< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأخلاق

39/02/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: إلتذاذ النفس وكمالها بكمال القوة النظرية والعملية معاً

 

جاء في الرواية الشريفة عن أمير المؤمنين "عليه أفضل صلوات المصلين" في أوّل خطبة من خطب نهج البلاغة أنه قال (أول الدين معرفته)[1] ، صدق سيدنا ومولانا أسد الله الغالب علي بن أبي طالب "صلوات الله وسلامه عليه".

هذه الرواية ترتبط ببحثنا الذي عنونه المحقق المدقق الشيخ محمد مهدي النراقي في كتابه جامع السعادات تحت عنوان فصل في بيان تلذذ النفس وتألمها[2] ، في الفصل السابق تطرق المؤلف إلى أن النفس مجردة أوّلاً وباقية ثانياً وبعد الفراق عن تجرد النفس عن المادة من جهة وبقائها من جهة أخرى نشرع في بيان أن النفس قد تكون متنعمة وقد تكون معذبة، فالنفس إما أن تكون متلذذة متنعمة دائماً وإما أن يكون معذبة متألمة دائماً

سؤال ومن هنا يطرح السؤال التالي نفسه، كيف تتلذذ النفس وتلذذ النفس على ماذا يتوقف؟

الجواب تلذذ النفس يتوقف على وصولها إلى كمالها المنشود فإذا وصلت النفس إلى الكمال الذي يخصها ويهمها ويعنيها فإنها ستلتذ وكلما تقدمت النفس خطوات نحو الكمال المنشود والمطلوب كلما تقدمت النفس خطوات نحو اللذائذ المطلوبة والمنشودة، إذاً إلى هنا وصلنا إلى هذه النتيجة العامة وهذه النتيجة الكلية، التذاذ النفس يتوقف على كمالها الذي يخصها وكلما وصل الإنسان إلى كماله المنشود وكماله الذي يرنو إليه كلما حصل على اللذائذ والمتع التي يصبُ إليها والتي يقصدها.

سؤال ومن هنا يطرح السؤال الثاني ما هو الكمال المنشود للنفس؟ وما هو الكمال الذي تنشده النفس الإنسانية؟

الجواب توجد قوتان إحداهما نظرية والأخرى عملية فإذا حصل الإنسان على كلتا القوتين النظرية والعملية يكون قد وصل إلى غاية لذته كلما أوصل الإنسان قوته النظرية والعملية إلى غايتها وإلى كمالها كلما وصل الإنسان إلى غاية كماله وكمال التذاذه فما هي تلك القوة النظرية وما هي تلك القوة العملية، فيقع الكلام أوّلاً في بيان القوة النظرية وثانياً في بيان القوة العملية.

القوة النظرية

أما القوة النظرية فهي عبارة عن الإحاطة بالأشياء بمختلف مراتبها، فكلما أحاط الإنسان بالموجودات وتعرف على الموجودات وعاين حقائق الموجودات أكثر فأكثر كلما قويت معرفته النظرية أكثر فأكثر، الإنسان لا يستطيع أن يحيط وأن يلم بجميع الموجودات الجزئية ولكنه يمكن أن يحيط بمفاهيم كلية تنطبق على تلك المصاديق الجزئية، إذاً كلما قويت القوة النظرية لدى الإنسان كلما زادت لذته، كلما استطاع الإنسان أن يحيط بالموجودات وحقائقها ومراتبها ويطلع على جزئياتها الغير متناهية كلما تكامل أكثر فأكثر إلى أن يترقى ويصعد ويرتفع ويرتقي

غاية الكمال

وغاية الكمال عبارة عن الوصول إلى مقام التوحيد ويتخلص من وساوس الشيطان ويطمئن قلبه بنور العرفان وهذا هو غاية الحكمة العملية ومن هنا صدرنا هذا الدرس بالرواية عن أمير المؤمنين "عليه السلام" ........ بها أوّل الدين معرفته) [3]

فكلما ارتقى الإنسان بالمعرفة وكلما أحاط الإنسان بحقائق الموجودات كلما ترقى أكثر فأكثر وأعظم الموجودات وأكمل الموجودات الله "عز وجل" وكلما اقترب الإنسان من معرفته بالله "عز وجل" كلما تكامل أكثر فأكثر، إذاً خلاصة القوة النظرية هي عبارة عن الإحاطة بالأشياء والموجودات بمختلف مراتبها وكلما أحاطت النفس بالموجودات العالية والراقية كلما كانت النفس عالية وراقية.

ما هو أشرف العلوم؟

من هنا إذا سألكم سائل هذا السؤال، انتم درستم في الحوزة العلمية الفقه والأصول والعقائد والقرآن والرجال والفلسفة والعرفان إلى آخره، سؤال ما هو اشرف العلوم ما هو أفضل العلوم؟

الجواب أفضل العلوم التوحيد، لماذا اشرف العلوم هو التوحيد؟ الجواب لأن شرف العلوم بشرف موضوعها وموضوع علم التوحيد الله "عز وجل" وذات واجب الوجود هي أكمل الموجودات وأفضل الموجودات فيكون العلم الذي يدرس أفضل الموجودات هو أفضل العلوم ويكون العلم المختص بدراسة أكمل الموجودات هو أكمل العلوم، إذاً علم التوحيد هو أكمل واشرف وأعظم العلوم في الحوزة العلمية والجامعات الدينية والإسلامية.

إلى هنا انتهينا من بيان كمال القوة النظرية وأما المراد بالقوة النظرية الإحاطة بحقائق الموجودات والأشياء وكلما ارتقى الإنسان في معرفته بحقائق الأشياء كلما ارتقت درجته وعظمت منزلته، من هنا يقول أمير المؤمنين "عليه أفضل صلوات المصلين" (لو كشف لي الغطاء ما أزدت يقينا)[4] ، فماذا يقصد أمير المؤمنين "عليه أفضل الصلوات المصلين" من قوله (لو كشف لي الغطاء ما أزدت يقينا)؟ أي أن الإنسان يعيش في عالم الشهادة وهو بعيد عن عالم الغيب فهناك حقائق في الوجود لا يدركها ﴿لقد كنت في غفلة عن هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد﴾[5] ، الإنسان لما ينتقل من نشأت عالم الدنيا إلى نشأت عالم البرزخ ومن نشأت عالم البرزخ إلى عالم القيامة تتكشف له حقائق كان يجهلها.

أمير المؤمنين "عليه السلام" يقول هذا الغطاء الذي يكون حاجباً وساتراً بين الناس وسائر هذه الحقائق هذا الغطاء لو رفع عني لما ازداد يقيني، لاحظ الدرجة الذي وصل إليها أمير المؤمنين "سلام الله عليه" (لو كشف لي الغطاء ما أزدت يقينا)، يعني واصل إلى أوج كمال المعرفة، إلى هنا عرفنا أن كمال القوة النظرية بكمال الإحاطة بحقائق الموجودات والأشياء على اختلاف مراتبها والاطلاع على مختلف الجزئيات غير المتناهية بإدراك الكليات التي تنطبق على تلك الجزئيات غير المتناهية.

يقول العرفاء هكذا هذه مطالب عميقة السالك إلى الله إذا أرتا قد يصل إلى مرتبة يستطيع التحكم بالخواطر التي تخطر في ذهنه فهذه الخاطرة يسمح لها بالعبور وهذه الخاطرة لا يسمح لها بالعبور، كيف أن الدولة تتحكم في الخطوط الجوية فتسمح لطائرة بعبور الأجواء الجوية وتمنع طائرة من عبور الأجواء الجوية للبلد كذلك المؤمن الواصل السالك الواصل يصل إلى مرحلة بعد الشيطان ما يأتي إليه في الصلاة ويأتي له بخواطر توجب له السهو والغفلة في الصلاة، الإنسان لا يصل إلى هذه المرتبة إلا بالعلم إذا أحاط بحقيقة وجوده إذا أحاط بحقيقة وجود الله تبارك وتعالى ولا يحاط إحاطة كاملة بوجود الله "عز وجل" لأن عقل الإنسان متناهي والله تبارك وتعالى معرفته لا نهاية لها فكيف يحيط المتناهي بغير المتناهي.

إلى هنا عرفنا كمال المعرفة العقلية وأما المعرفة العملية فتتلخص في خطوة بل ثلاث خطوات:

الخطوة الأولى التخلية.

الخطوة الثانية التحلية.

الخطوة الثالثة التجلية.

فهذه ثلاث كلمات الفارق بينها في النقطة، الخطوة الأولى التخلي، الخطوة الثانية التحلي، الخطوة الثالثة التجلي،

فمثلاً لو كان لدينا أنبوب ماء أو أنبوب بالوعة أو إناء تمر فيه أو تقبع فيه القاذورات وأردنا أن ننظفه وأردنا أن نعقمه فإن الخطوة الأولى تكمن في تخلية الأنبوب والإناء من القاذورات ثم الخطوة الثانية في تحلية الأنبوب والإناء بالماء الطاهر والنظيف بعد التخلص من الماء الآسن والمتعفن،

إذن هاتان الخطوتان لابد منها أوّلاً تخلية الأنبوب والإناء من القاذورات ثانياً تحلية الإناء والأنبوب بالماء النظيف

وهكذا المرآة إذا كانت المرآة فيها بعض الكدورات والأوساخ فالخطوة الأولى تكمن في إزالة الكدورات والخطوة الثانية تكمن في تحلية هذه المرآة بأمور توجب نظافتها وأما إذا جئنا بالأصباغ اللازمة لتحلية المرآة ووضعناها على الأوساخ وجئنا بالماء النظيف والطاهر ووضعناه على الماء الآسن والمتعفن سيتحول الماء النظيف إلى ماء وسخ،

إذن الخطوة الأولى تكمن في التخلي والخطوة الثانية تكمن في التحلي،

كذلك الحال في الأمور المعنوية أولاً يتخلى الإنسان من العيوب والذنوب والنقائص، ثانياً يتحلى بالفضائل والمكارم والحسنات، لا معنى لأن يتحلى بالفضائل والمناقب لكن على الذنوب والمعاصي والمآثم،

إذن الخطوة الأولى في القوة العملية والسلوك العملي والرياضة العملية تكمن في التخلي من العيوب، تخلية النفس من القاذورات والسيئات والمعاصي والذنوب ثم تحلية النفس بالحسنات والفضائل والمناقب إذا اكتملت الخطوة الثانية تتجلى الخطوة الثالثة (فثم وجه الله قد تجلى)[6] ،

إذا الماء النظيف وضعناه في الإناء يطهر الإناء وينظف لكن تبقى فيه بعض الروائح من الحالة السابقة ولكن مع استمرارية مرور الماء النظيف والطاهر في الأنبوب أو الإناء ستصبح رائحة الأنبوب فواحة عطرة، سيصبح لونه مع مرور الزمن أفضل وأكثر شفافية كذلك الإنسان في خطواته العملية إلى الله "عز وجل"، الخطوة الأولى يتخلى من العيوب والذنوب الخطوة الثانية يتحلى بالفضائل والمناقب والخطوة الثالثة تتجلى فيه المواهب الربانية والعطايا الإلهية

خلاصة الدرس

إذا اتضح هذا يتضح خلاصة درس اليوم وهو أن النفس مجردة عن المادة وهذه النفس باقية وهذه النفس متنعمة وتنعم النفس بتلذذها وغاية تلذذها بكمال قوتها النظرية وقوتها العملية إذاً كمال تلذذ النفس بكمال المعرفة النظرية من جهة وكمال القوة العملية من جهة أخرى فإذا أحاط الإنسان من ناحية نظرية بحقائق الموجودات وعرفها من جهة وعملياً مارس التخلية والتحلية إلى أن وصل إلى التجلية سيكون هذا الإنسان في غاية اللذة.

الخواجه نصير الدين الطوسي يوم من الأيام كان على سقف داره وتوصل إلى حل معادلة رياضية فوقف وصرخ قال أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة)، الإنسان حينما يصل من خلال معرفته إلى اكتشاف مجهولات والحصول على معلومات يصل إلى غاية اللذة.

 

ارتباط الصورة بالمادة

ثم في الختام يشير المحقق النراقي إلى مطلب نحوي صرفي أصولي فلسفي عميق وهو بيان ارتباط الصورة بالمادة، فالكلمة مثل ضرب، أكل، قتل، توجد مادة للكلمة وهي حرف الضاد والراء والباء في ضرب وتوجد هيئة وشكل للكلمة يقال له فعل وهكذا لفظ أكل له مادة وهو الهمزة والكاف واللام وله هيئة وشكل فعل وهكذا لفظ قتل فيه مادة وهو القاف والتاء واللام وفيه هيئة وشكل وهو هيئة فعل،

سؤال هل الهيئة فعل يمكن أن تتحقق من دون حروف ومن دون مادة ضرب، قتل، أكل؟

الجواب لا يمكن، قوام هيئة الكلمة قوام شكل الكلمة بالمادة فيقولون في الأصول للهيئة والشكل يقال له معنى حرفي يعني معنى قائم بغيره معنى غير قائم بنفسه، شكل الكلمة لا يوجد إلا بمادة الكلمة فهو معنى مندك المعنى الحرفي مندك في المعنى الاسمي، المعنى الحرفي غير قائم بنفسه وإنما هو قائم بغيره ولا يتصور المعنى الحرفي من دون المادة.

مثال آخر مادي البناء يتألف من مادة وهو الطابوق والأسمنت والكونكريت ويتألف من شكل هذا البناء مبني على شكل دائرة هذا البناء مبني على شكل مثلث هذا البناء مبني على شكل مربع، سؤال هل المربع موجود في الخارج من دون مادة؟ لا، هل المثلث والمستطيل موجود في الخارج من دون مادة؟ لا، لو وجدت مادة طابوق واسمنت لكن مبعثرة غير مبنية هل هذه المادة يستفاد منها من دون شكل؟ لا، إذاً هناك علاقة ترابط بين المادة والصورة بين الشكل والمادة.

المصنف المحقق النراقي "رضوان الله عليه" يقول القوة النظرية الإحاطة بحقائق الموجودات بمثابة الصورة بمثابة الشكل يعني مثل المثلث المربع مثل شكل حروف الكلمة، صيغ الكلمات التي ندرسها في الصرف والقوة العملية التجلية والتحلية والتخلية بمثابة المادة فلا يتم أحدهما بدون الآخر فلا تتم القوة النظرية من دون القوة العملية ولا تتم القوة العملية من دون القوة النظرية، وهذا ما أشار له أمير البيان "صلوات الله وسلامه عليه" أمير الموحدين حينما قال (قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك)[7] ، عالم متهتك يعني عنده كمال القوة النظرية عنده محيط بالموجودات يعلم بالموجودات لكن متهتك يهتك حرمات الله من ناحية عملية لا يلتزم بما علم وبما عرف وجاهل متنسك يعني من ناحية العمل هو قام بالعمل لكن من ناحية القوى النظرية هي غير موجودة عنده وجاهل متنسك، (قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك

إذن يوجد ترابط وثيق بين القوة النظرية التي هي بمنزلة الصورة وبين القوة العملية التي هي بمنزلة المادة فلا يتم أحدهما بدون الآخر ومن حصل له الكمالات كمال القوة النظرية وكمال القوة العملية صار بمفرده عالماً لوحده يشكل عالم وهذا العالم يشبه العالم الكبير، (أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر)[8] ، وإذا الإنسان وصل إلى هذه الكمالات التامة وصل إلى أمور عجيبة غريبة.

في يوم من الأيام أبو ذر الغفاري ذهب لزيارة سلمان المحمدي وجد سلمان يطبخ الطعام يدخل يده داخل القدر ويحرك الطعام من دون أن تحترق يده ثم يقلب القدر على وجهه من دون أن يغطيه ولا يسقط ما فيه من طعام خرج أبو ذر ذهب إلى أمير المؤمنين "سلام الله عليه" قال (يا أمير المؤمنين إني رأيت من سلمان عجبا قال وماذا؟ ذكر له الأمور قال يا أبا ذر لا تتعجب إن سلمان أطاع الله في كل شيء فسخر الله له كل شيء)، وهذا ما جاء في الرواية (عبدي اطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون)[9] ، كلما الإنسان أحاط بالموجودات وروض نفسه الله "عز وجل" يعطيه.

جاءوا إلى الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء شيخنا قد أجذبت السماء رفع يديه إلى السماء ودعا الله ثم اخرج يده من النافذة وادخلها وهي مبتلة بماء الغيث، لماذا الآن ما عندنا في الحوزة من أمثال الشيخ جعفر كاشف الغطاء لأن إما هناك تقصير في القوة النظرية يعني شكلاً هو عالم لكن من الناحية المحتوى هو غير عالم وأما هناك تقصير من الناحية العملية يعني من الناحية النظرية هو عالم لكن من الناحية العملية والتطبيقية هو غير عامل بما علم به.

وصلى الله على محمد وآله الكرام.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo