< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأخلاق

39/02/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف

فصل؛ الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف؛ هذا الفصل من أهم الفصول في مقدمات عِلم الأخلاق، العَالِم عَالِمَانْ؛ عَالِمٌ عارف بالله وعَالِمٌ عارف بأحكام الله، إن أكثر الدروس في الحوزة العلمية إنما تخرج عَالِماً عارفاً بأحكام الله ولا تخرج بالضرورة عَالِماً عارفاً بالله لأن محور الدراسات في الحوزة العلمية هو الفقه والأصول ومقدماتهما من النحو والصرف والبلاغة وعلوم اللغة العربية والمنطق والفلسفة، الطالب في الحوزة العلمية إنما يدرس علوم اللغة العربية والمنطق والفلسفة كمقدمة لدراسة الفقه والأصول؛ ومن الواضح أن العالم بالفقه وأصوله إنما هو عالم بأحكام الله وليس بالضرورة هو عالم بالله تبارك وتعالى، وبعبارة أخرى العِلمُ بالله تبارك وتعالى يحتاج إلى قلبٍ صافٍ ونفسٍ زاكيةٍ ولا يقتصر فقط بالتوفر على العقل الراجح بخلاف الِعلْمَ بأحكام الله تبارك وتعالى فإنها قد تتوفر للكافر فضلاً عن المنافق لأن العِلمَ بأحكام الله والاستنباط الفقهي عبارة عن ممارسة أدوات معينة في الفقه وأصوله لاستنباط الأحكام الشرعية والكافر كاليهودي قد يدرس الدروس الحوزوية ويُلم بالأحكام الشرعية وقد رأيت بعض الأجانب ممن هم ضد الدين وقد درسوا الحلقة الثالثة وناقشوني وهم يدرسون الدروس الحوزوية من فقه وأصول ولكن الغرض هدم الدين وليس الغرض تشييد الدين، إذاً خلاصة المقدمة الأولى العَالِمُ عَالمِاَنْ، عَالِمٌ بأحكام الله وهذا ما تخرجه الحوزات العلمية وعَالِمٌ بالله عارف بالله تبارك وتعالى.

إذا استطعنا أن نُخرج عالماً يجمع بين الاثنين فهو من جهة عارف بالله تبارك وتعالى ومن جهة أخرى عارف بأحكام الله تبارك وتعالى فهذا العالم نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، عارف بالله وعارف بأحكام الله.

المقدمة الثانية لدرسنا العلوم على نحويين:

النحو الأوّل العلوم الرسمية.

النحو الثاني العلوم غير الرسمية.

أما العلوم الرسمية فهو ما ندرسه في الحوزة العلمية من نحو وصرف وبلاغة وفقه وأصول وتفسير ومنطق وفلسفة وعرفان إلى آخره هذه علوم رسمية والعلوم الرسمية تزداد بكثرة التعليم والتعلم وكثرة الممارسة وكثرة المدارسة ومن هنا يقول صاحب العروة الفقه فرار فاستعينوا عليه بالمدارسة ومن هنا قيل العلم وحشي إن تُرك يمشي فطبيعة العلوم تحتاج إلى كثرة الدرس والتدريس والبحث والتنقيب فإن كثرة المباحثة وكثرة الدراسة تسهم في تعميق المطالب العلمية وترسيخها في عقل الإنسان؛ بخلاف العلوم غير الرسمية؛ العلوم غير الرسمية هي التي تشير إليها الرواية الكريمة المباركة والشريفة (ليس العلم بكثرة التعليم والتعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء)؛ إذا اتضح أن العلوم منها ما هو رسمي ومنها ما هو ليس برسمي نقول لماذا نوغل في دراسة العلوم الرسمية في الحوزة العلمية ونغفل العلوم غير الرسمية؟

الجواب العلوم الرسمية هي مقدمة لتحصيل العلوم والمعارف غير الرسمية، مثلا الكشف العرفاني؛ الإنسان يُكشف عن قلبه حقائق ومعارف معينة هذه طريقة من طرق العلم والمعرفة؛ من أين يتأكد الإنسان أن هذا الكشف عرفاني وليس وسوسة شيطان؟ كيف يفرق بين النفحة العرفانية والوسوسة الشيطانية؟

الجواب بدراسة النحو والصرف واللغة والمنطق والفلسفة إذا قويت مداركه العقلية من خلال دراسة المنطق والفلسفة؛ إذا قويت تعابيره اللفظية من خلال دراسة علوم اللغة العربية فهو أوّلا يستطيع أن يفرق بين النفحة الرحمانية والوسوسة الشيطانية وثانياً هب أنه عاين الحقائق بكشفه الروحي والعرفاني والقلبي والوجداني ولكن هل يستطيع أن ينقل المكاشفة العرفانية بدقة؟ الآن أنت تحلم أو لا تحلم؟ ترى الحلم أو لا؟ تستطيع أن تنقل الحلم بدقة؟ إن روحك قد عانقت الحلم في المنام ولكن هل تستطيع أن تنقل هذا الحلم في المنام إلى سائر الأنام بتعابير عظام؟ هذا ما يحتاج إلى دراسة علمية لا يحتاج إلى سجعات وتعابير رنانة وإنما يحتاج إلى دراسات علمية، إذاً دراسة العلوم الرسمية مقدمة لتحصيل العلوم والمعارف غير الرسمية ولكن المشكلة كل المشكلة أننا انشغلنا بالمقدمة وغفلنا عن ذي المقدمة؛ كمن يدرس علوم اللغة العربية والمنطق والفلسفة كمقدمة للاجتهاد فيبقى في المقدمات ولا يصل إلى ذي المقدمة وهو الاجتهاد وهذا كثير في حوزاتنا العلمية اليوم، كذلك المشكلة الثانية من يتعمق ويتوغل ويبقى في العلوم الرسمية والصورية والشكلية من فقه وأصول وبلاغة ومنطق ولا يصل إلى الحقائق الربانية والشواهد الربوبية التي يعاينها القلب الخال من شوائب الأوهام ومن الذنوب والآثام وهذا ما سنبحثه في هذا الدرس.

خلاصة الدرس في هذا الشرح:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي      فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال بأن العــــــــــلم نــــــور      ونـــور الله لا يـــؤتاه عاصي

سؤال أي العلم الذي لا يؤتاه عاصي العلم الرسمي أو العلم الحقيقي غير الرسمي، ولكننا للأسف الشديد غرقنا في المصطلحات الفقهية والأصولية والنحوية وغفلنا عن ذي المقدمة، من هنا يقول شهيد العصر السيد محمد باقر الصدر "أعلى الله مقامه الشريف" في كتاب المحنة إن كثيراً من عبائر الفقه والأصول ربما تبعدنا عن الله تبارك وتعالى هذه المصطلحات هي وسيلة للوصول إلى الله وقد تتخذ وسيلة للابتعاد عن الله كما لو اتخذت ذريعة للشهرة وحب الظهور وعمقت العجب في النفس وجعلت صاحبها يمارس الرياء والعياذ بالله.

إذاً الأخلاق المذمومة هي الحجب المانعة عن المعارف الإلهية والنفحات القدسية؛ وما المراد بالنفحات القدسية؟ النفحات جمع نفحة والمراد بالنفحة الإفاضة أي أن الله تبارك وتعالى إذا وجد الأرضية الصالحة والخصبة أفاض عليها من علمه اللدني؛ فما لم يُزِل الإنسان شوائب الأخلاق السيئة والمذمومة من قلبه لم يصل إلى الحقائق الربانية والفيوضات الرحمانية فالقلوب المشغولة بغير الله لن تصل إلى الله وهذه هي وظيفة الشياطين؛ إن الشيطان خبير ماهر كخبرة إبليس منذ أن خلق الله نبينا آدم "عليه السلام" بل ما قبل خلق آدم إلى هذه اللحظة خبرة وتراكم سنوات في الإغواء، في الرواية عن النبي "صلى الله عليه وآله" (لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض) وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة (ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات) تنزل عليهم بركات السماء والأرض ولكن للأسف الشديد هذا القلب الإناء الطاهر بطهارة الفطرة يلوثه الإنسان؛ فإذا كان الوعاء قد امتلأ بالماء لا يدخله الهواء فإذا امتلأ هذا القلب بغير حب الله فكيف يأنس بالله وبحب أولياء الله من هنا تكمن أهمية المجاهدة التي أشارت إليها الآية الكريمة التي صدرنا بها الدرس (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).

في أواخر حياة العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي "رحمة الله عليه" صاحب الميزان في تفسير القرآن الذي درسه لمدة تسعة عشر سنة وهو مطبوع في عشرون مجلداً ـ يوجد له مقطع فيديو ـ يسألونه أنت الآن درست التفسير وبحار الأنوار والفلسفة والفقه والأصول وعندك تجربة في الحياة ما هي أهم نقطة بكلمة واحدة حتى ننجو يوم المحشر؟ قال (مراقبت مراقبت) المراقبة المراقبة؛ أن يراقب الإنسان نفسه يعني قبل أن ينطق بكلمة وقبل أن يصدر منه ذلك السلوك يراقب نفسه في القول والفعل هل صدر بدافع سليم أو لا وهل أريد به وجه الله أو لا.

قال النبي "صلى الله عليه وآله" (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) هذا من الأمور التي توجب تحصيل العلم غير الرسمي؛ هناك رواية عجيبة عن الصادق "عليه السلام" وهي صحيحة السند تشير إلى ثلاثة أمور يقول الصادق "عليه السلام" (من عَلِمَ لله وعَمِلَ لله وعَلَّمَ لله دُعي في ملكوت السماوات والأرض عظيما) يعني ينادونه يا عظيم، ثلاث مراتب المرتبة الأولى عَلِمَ لله يعني يدرس لوجه الله "عزَّ وجل" المرتبة الثانية عَمِلَ لله بعد أن عَلِمَ يعمل لله والمرتبة الثالثة عَلَّمَ لله؛ يعني كله إخلاص في إخلاص، إذاً القلب إذا صفا عن الكدورات الطبيعية بشكل كامل تتجلى فيه الحقائق الربانية ويصبح قابلاً لتلقي الفيوضات.

سؤال لو كان لدينا ماء بمقدار لتر وعندنا إناء ووعاء بمقدار نصف لتر هل نحن قادرون على وضع الماء الذي هو لتر بأكمله في إناء نصف لتر من دون أن ينسكب الماء خارج الوعاء والإناء الذي هو نصف لتر يمكن أو لا يمكن تستطيعون أو لا تستطيعون؟ غير ممكن لماذا؟ يقولون هنا ليس الضعف في الفاعل؛ الفاعل يعني أنت يمكن أن تسكب الماء ولكن الإناء ليست لديه قابلية أن يتلقى لتر كامل؛ الكأس حجمه نصف لتر فقط فيقولون ليس الضعف في الفاعل وإنما الضعف في القابل، لذلك جاء رجل إلى أمير المؤمنين "سلام الله عليه" قال (يا أمير المؤمنين هل يستطيع ربك أن يجعل العالم في بيضة فلا يصغر العالم ولا تكبر البيضة فقال "عليه السلام" ويحك إن الله لا يوصف بعجز ولكن الذي تقول لا يكون) يعني من ناحية الفاعل الله "عزَّ وجل" قادر ليس بعاجز لكن العجز من جهة قابلية القابل؛ هذه الرواية وهذا السؤال سئل أمير المؤمنين فأجاب بجواب حلي (وحيك إن الله لا يوصف بعجز ولكن الذي تقول لا يكون) يعني الضعف من القابل لا من الفاعل وسئل الإمام الصادق "عليه السلام" بنفس هذا السؤال وأجاب بجواب نقضي قال (أنظر إلى السماء ماذا ترى قال أرى الشمس وأرى الكواكب وأرى النجوم قال الذي جعل كل هذه الأمور في أصغر من البيضة وهي عينك ألا يستطيع أن يجعلها كلها في بيضة) فهذا جواب نقضي إسكاتي وليس جواب حلي، نحن ليس بحثنا البيضة والعالم نحن بحثنا الآن الله "عزَّ وجل" قادر على أن يفيض في قلوبنا المعارف الإلهية الفياضة فلا يوجد ضعف في فاعلية الفاعل إنما الضعف في قابلية القابل، نحن في ذنوبنا بآثامنا التي سودت قلوبنا أصبحنا لا نستطيع أن نتلقى هذه الفيوضات والمعارف.

من هنا تأتي الآية الكريمة (فسالت أودية بقدرها) السيل يأتي رغم أنوف العباد؛ السيل ها قد أتى؛ السيل الجارف قادم لكن كل وادي بمقدار حجمه بمقدار استطاعته كذلك القلوب؛ القلوب أوعية الله "عزَّ وجل" قادر على أن يفيض علينا من علمه من حكمته من رحمته من فيوضاته المشكلة كل المشكلة هي النفوس.

إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي، إذاً إلى هنا أخذنا القلوب أوعية لتلقي المعارف والأخلاق الذميمة مانعة من تلقي المعارف.

الأمر الثاني الله "عزَّ وجل" يفيض رحمته على الجميع فلا يوجد عجز في إفاضة الرحمة الإلهية؛ العجز في مقدار التلقي فأوعية كل فرد ووعاء كل فرد يختلف عن وعاء الآخر بمقدار سيطرة الأخلاق الذميمة وهيمنتها على القلب لذلك ورد في الرواية في صفات المؤمن عن أمير المؤمنين "سلام الله عليه" (إنَّ مِنْ أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه إلى أن يقول "عليه السلام" قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى من الهموم إلا هماً واحداً انفرد به فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره واستمسك من العُرى بأوثقها ومن الحبال بأمتنها فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس).

وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين يصف المؤمن الإلهي الرباني يقول (قد أحيا قلبه وأمات نفسه ـ يعني أمات شهوته ـ حتى دُق جليله ـ الجليل هو الكبير في الحجم ـ ولطف غليظه وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه لطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بمن استعمل قلبه وأرضا ربه)، وأيضا ذكر أمير المؤمنين قال في وصف الراسخين من العلماء (هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما أستوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى)، لذلك في الروايات لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب فإذا امتلأ القلب بالكلاب النجسة؛ الكلب مثال لنجس العين؛ فإذا امتلأ القلب بالكلاب النجسة بالآثام والأخلاق المذمومة لم تدخل الملائكة إلى قلب الإنسان الذي هو بيت أهل الله تبارك وتعالى.

خلاصة درسنا: إنَّ القلب هو الوعاء القابل لتلقي الفيوضات الرحمانية والأخلاق الذميمة أكبر مانع عن تلقي النفحات الربانية وكلما نَظَّفَ الإنسان قلبه من الأخلاق الذميمة كلما اتسع وعاء قلبه لتلقي الفيوضات الرحمانية.

وفقنا الله واياكم للعلم والعمل الصالح وأعاننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo