< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأخلاق

39/02/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تأثير التربية على الأخلاق

تكلمنا في الفصل الذي خصصه الشيخ محمد مهدي النراقي لتأثير التربية على الأخلاق وذكر ثلاثة أقوال في المسألة وتطرقنا إلى القول الأوّل وحجته وهو إن كل خلق قابل للتغيير فجميع الأخلاق قابلة للتغيير فتؤثر فيها التربية وهذا القول هو قول مشهور الأوائل من الأخلاقيين.

القول الثاني بالعكس جميع الأخلاق غير قابلة للتغيير وقد تطرقنا إلى هذا القول وحجته وبعد اتضاح بطلان كلا القولين يشرع المحقق النراقي "رحمه الله" في بيان القول الثالث وحجته وهو القول بالتفصيل فبعض الأخلاق طبيعي يمتنع زواله وغير قابل للتغيير والبعض الآخر من الأخلاق غير طبيعي حاصل بالعادة أو الاكتساب فيمكن تغييره؛ وأكثر الأخلاق هي من قبيل الأخلاق القابلة للتغيير لأنها أخلاق غير طبيعية وهو ما تشير إليه الرواية الشريفة عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" (كل مولود يولد على الفطرة ولكن والداه إما يهودانه وإما ينصرانه وإما يمجسانه ـ يعني يصير من المجوس عبدة النارـ).

يقول المحقق النراقي "رحمه الله" أكثر الأخلاق قابلة للتغيير لأن الولد يولد صفحة بيضاء خالية ينقش فيها الأب والأم والمجتمع ما يريد؛ نعم هناك مساحة صغيرة ومحدودة للأخلاق التي لا تقبل التغيير وهذه الأخلاق التي لا تقبل التغيير لا تنالها مساحة الثواب والعقاب لأنها في الغالب صفات وراثية ذهنية نفسية مثل حدة الذكاء؛ مثل قوة الحافظة؛ فهذه الأمور التي لا تقبل التغيير هي الأخلاق الطبيعية التي لا تنالها يد الثواب والعقاب؛ لا يثاب الإنسان على حدة ذكائه أو بطيء فهمه أو شدة حافظته أو بطيء حافظته.

يقول المحقق النراقي "رحمه الله" إذا ثبت بطلان القولين الأوليين الحق هو القول بالتفصيل أي أن بعض الأخلاق تقبل التغيير وهو أكثر الأخلاق والشاهد على ذلك الحس والعيان فالوجدان لا يحتاج إلى برهان.

يقولون شخص رأى شخصاً قال فلان أما زلت حياً؟ قال نعم أنا أتكلم معك؛ قال لا أصدق إنَّ الذي أخبرني بموتك ثقة أنا لا أصدق؛ قال يا فلان أنا بلحمي ودمي وشحمي أتكلم معك؛ قال لا أصدق إنَّ الذي أخبرني ثقة؛ قال له أنا معك بالوجدان والوجدان لا يحتاج إلى برهان ولا يحتاج إلى دليل؛ الوجدان خير دليل وبرهان ونحن بالوجدان الذي لا يحتاج إلى برهان ندرك أن الأخلاق تتغير بالحس، نقول ما شاء الله أنت اليوم مزاجك جيد فرحان تبتسم؛ أنت اليوم للأسف حزين جداً الكآبة قد اكتسحت خدك بحيث لا تبتسم، إذاً بنظر المحقق النراقي الحق هو التفصيل أكثر الأخلاق تقبل التغيير والتبديل وهناك مساحة محدودة وصغيرة من أخلاق الإنسان لا تقبل التغيير والتبديل، ما هو الدليل على ذلك؟ إن أكثر الأخلاق تقبل التغيير والتبديل؟

الدليل الأوّل الحس والوجدان الذي لا يحتاج إلى برهان فإننا نرى أن أكثر أخلاق بني آدم قابلة للتغيير والتبديل.

الدليل الثاني يلزم بطلان الشرائع والسياسات إذ لو لا إمكانية تَغَيُرْ الأخلاق لما وجدت فائدة لبعث الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين وقيام علماء الدين بواجباتهم من إرشاد الناس فعلى ما يرشدون الناس إذا كانت أخلاق الناس غير قابلة للتغيير؛ فلو التزمنا بالقول الثاني وهو أن جميع الأخلاق لا تتبدل ولا تتغير فيلزم بطلان بعثة الأنبياء وبطلان اتخاذ السياسات لتغيير الإنسان.

الدليل الثالث إمكان تغير أخلاق البهائم فإذا أمكن تغير خلق البهائم وهي عجماوات غير عاقلة فمن باب أولى يمكن تغير أخلاق الإنسان وهو سيد الكائنات فالحيوانات الشرسة المفترسة كالأسد ملك الغابة والنمر يمكن ترويضها فتلعب في السرك أمام الناس من دون أن تؤذي الناس وهكذا الكلب الهِرش الذي ينهش الناس يمكن ترويضه إلى صديق وفي للإنسان؛ فإذا أمكن تغير خلق البهائم وهذا ما يشاهد بالعيان ولا يحتاج إلى دليل ولا برهان يمكن تغير أخلاق الإنسان بالمشاهدة والتجربة، هذا تمام الكلام في أكثر أخلاق الإنسان التي تقبل التغير وهي خصوص الأخلاق غير الطبيعية هي الأخلاق الاكتسابية التي يجري عليها بفعل البيئة يجري عليها بفعل التربية بحكم العادة بحكم جبر النفس.

وأما القسم الثاني من الأخلاق وهو قليل جداً فهو غير القابل للتغير مثل الأخلاق المتعلقة بالقوة العقلية الذكاء؛ الحفظ؛ حسن التعقل؛ وبالوجدان الذي لا يحتاج إلى برهان نرى أن الكثير من هذه الأخلاق لا تقبل التغير وإنما هي ترجع إلى المزاج والوراثة ولذلك لا تجد اثنين متماثلين؛ دائما هناك تغير في الصفات حتى لو تشابها في الصفات الجسمية والمادية كالتوأمين لكننا نجد اختلافاً في الصفات النفسية والمعنوية ويشير إلى ذلك الرواية التي صدرنا بها المحاضرة عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" (اِعملوا فكل ميسر لما خلق له) الله "عزَّ وجل" خلق الإنسان ويسر له الطريق وأعطاه إمكانات واستعدادات إذا فعلها فإنه سيسير إلى بر الأمان والى الطريق الذي أراده الله تبارك وتعالى له.

هناك كلمة لطيفة ظريفة إلى المعلم الأوّل وهو أرسطو طاليس؛ المعلم الأوّل في الفلسفة أرسطو والمعلم الثاني الفارابي؛ وهناك من يذهب إلى أن أرسطو وأستاذه أفلاطون كانا من الأنبياء وعندنا بعض الروايات التي تشير إلى ذلك روايات ضعيفة والشيخ حسن زادة آملي في تعليقه على منظومة السبزواري أشار في التعليقة إلى ذلك.

أرسطو يقول الأشرار يصيرون أخيار بالتأديب ولكن تأديب الأشرار يؤثر في الأشرار تأثيرات مختلفة فيذكر ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل بعض الأشرار يتأثر بالكلية ينقلب بالكامل إلى رجل خير.

القسم الثاني يتأثر بعض الشيء.

القسم الثالث أبداً لا يتغير كلمته واحدة لا تبديل لكلمات الله.

همام سأل أمير المؤمنين (صف لي المؤمنين قال اعفني؛ وبإصراره فإن أبا الحسن وصف له المتقين في نهاية الخطبة خر همام صعقاً ومات) هذا تأثير همام مات من خطبة أمير المؤمنين (إذا زكي أحدهم خاف مما يقال لا فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي من نفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون) صفات كثيرة للمتقين لم يتحملها همام فتوفي على أثر سماع هذه الخطبة ثم قال أمير المؤمنين (هكذا تصنع المواعظ بأهلها)؛ وأما غيره لو تأتي له أكبر واعظ الهي لا يتغير أبداً ويعتبر هذا صمود ويعتبر هذا عنفوان وبطولة أنه لا يتأثر؛ والقرآن يشير إن من الأحجار لما يتفجر وإن منها لما يهبط من خشية الله إن من الحجارة ولكن هذا قلب الإنسان كجلمود صخر حده السيل من عليل.

يقول أرسطو يمكن صيرورة الأشرار أخيارا بالتأديب إلا أن هذا ليس كلياً فإنه ربما أثر في بعضهم بالزوال ـ يعني بالزوال الشرور عنهم ـ هذا القسم الأوّل؛ القسم الثاني وفي بعضهم بالتقليل تقليل الشرور؛ القسم الثالث وربما لم يؤثر أصلا.

ثم يشير المحقق النراقي إلى المراد بالتغيير فيقول إن الإنسان له قوى في نفسه كالقوة الغضبية والقوة الشهوية وليس المراد بالتغيير انتزاع أصل القوة يعني تغيير أصل القوة الغضبية وإزالتها أو تغيير أصل القوة الشهوية وإزالتها هذا غير صحيح؛ فإن لوجود القوة السبعية والغضبية أثر مهم وهو الدفاع عن العرض والغضب لله وللدين كما أن للقوة الشهوية أثر مهم فالشهوة البطنية أثرها استمرار الحياة والمعيشة والشهوة الجنسية أثرها استمرار النسل وامتداد نسل الإنسان والبشر؛ ولكن المراد تغيير شوائب القوة الغضبية والقوة الشهوية أي الوصول إلى حد الوسطية فلا إفراط ولا تفريط؛ يعني التغيير نحو العفة فلا يصاب الإنسان بالكبت حينما يقمع القوة الشهوية ولا يصاب بالشره حينما يطلق العنان للقوة الشهوية؛ فالعفة حد وسط بين الشره وبين الكبت وهكذا الوصول إلى الشجاعة التي هي الحد الوسط بين التهور الذي هو إطلاق العنان لقوة الغضب وبين الجبن الذي هو إعدام أو تضعيف للجرأة وعدم وضعها في موضعها، إذاً المراد بالتغيير هو الوصول إلى حد الوسط في الصفات الأخلاقية وفي القوى النفسانية وليس المراد بالتغيير إزالة وإلغاء أصل الشهوات؛ وهذا هو الفارق الكبير بين الإسلام وغيره فقد جاء في الرواية عن رسول الله أبا القاسم محمد (لا رهبانية في الإسلام) يعني لا يوجد أنه تنسك بحيث تترك الزوجة والأهل والعيال وتذهب إلى أعلى جبل وتتعبد وتتهجد وتتنسك وتترك الأهل والعيال لا رهبانية في الإسلام بخلاف المسيحية فيها رهبانية؛ الراهب لا يتزوج والراهبة لا تتزوج هذا قمع للشهوة الجنسية والعياذ بالله، إذاً الثابت شرعاً وعقلاً هو تهذيب قوى النفس وليس إزالة وإلغاء قوى النفس.

ثم يشير إلى نقطة مهمة وهي أن الإنسان لا يمكن له إعدام شيء من الموجودات كما لا يمكن له إيجاد شيء من المعدومات فبالتالي الإنسان بالمجاهدة والرياضة لا يعدم قوى الغضب والشهوة الموجودة في نفسه ولا يوجد قوة أخرى في نفسه إذا لم تكن موجودة في نفسه؛ إذاً هو لا يتعامل مع أصل الأشياء وجوداً وعدماً بل الإنسان دوره دور الإرشاد والتنمية للقوى الموجودة أو الكبت الذي يوجب ضمور وضعف القوى الموجودة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ـ يعني نماها ـ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ـ التدسية الإخفاء ـ) فالآية الكريمة لم تشر إلى أن الإنسان يلغي النفس ويلغي قوى النفس وإنما الإنسان إما أن ينمي قوى النفس ويرشدها ويزكيها وإما يضعف ويخفي ويقلل من قوى النفس.

في الختام يشير إلى هذه النقطة؛ تغيير الأخلاق وتبديلها يختلف باختلاف طرق وسياسات التأديب ويختلف باختلاف الأشخاص فتغيير أخلاق الطفل أسهل من تغيير أخلاق الشيخ العجوز.

مر لقمان الحكيم على شجرة وشجيرة مع ابنه فلما مر على شجيرة صغيرة معوجة التفت إلى ابنه وقال بني قومها فقومها وعدلها ثم مضيا فوجدا شجرة طويلة كبيرة معوجة قال بني قومها قال لا أستطيع قال هكذا أخلاق الإنسان، فأخلاق الطفل والحدث أي الشاب سريعة التغير والتبدل بخلاف أخلاق الشيخ الكبير (فمن شب على شيء شاب عليه)، إذاً شرائط الرد وشرائط التغيير تختلف باختلاف الإنسان لذلك ورد في الرواية عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" (عليكم بالشباب فإنهم أرق قلباً)، وروايات كثيرة عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" تشير إلى قلب الحدث يعني الشاب الحدث الشيء الحادث الجديد (إنما قلب الحدث كالأرض الخالية تزرع فيها ما تشاء وقلب الشيخ كالصخرة الصماء أو الأرض السبخة المالحة التي لا تنبت شيئا)، لذلك العلم في الصغر كالنقش في الحجر.

وقد ورد عن إمامنا الصادق "صلوات الله وسلامه عليه" حينما انتشرت الفرقة الضالة وهي المرجئة التي كانت تقول لا تحكم على مرتكب كبيرة بدخول النار ولا تحكم على أي أحد بالفسق وإنما أرجئ ذلك إلى الله وأخره إلى حكم الله يوم القيامة قال الإمام الصادق "عليه السلام" (بادروا أبنائكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة)، وهناك معلومة علمية تقول إن أي كلمة تقولها تنطبع في منطقة اللاشعور في ذهن الإنسان ولكنها في يوم من الأيام قد تصاب بظرف مؤثر فتخرج هذه المعلومة وهذا من أساليب التأثير في الإنسان.

في يوم من الأيام كنا مدعوين على مأدبة عشاء في البحرين وكان معنا في المجلس الشيخ عبد الحميد المهاجري وباسم الكربلائي وقد جاءوا إلى البحرين فدعوهم إلى العشاء ودعوني معهم كان في المجلس طفل صغير الشيخ المهاجري قال بني تعال إلى هنا فجاء الطفل؛ حضنه وقبله؛ قال له في المستقبل ماذا تريد أن تصبح؟ قال لا أدري؛ قال قل أريد أن أصبح عالم دين؛ ماذا تريد أن تصبح؟ شيخ عالم دين؛ قال له انصرف، ثم التفت إليَّ وقال هذه الكلمة ستظل تؤثر في منطقة اللاشعور إلى أن يكبر.

نحن نستطيع أن نغرس الكثير من الأمور في أذهان الصغار؛ والمؤدب والمعلم الأوّل الله (أدبني ربي فأحسن تأديبي) كما يقول رسول الله "صلى الله عليه وآله" فمن أراد أن يتأدب فعليه أن يتأدب بالنواميس الإلهية والقوانين الربانية فالمؤدب الأوّل الله تبارك وتعالى والمؤدب الثاني أولياء الله من الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين الذين جاءوا بالحكم والمواعظ.

وفقنا الله وإياكم للعلم والعمل الصالح..

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo