يجوز لغيره أن يتولى القيادة والإمرة ولا يضرّ بعموم الآية ورودها في مورد خاصّ وهو: نفي استحقاق الشركاء الذين اتخذهم المشركون آلهة دون الله للإتّباع فإنّ تعليل عدم استحقاقهم للتبعيّة بتعليل عامّ: يدل على عموم المِلاك، هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال.

وفيه: إن سورة يونس من السور المكية التي ركزت على الهداية إلى توحيد الله§ والبعد عن عبادة الأوثان والضلال المبين فيحمل قوله§ {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}([22] )، على أهمية وأولوية إتباع الأنبياء والمرسلين^ فهم كنبينا الخاتم أبا القاسم محمد| أولى بالإتباع لأنه يهدي إلى الحق فهو أولى بالإتباع من زعماء المشركين الذين لا يهدون إلا إذا هدوا، فكيف يحكم مجتمع الشرك بهذا الحكم ويساوي بين النبي محمد| وبين سائر زعماء المشركين وسائر زعماء قريش في مكة، فالآية الكريمة أجنبية عن المدعى ولا تدل على ولاية الفقيه المطلقة، هذا تمام الكلام في الآية العاشرة، إذاً الآية العاشرة لا تدل على ولاية الفقيه العامة أو المطلقة.

الآية الحادية عشر قوله § {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}([23] )، تقريب الاستدلال ورد عن الشيخ الآراكي([24] ) دلّت الآية على نفي الاستواء بين العالم وغيره مطلقاً وعلى فرض الإجمال فإنّ القدر المتيقّن من نفي الاستواء: نفيه عنهما في كلّ ما يمكن أن يكون للعلم دخل فيه، ولا شك أن قيادة الناس في طريق طاعة الله، وتنفيذ أوامره ونواهيه من أوضح موارد دخل العلم وتأثيره فالنتيجة الحاصلة من دلالة الآية ـ في ما نحن فيه ـ عدم استواء الفقيه العادل مع غيره في أهلية القيادة والحكم فمع وجود الفقيه العادل لا يحق لغيره تولّي مهام الإدارة والقيادة؛ لعدم أهليّته واستحقاقه مع وجود من هو أولى بذلك منه.

وفيه: هذا تحميل للآية ما لا تتحمل خصوصاً إذا لاحظنا أن سورة الزمر من السور المكية التي تذكّر بالآخرة {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}([25] ) لذلك سميت سورة الزمر، فسورة الزمر التي فيها إنذار ووعيد للكفار والمشركين وأنهم سيردون جهنم إذا لم يؤمنوا أو يسلموا الآية الكريمة تقول لهم فرق بين العالم والجاهل، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}([26] ) وأبرز مصداق له في ذلك الوقت النبي| {وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}([27] ) وأبرز مصداق له زعماء الشرك كأبي جهل وأبي سفيان {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}([28] ) يعني أهل العقول الراجحة هؤلاء إذا ذكروا تذكروا، فالآية الكريمة في مقام هداية مجتمع الشرك وتذكيرهم بأن إتباع النبي وأهل العلم لا يستوي مع إتباع زعماء الجهل والضلال، إذاً الآية الكريمة أجنبية عن المدعى.

الآية الثانية عشر والأخيرة قال§ {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}([29] )، الشيخ محسن الآراكي قال([30] ): ورود الآية في أمر الولاية واضح فهي تنفي ولاية غير الله سبحانه، وتؤكّد على انحصار حقّ الولاية به سبحانه دون غيره، ثم تستدل لذلك بنفي الاستواء بين الأعمى والبصير، وبين الظلمات والنور وواضح من هذا التمثيل أنّ العمى والبصر كناية عن الجهل والعلم، والظلمات والنور كناية عن الظلم والعدل، أو أن الجهل والعلم من مصاديق العمى والبصر، إلى أن يقول([31] )، فإن الفقيه العادل عالم بالطريق الذي يهدي إلى الحقّ، فهو كالبصير الذي يرى الطريق، وغيره كالأعمى الذي يحتاج إلى دلالة غيره، هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال بالآية الثانية عشر.

وفيه: أوّلاً قد نستظهر أن المراد بالأعمى والبصير والظلمات والنور معناهما الظاهري، فالآية الكريمة في مقام إثبات ربوبية رب العالمين، {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ}، وهذا واضح أن الله هو خالق السماوات والأرض كوضوح الفرق بين الأعمى والبصير وبين الظلمات والنور فكيف جعلتم لله شركاء وتشابه الخلق عليكم، فإذاً المناقشة الأولى ظاهر العمى والبصر أو الأعمى والبصير هو المعنى الظاهري فلا يحمل على العلم والجهل.

المناقشة الثانية لو سلمنا بأن المراد بالأعمى والبصير الجهل والعلم وأن الظلمات والنور كناية عن الظلم والعدل فهذا الاستظهار لا يدل على المدعى ولا يدل على ولاية الفقيه بالخصوص بل يكفي فيه إثبات ولاية عموم المؤمنين فالمؤمن الذي لديه مقدار من العلم وهو عادل ولايته لأمور الناس يصدق عليها أنها خروج من الظلمات إلى النور ومن الظلم إلى العدل فلا تختص الآية بخصوص ولاية الفقيه العامة، على أننا نرى أن الآية أجنبية تماماً عن بحث ولاية الفقيه العامة، إذاً الآية الثانية عشر لا تدل على المطلوب.

إلى هنا انتهينا من بعض المباحث الذي ذكرنا تمهيد لبحث ولاية الفقيه بيّنا فيه معنى الولاية ثم بعد ذلك شرعنا في الباب الأوّل الأدلة على ولاية الفقيه العامة أو المطلقة، الباب الأوّل وفيه فصول.

 

الفصل الأوّل

الأدلة الشرعية اللفظية على ولاية الفقيه

فيه قسمان:

القسم الأوّل الاستدلال بالقرآن الكريم على ولاية الفقيه

واتضح من الفصل الأوّل بكلى قسميه أن الآيات الاثني عشر لا تدل على ولاية الفقيه العامة فضلاً عن المطلقة، بينما الفصل الثاني وهو الاستدلال بالروايات على ولاية الفقيه اتضح أن الدليل تام على ولاية الفقيه المطلقة تمسكاً بموثقة السكوني فضلاً عن ولاية الفقيه العامة التي دلت عليها مقبولة عمر بن حنظلة والتوقيع الشريف >وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا<([32] ).

بكلى قسميه الاستدلال بالقرآن الكريم والاستدلال بالروايات، الفصل الأوّل الأدلة الشرعية اللفظية على ولاية الفقيه يأتي الفصل الثاني الأدلة الشرعية غير اللفظية وهي قسمان، القسم الأوّل الاستدلال بسيرة العقلاء، القسم الثاني الاستدلال بسيرة المتشرعة، الفصل الثالث الاستدلال بالإجماع على ولاية الفقيه، الفصل الرابع الاستدلال بالدليل العقلي على ولاية الفقيه، يقع الكلام في الفصل الثاني، الاستدلال على ولاية الفقيه العامة أو المطلقة بالدليل الشرعي غير اللفظي من سيرة العقلاء وسيرة المتشرعة.

 


[1] () سورة المائدة الآية 44.
[2] () نظرية الحكم في الإسلام، ص231 إلى 237.
[3] () نظرية الحكم في الإسلام، ص232.
[4] () نظرية الحكم في الإسلام، ص234.
[6] () نفس المصدر.
[8] () نفس المصدر.
[9] () مجمع البيان، ج3، ص305.
[11] () نظرية الحكم في الإسلام، ص234.
[12] () سورة النحل الآية 75 و 76.
[13] () نظرية الحكم في الإسلام، ص234.
[14] () نفس المصدر، ص235.
[15] () نفس المصدر، ص236.
[17] () نفس المصدر.
[18] () نفس المصدر.
[21] () نظرية الحكم في الإسلام، ص236.
[24] () نظرية الحكم في الإسلام، ص237.
[27] () نفس المصدر.
[28] () نفس المصدر.
[30] () نظرية الحكم في الإسلام، ص237.
[31] () نفس المصدر، ص238.
[32] () وسائل الشيعة، الباب11، من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo