< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأخلاق

39/02/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الإنسان ذو جنبة روحانية

وصلٌ ونعم الوصال الذي ذكره المحقق المدقق الشيخ أحمد النراقي "رحمه الله" فقد ذكر أن الإنسان له جنبتان جنبة مادية وجنبة معنوية؛ فإذا غلبت الجنبة المادية مال الإنسان إلى طباع البهائم والسِبَاعْ لأنها تتحرك وفقا لغرائزها المادية وإذا غلب على الإنسان الجنبة العقلية المعنوية الملائكية عرج إلى عنان السماء؛ الآية الكريمة التي صدرنا بها الدرس وردت في حق أهل الليل وقيام الليل هؤلاء الذين عرجوا إلى الله تبارك وتعالى في صلاتهم وتهجدهم ورياضاتهم النفسانية والمعنوية من خلال الأوراد والأذكار والمواظبة على قراءة القرآن والصلاة والتهجد والتنفل والتعبد؛ هؤلاء يلتقون بالملائكة المقربين ويترفعون عن شؤون البدن والقوى السبعية والبهيمية، إذاً أنت أعرف بنفسك فانظر إلى اهتماماتك اليومية فإن غلب عليها اهتمامات تخص البدن من أكل وشرب واستحمام إلى آخره فاعلم أنك صاحب نفس أرضية ملكية لا ملكوتية وإن غلب عليك الجانب المعنوي وحب الله والأنس بالله والتقرب إلى أولياء الله وذكر الله فاعلم أنك صاحب نفسٍ ملكوتية كل إنسان يعرف اهتماماته.

تجد بعض الناس عنده اهتمام ببيته دائما مشغول بيته وهندسته وعمارته؛ تجد بعض الناس عنده اهتمام بسيارته كل همه وكل شغله آخر موديل وآخر سيارة؛ تجد بعض الناس كل اهتمامه بموبايله إذا تأخذ منه الموبايل كأنما قد أخذت قلبه؛ تجد بعض الناس كل اهتمامه بزوجته؛ تجد بعض الناس كل اهتمامه بأولاده؛ هذا لا يعني أنه لا تهتم بالزوجة والأولاد والموبايل والمبنى (قل من حرم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق) هذا أباحه الله الكلام في الانشغال وكثرة الانشغال وقوة العلقة والتعلق بشؤون المادة وإلا فالإنسان يحتاج إلى الشؤون المادية الإنسان له جنبات مادية؛ لذلك الممقوت في الروايات هو طول الأمل وليس نفس الأمل الإنسان لا يعيش من دون أمل أنت الآن إذا في هذه اللحظة تدرك أن ملك الموت سيقبض روحك بعد لا تدرك ولا تشتغل ولا تنام ولا تأكل لا يعيش الإنسان من دون أمل.

الممقوت هو طول الأمل فكل إنسان له جنبتان جنبة مادية سفلية وجنبة معنوية علوية؛ الرجل الإلهي الإنسان الروحاني هو الذي يغلب عليه جنبته المعنوية والإنسان المادي هو الذي تغلبه الجنبة المادية الجسدية فنعم هذا الوصل الذي وصلنا به المحقق النراقي "رضوان الله عليه" الإنسان الإلهي يعيش معنا ولكنه لا يعيش معنا يعيش مع الناس لأنه يختلط مع البشر وهو البشر ولكنه دائم الأنس بالله تبارك وتعالى.

تقول السيدة نجمة السادات ابنة العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان كان البعض يمشي ويسلم على والدي فيلاحظ أن الوالد يمشي في طريقه من دون أن يقف معهم وهم غافلون عن أن السيد الطباطبائي كان مشغولا بصلاة النافلة فمن المعلوم لديكم أن صلاة النافلة يشترط فيها استقبال القبلة عند الاستقرار وأما عند عدم الاستقرار فيشرع الصلاة في النافلة ولا يشترط فيها استقبال القبلة بخلاف الصلاة الواجبة فإنه لابد من استقبال القبلة في حال الاستقرار أو غير الاستقرار، أولياء الله هكذا مشغولو الذكر وليس المراد بالذكر خصوص الذكر اللفظي؛ إذا سألك سائل ما هو أفضل الذكر؟

سئل سماحة آية الله العظمى المرحوم الشيخ محمد تقي بهجت "رحمه الله" عن أفضل الذكر فقال أفضل الذكر هو الذكر العملي والمراد بالذكر العملي أن تذكر الله ولا تعصيه في مقام العمل هذا أفضل ذكر يعني أن لا تعصي الله قد تتصور هذا سهل.

جاء رجل إلى الشيخ بهجت فقال له أفضل الذكر أن لا تعصي الله فقال هذا سهل شيخنا قال تريد أن أخبرك ماذا فعلت بالأمس؛ في عالم اليوم صعب الإنسان لا يعصي صعب يفتح التلفاز ينظر إلى الأجنبية يفتح الموبايل ينظر إلى كلام غير لائق أو صور غير لائقة يتكلم مع فلان إلى آخره؛ الرجل الإلهي هو الذي يراقب الله "عزَّ وجل" في السر والعلن وأفضل الذكر الذكر العملي يعني في مقام عملك اليومي لا تعصي الله أبداً هذا أفضل ذكر أفضل من الذكر اللفظي لأنك هذا الذكر إذا تذكر الله عند المعاصي ولا تعصي تصير معصوم بعد لا ترتكب ذنب هذا أفضل ذكر الذكر العملي.

وأما الذكر اللفظي فأفضله قال الشيخ البهجت "رحمه الله" لم نجد في الروايات والآثار ذكرا أفضل من الصلاة على محمد وآل محمد لأن الصلاة على محمد وآل محمد تقربك إلى الله من جهة وتدخل السرور على محمد وآل محمد من جهة أخرى؛ كما أن الصلاة على محمد وآل محمد تخرج من القلب النفاق فالإنسان الذي دائما يلهج بذكر الله في القول والعمل في السر والعلن ويواظب على ذلك سيطرد جميع الخواطر الشيطانية؛ يقول العرفاء توجد درجات عند الإنسان ومنازل في سيره وسلوكه إلى الله تبارك وتعالى ومن أرقى الدرجات درجة يصل فيها الإنسان السالك إلى مرحلة التحكم في الخواطر فالمعصوم "عليه السلام" لا ترد إلى ذهنه خاطرة ذهنية فيها معصية لله تبارك وتعالى؛ والإنسان الطاهر والنزيه والإلهي لا يسمح أن تخطر إلى ذهنه فكرة سيئة أو عمل سيء فهذه درجة عظيمة، فخلاصة هذا الوصل جعلنا الله وإياكم من الواصلين أن الإنسان له جنبتان؛ جنبة مادية جسدية سفلية وجنبة معنوية علوية ملكية فإما أن تتصل بعالم المُلك وإما أن تتصل بعالم الملكوت.

هناك مقولة جميلة وحلوة لأبي الفتوح الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني "أعلى الله مقامه الشريف" يقول فيها "العالم محضر الله فلا تعصي الله في محضره" أي أن الله تبارك وتعالى حاضر في العالم في كل زمان ومكان فإذا كان العظيم حاضراً في كل زمان وفي كل آن وفي كل مكان كيف تجرأ على معصية الله تبارك وتعالى؛ العالم محضر الله فلا تعصوا الله في محضره؛ لذلك أولياء الله لهم مهابة هذه المهابة اقتبسوها من هيبة الله تبارك وتعالى هذه ليست هيبة اصطناعية لجيش أو مال أو سلاح أو إعلام هذه هيبة حقيقية هذه هيبة واقعية؛ أولم تقرأ في التاريخ أن المنصور الدوانيقي "لعنه الله" أراد أن يقتل الإمام الصادق "عليه السلام" فأمر مجموعة من السيافين أن يختبؤوا في قصره وقال لهم إذا جاء جعفر بن محمد وأشرت إليكم فاخرجوا واقتلوه فدعا الإمام الصادق "عليه السلام" إلى قصره فلما دخل جعفر بن محمد الصادق إلى قصر المنصور قام إجلالاً له وأجلسه في الموضع اللائق به وقال تفضل يا بن رسول الله قال أنت دعوتني وإذا بعبارات التبجيل والاحترام ثم ودعه؛ فقيل للمنصور بعد ذلك أردت أن تقتله فكيف صنعت به هذا الصنع قال رأيت رسول الله "صلى الله عليه وآله" واضعاً يده على سيفه وهو ينظر إليَّ نظرة غضب فخشيت؛ هذه هيبة صنعها الله تبارك وتعالى وليست كالهيبات التي تصنعها طواغيت العصر، لذلك عندنا في الرواية إن الجنة هي التي تشتاق إلى سلمان لا أن سلمان هو الذي يشتاق إلى الجنة؛ الإنسان المؤمن هو هذا الإنسان الذي يعيش النعيم بداخله نتيجة أُنسه بالله تبارك وتعالى؛ إنها لذة ما أعظمها من لذة نسأل الله "عزَّ وجل" أن يمتعنا بها وأن لا يحرمنا منها خصوصا طلاب الحوزة العلمية.

أتذكر في يوم من الأيام ذهبنا إلى طهران قبل قرابة عشرين سنة مع أحد الفضلاء وكان يقود السيارة وهو يُسَّبِحْ ويقول ما أتعسني! فقلت ولم؟ قال أنا عشرين سنة في الحوزة العلمية على الأقل المفروض أن أكون مستجاب الدعوة؛ عشرين سنة في الحوزة العلمية وأنا كما كنت حينما جئت إلى الحوزة العلمية ولم يتغير فيَّ شيء سوى حفظ مجموعة من الاصطلاحات هذا الذي تغير، فانظروا إلى أنفسكم يا أخوتي ويا أحبتي؛ طالب العلم لا يأخذه الغرور يقرأ العلماء سادة والعلماء قادة (إنما يخشى الله من عباده العلماء) لكنه في حقيقته ليس بعالم إنما هو رجل حفظ بضعة اصطلاحات حاله حال أخيه الذي ذهب إلى الجامعة ودرس الطب والأخ الآخر الذي ذهب إلى الجماعة ودرس الهندسة؛ فهم إخوان ثلاثة الأول حفظ المصطلحات الطبية ويستطيع معالجة المرضى والثاني حفظ المصطلحات الهندسية ويستطيع معالجة المشاريع الهندسية والثالث حفظ المصطلحات الشرعية والفقهية ويستطيع معالجة المسائل الفقهية والشرعية.

أما أن هذا العلم خرج من عالم الألفاظ والاصطلاحات واستقر في النفس وأوصلها إلى درجة الاطمئنان ودرجة الأنس بالله تبارك وتعالى فهذا قليلٌ جداً؛ نسأل الله "عزَّ وجل" أن يوصلنا إلى هذا المقام السامي لأن هذا المقام فيه لذة لا يمكن أن توصف من يأنس بالله تبارك وتعالى وعلى اتصال دائم بالله تبارك وتعالى هذا يحصل على لذة ليس دونها لذة.

السيد الإمام الخميني "أعلى الله مقامه الشريف" حينما كان في النجف الأشرف في يوم من الأيام رأى رؤيا مزعجة وكان ولده الشهيد آية الله السيد مصطفى الخميني يتردد على السيد عبد الكريم الكشميري "رحمه الله" ـ المدفون الآن في حرم السيدة المعصومة بعد قبر السيد صاحب الميزان هناك قبور العرفاء وأهل الله؛ السيد أحمد الخونساري عاش 105 سنوات أحد المراجع صاحب كتاب جامع المدارك يقال إنه وصل إلى العصمة العملية وذكرنا قصته فيما سبق حينما أجريت له عملية فتح قلب من دون أن يخدر وإنما اكتفى بالأذكار والأوراد؛ ويليه السيد حسين الطباطبائي صاحب الميزان يليه السيد الكشميري ومجموعة من العرفاء ـ فكان يتردد السيد مصطفى الخميني على السيد الكشميري وكان ينعت السيد الكشميري عند الإمام الخميني وأنه عارف واصل ومن أهل الله؛ فقال له الإمام الخميني "رضوان الله عليه" يا ولدي صاحبك إن كان رجلا اذهب إليه وقل له والدي أزعجه شيء فما هو تعبيره وما هو تفسيره فإن أخبرك فهذا رجل؛ وهذه القضية قد سمعتها من سماحة الشيخ حبيب الكاظمي "حفظه الله" وقد لازم الشيخ عبد الكريم الكشميري سنوات طويلة وهو ينقلها عنه مباشرة؛ فجاء السيد مصطفى الخميني "رحمه الله" إلى السيد عبد الكريم الكشميري فقال له إن والدي أزعجه شيء فما هو؟ قال رؤيا رآها؛ قال وما هي وما تفسيرها؟ قال إن أباك رأى أنه قد مات في النجف الأشرف ودفن في لحد ضيق وكان هناك حصاة في خاصرته تؤذيه فاستيقظ منزعجا وقال أموت في النجف الأشرف ولا تنتصر الثورة في إيران؛ ولكن قل لأبيك لا يقلق وتعبير هذه الرؤيا أن النجف الأشرف ستضيق بأبيك وستصبح كاللحد الضيق وهذه الحصاة التي تؤذيه في خاصرته هي الشاه محمد رضا بهلوي يؤذيه ولكن بشر أباك فإنه سيخرج قريباً من النجف الأشرف وستضيق به وسيرجع إلى إيران منتصراً؛ تمر الأيام عدة أيام وشهور ويخرج الإمام الخميني إلى فرنسا من العراق ويرجع إلى إيران مظفراً منتصراً يستقر مدة في قم ثم يذهب إلى طهران قال لهم أحضروا لي الكشميري؛ أحضروا السيد عبد الكريم الكشميري فأمر له الإمام الخميني "رضوان الله عليه" ببيت في دورشهر؛ وللأسف الشديد كان جنب مدرستنا ما توفقنا للذهاب استثمروا هذه الفرص وأنتم في قم يوجد الأعاظم في قم الكنوز لكنها تحتاج إلى غواص ماهر لاستخراجها.

الشاهد من هذه القصة طبعاً السيد الإمام قال له ما حاجتك قال أنا أريد جنسية هو أصله هندي ولكن من جهة أمه له أصول إيرانية فقال له أنا أريد جنسية فقال له الإمام الخميني أنا أكتب لك لكي يعطوك الجنسية فقال له الكشميري ولكن هذا لا يتم وفعلاً كتب له الإمام الخميني بجنسية وتوفي السيد الكشميري من دون جنسية ما تم الإجراء والتنفيذ، معروف في الاستخارات يصلي في مسجد صغير في سوق الحويش في النجف لكن لما ينتهي من الصلاة المصطفين للاستخارة إلى خارج سوق الحويش معروف حتى أن أحدهم قد استخار عنده لكي يرجع إلى بلده ويستقر فقال له الاستخارة جيدة ولكن سترجع إلى بلدك وستكون من وعاظ السلاطين وفعلاً هذا الذي حصل؛ عموماً صاحب كرامات.

الشاهد هنا الشيخ حبيب الكاظمي يسأل السيد الكشميري بعد رجوعه من زيارة الإمام الخميني قال له كيف وجدت الخميني؟ فقال له وجدته يسبح في عالمه ومن حوله كالذباب لا يدركون كنهه؛ هذا رجل عظيم أنت تعيش معه ولكن لا تدرك كنهه وحقيقته وإلى أين وصل.

نسأل الله "عزَّ وجل" أن يوفقنا وأن يجعلنا من أولياء الله وأن يعرفنا على أولياء الله فهذا نعم الوصل ونعم الوصال.

فصلٌ الأقوال في الخير والسعادة والتوفيق بينها جعلنا وإياكم من أهل الخير والسعادة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo