< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأخلاق

39/02/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تجرد النفس وبقائها

نتحدث في بحثنا من كتاب جامع السعادات عن النفس الإنسانية وسنثبت كما أثبت المصنف أن النفس الإنسانية مجردة عن المادة، والأساس الذي دعا المرحوم الشيخ محمد مهدي النراقي صاحب جامع السعادات "رحمه الله" إلى التطرق إلى تجرد النفس هو أن موضوع علم الأخلاق هو الأفعال الاختيارية للإنسان سواء كانت هذه الأفعال الاختيارية حسنة أو سيئة ـ أفعال زينة أو شينة ـ الأفعال الإنسانية والأفعال الاختيارية هي منشأ الفعل الأخلاقي؛ يعني الكرم من صفات النفس الإنسانية والبخل من صفات النفس الإنسانية، إذاً موضوع الفعل الأخلاقي الحسن أو السيئ هو الفعل الاختياري للإنسان ومنشأ الاختيار هو الإرادة الإنسانية ومنشأ الإرادة النفس الإنسانية؛ إذاً لابد من دراسة النفس الإنسانية، هذا لب وأساس المطلب كررناه مرارنا وتكراراً لأهميته؛ خلاصته: موضوع علم الأخلاق هو الأفعال الاختيارية للإنسان ومنشأ الأفعال الاختيارية للإنسان هو إرادة الإنسان وإرادة الإنسان منشأها نفس الإنسان، إذاً لابد من دراسة نفس الإنسان فهل نفس الإنسان مادية كالجسم أو لا؟ الجسم جوهر والنفس جوهر فكلاهما جوهر في مقابل العرض فهما ليسا بعرض إلا أن الجسم والقوة الجسمانية مادية؛ الجسم والبدن يفنى لأنه مادي والمادة قابلة للفناء فهل نفس الإنسان مادية وتفنى كما يفنى جسم الإنسان أو لا، هذا هو درسنا.

المحقق النراقي "أعلى الله مقامه الشريف" يقيم ستة أدلة على أن نفس الإنسان مجردة عن المادة ومجردة عن القوى المادية بخلاف جسم الإنسان مادي يخضع لأحكام المادة؛ بما أن جسم الإنسان مادي فهو يفنى وبما أن نفس الإنسان مجردة عن المادة فهي تبقى، إذاً يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل في إثبات تجرد النفس.

المقام الثاني في إثبات بقاء النفس الإنسانية.

فصل في تجرد النفس وبقائها صفحة 26 من جامع السعادات للنراقي؛ إذاً المقام الأوّل تجرد النفس؛ المقام الثاني من البحث بقاء النفس، يقيم المحقق النراقي ستة أدلة على تجرد النفس عن المادة؛ هذه الأدلة فلسفية لكن إن شاء الله نحاول قدر الإمكان أن نبسطها بحيث يكون المطلب سهلاً.

الدليل الأوّل الجسم لا يقبل صوراً وأشكالا كثيرة ومتعددة فهذه الطاولة مستطيلة فلو جعلناها دائرية زالت صورة المربع وبعد أن صارت دائرية إذا أردنا أن نجعلها مثلثاً زالت صورة المربع وزالت صورة الدائرة وبقيت صورة المثلث وهذا المثلث لو أردنا أن نجعله مربعاً زالت صورة المثلث وهذا المربع إذا أردنا أن نجعله متوازي المستطيلات زالت الصور الأربعة المتقدمة المستطيل والدائرة والمثلث والمربع، إذاً هذه سمة من سمات الجسم وسمة من سمات المادة، هذا البناء شكله صاروخ على شكل جبل بنيت العمارة يأتي المهندس المعماري ويجعله على شكل دائرة أو شكل مربع أو شكل مستطيل فكل صورة تأتي تُعدم الصورة السابقة وكل شكل يأتي يُعدم الشكل الآخر ـ (كلما دخلت أمة لعنت أختها) ـ وهكذا بالنسبة إلى الطعوم فالطعام حلوٌ فإذا تحول إلى المرارة زالت الحلاوة وبقيت المرارة وإذا تحول المرُ إلى حامض زالت المرارة والحلاوة معاً، إذاً لا تجتمع الطعوم في وقت واحد؛ لا يمكن أن يكون هذا الطعام هو حلو ومرّ وحامض في آن واحد، بخلاف النفس الإنسانية أنت الآن في نفس الوقت تستحضر معنى الحلوى وتستحضر معنى المرارة وتستحضر معنى الحموضة من دون أن تكون نفسك حامضة ولا يقال نفسك حلوة ولا يقال نفسك مرة إذاً الطعام المادي يقال له ذا حلاوة ذا مرارة ذا حموضة لأنه مادي ولكن لا يقال للنفس إنها ذات حموضة وذات حلاوة وذات مرارة.

وهكذا الأشكال تقول هذا الخشب إما مربع وإما مثلث وإما مستطيل وإما دائرة لا يمكن أن يكون في آن واحد هذه الأشكال كلها مجتمعة بخلاف النفس الإنسانية تتصور الأشكال المختلفة، بالعكس النفس كلما صورت أكثر كلما قويت أكثر كلما زادت مدركات الإنسان وتصورات الإنسان واطلع على حقائق الأشياء أكثر وأكثر كلما تعملقت وتكاملت النفس أكثر فأكثر، إذاً هذا شاهد على أن النفس ليست مادية.

خلاصة الدليل الأوّل الجسم والقوى الجسمانية لا تقبل أشكال متعددة ولا تقبل طعوم متعددة ولا تقبل ألوان متعددة بخلاف النفس تقبل ألوان متعددة وطعوم متعددة وأشكال متعددة، لذلك كلما زادت رياضات النفس واطلعت على حقائق جديدة كلما تكاملت هذه النفس.

فصل في تجرد النفس وبقائها

قال النراقي لا ريب في تجرد النفس ـ هذا المقام الأوّل ـ وبقائها ـ هذا المقام الثاني ـ وبقائها بعد مفارقتها عن البدن وليس المراد بقاء النفس إلى الأبد (كل نفس ذائقة الموت) مراد بقاء النفس بعد مفارقة البدن، أما الأوّل والمراد به عدم كونها جسماً وجسمانياً فيدل عليه وجوه منها هذا الوجه الأوّل إن كل جسم لا يقبل صوراً وأشكالاً كثيرة لزوال كل صورة أو شكل فيه بطريان ـ يعني بسبب طريان مثله يعني شكل آخر مثله ـ والنفس ـ يعني والحال إن النفس تقبل الصور المتعددة المختلفة من المحسوسات والمعقولات ـ من دون أن تزول الأولى بورود الأخرى بل كلما قبلت ـ يعني النفس ـ صورة ازدادت قوتها على قبول الأخرى ولذلك تزيد القوة على إدراك الأشياء بالرياضات الفكرية وكثرة النظر فثبت عدم كونها جسماً؛ هذا الدليل الأوّل.

الدليل الثاني الجسم له أبعاد ثلاثة طول وعرض وعمق فكل جسم يقبل الأبعاد الثلاثة ولا يمكن أن تتصور جسماً من دون الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق وهكذا لا يمكن أن تتصور الجسم من دون أن يكون ذا طعم له طعم إما حلو وإما مر وإما حامض بخلاف النفس، النفس لا تثبت لها الأبعاد الثلاثة لا يمكن أن تقول النفس طويلة وعريضة وعميقة طولها كذا سنتيمتر وعرض النفس كذا سنتيمتر وعمقها كذا مليمتر لا يمكن ذلك، النفس تتصور الأبعاد الثلاثة لكن لا تتصف بأنها ذات أبعاد ثلاثة كما أن النفس تتصور الطعوم المختلفة من الحامض والمر والحلو لكنها لا تتصف بأنها ذات حلاوة أو ذات حموضة أو ذات مروره؛ كما أن الجسم لا يتصف بالطعم الواحد إلا في آن واحد لكن النفس يمكن أن تتصور في آن واحد وفي لحظة واحدة اللون والحموضة والمرورة والحلاوة مما يدل على أن النفس مجردة عن المادة، المادي لا يمكن أن يكون في آن واحد هو حامض وهو مر وهو حلو، هذا تمام الكلام في الدليل الثاني.

الدليل الثالث النفس تلتذ بالأمور المعنوية وبالمعارف الحقيقية بخلاف الجسم؛ الجسم لا يلتذ إلا من خلال المدركات من الحواس الخمس؛ النظر السمع الذوق اللمس الشم؛ هذه الحواس الخمسة من خلالها يلتذ الجسم يشم ريحة طيبة رائحة المسك يلتذ إلا أن النفس الإنسانية تلتذ بما هو فوق الحواس الخمس.

يقال إن المحقق الخواجه نصير الدين الطوسي في ليلة من الليالي سَهَرَ لحل معادلة رياضية وكان على سطح الدار فلما حلها في جوف الليل صرخ قال أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة؛ لذة طلب العلم هذه لذة معنوية، إذاً الدليل الثالث النفس تلتذ بالأمور المادية وبالأمور المعنوية النفس تلتذ بمدركات الحواس الخمس من الأمور المادية وبغيرها من الأمور المعنوية، أولم تسمع أن صاحب الميزان السيد محمد حسين الطباطبائي "رحمه الله" كان يسمع تسبيح الجدران، إذا استطعت أن تصل إلى مقامه وتدرك ما وصل إليه الملائكة أو أكثر من ذلك فإن هذا المقام مقام معنوي ورفيع قال تعالى (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) النبي "صلى الله عليه وآله" لما عرج به إلى السماء ثم ارتفع مع جبرائيل إلى أن وصل إلى منطقة قال (إليَّ يا جبرائيل قال لو دونت قليلاً لاحترقت) هذا مقام عالي مقام معنوي سامي رزقنا الله واياكم من هذه المقامات.

من باب المعرفة ليس أكثر ولتلطيف الدرس؛ أحد العلماء الفقهاء وعنده الآن رسالة عملية يقول عندما دخلت الحوزة العلمية فم مدينة قم المقدسة سمعت عن الشيخ بهجت؛ يقول ذهبت للصلاة خلف الشيخ بهجت تفاجئت أنه يؤخر الصلاة! قلت كيف هذا عارف ويؤخر الصلاة؛ صلاة الصبح يؤخرها ـ طبعا الشيخ بهجت كان يصلي صلاة الصبح أول الوقت في بيته؛ يؤذن يصلي في بيته ثم بعد نصف ساعة يذهب الى المسجد ويصلي جماعة؛ الناس يظنوا أنه يؤخر صلاة الصبح ـ فقلت في نفسي كيف هذا عارف ويؤخر الصلاة؟ يقول عندما انتهت الصلاة وأراد الشيخ بهجت أن يمشي دونت منه وقلت له شيخنا انصحني؛ قال كيف ينصحك من يؤخر صلاته! ماذا تستفيد من نصيحة من يؤخر صلاته؛ وهذا العالم من المعاصرين الآن؛ هذه فيوضات معنوية.

إذاً النفس تلتذ بالأمور الحسية والأمور المعنوية هذا الوجه الثالث.

الوجه الرابع النفس تدرك الصور الكلية المجردة؛ فهي كما تدرك الصور الجزئية كذلك تدرك الصور الكلية العامة مثلاً النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ولا واسطة بينهما؛ هذه مفاهيم كلية ليست أمور جسمية ومادية النقيضان مثل وجود الإنسان وعدم وجود الإنسان لا يجتمعان لا يمكن لإنسان هو موجود وهو معدوم ولا يرتفعان لا يمكن ليس موجوداً وليس معدوماً ولا واسطة بينهما لا توجد حلقة وسط بين وجود الإنسان وعدم وجود الإنسان؛ هذه كلها أمور معنوية، لذلك صعوبة الفلسفة في تصورها وليست صعوبة الفلسفة في الإذعان بها والاعتقاد بها؛ أنت كيف تتصور المفهوم الفلسفي لأن أكثر المفاهيم الفلسفية مفاهيم مجردة عن المادة والذي يدرك المفاهيم الكلية المجردة عن المادة هو النفس، الجسم قابل للانقسام ولكن النفس غير قابلة للانقسام؛ هل يمكن الآن أنت روحك نقسمها قسمين نضع قسم في هذا المكان وقسم في ذلك المكان؟ النفس غير قابلة للانقسام بخلاف الجسم والقوى الجسمانية فإنها قابلة للانقسام، هذا تمام الكلام في الوجه الرابع.

الوجه الخامس القوى الجسمية لا تكتسب العلوم إلا من خلال الحواس الخمس لذلك يقولون في الغرب نحن نعيش عصر العلم؛ عصر العلم يعني التجربة يقولون معطيات التجربة معطيات علمية فنحن نعيش عصر العلم يعني العلم التجريبي يعني كل حقيقة لا نؤمن بها إلا إذا ثبتت في المختبر من خلال الحاسة الباصرة أو السامعة أو الذائقة أو الشامة أو اللامسة، بعضهم يقول توجد حاسة سادسة هي الحدس؛ يوجد أناس عندهم حدس قوي يعني وهو جالس الآن يقول حصل كذا تسأل فعلا هذا حصل؛ هذه الحاسة السادسة شعور باطني وجداني وليس حاسة مادية، الآن في العلوم الحديثة كتب مؤلفة حول الحاسة السادسة هذه تشير إليها الروايات (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) دقيق جداً رؤية فولاذية ثاقبة.

الوجه الخامس القوى الجسمية الباطنية لا تكتسب العلوم إلا من خلال الحواس الخمسة الظاهرة لكن النفس قد تدرك ما لا يدركه الحواس الخمس كالحاسة السادسة التي تدرك بالوجدان ولا يحتاج إلى برهان والضرورة العقلية قائمة على أنه لا مدخلية لشيء من الحواس في إدراك المعاني المجردة والمعاني البسيطة الكلية.

الوجه السادس والأخير نلاحظ وجود حالة عكسية بين البدن والنفس كلما كَبُرَ الإنسان شاخ بدنه وضعف بدنه لا يسمع بشكل جيد ولا يرى بشكل جيد ولا يمشي بشكل جيد؛ فكلما كبر الإنسان وكبر البناء وقدم البناء تعب وشاخ بخلاف النفس كلما كبرت كلما قويت مداركها، كما يقول أمير المؤمنين (رأي الشيخ أحب إليَّ من جلد الغلام) يعني الرأي الحكيم والخبير لكبير السن الذي حكته الحياة وصار مخضرم أفضل لي من جلد الغلام من شجاعة الغلام.

الرأي قبل شجاعة الشجعانِ هو أوّلٌ وهي المحل الثاني* فإذا هما ثبتا لنفسٍ حرةٍ بلغت من العلياءِ كل مكاني

هكذا يقول المتنبي.

إذاً العكس بالعكس كلما كبر الجسم ضعف وتعب وكلما كبرت النفس شمخت وتكاملت.

إشكال:

النفس عندما تكبر تتكامل؟! نحن نرى الإنسان عندما يكبر يخرف لا يعرف أولاده ينسى زوجته وهذه أمور نفسية راجعة إلى النفس وغير راجعة إلى الجسم والمادة؟ الجواب إن الذي يضعف إنما هو المدركات وليس النفس يعني السمع الذي يدرك من خلاله الأصوات؛ العين التي يدرك من خلالها الأمور البصرية؛ حاسة الشم التي يدرك من خلالها الأمور ذات الرائحة؛ وهذه كلها أمور مادية فالذي يضعف هو الإدراك والأفعال المتعلقة بالقوى الجسمية وليس النفس؛ النفس بجوهرها هذه النفس كلما اطلعت على جزئيات كثيرة كليات كثيرة كلما تسامت وتكاملت، وهذا الوجه السادس والأخير سيكون منطلقاً للفصل القادم فصل في بيان تلذذ النفس وتألمها؛ لأن هذه النفس المجردة عن المادة كلما حصلت لها الخبرة وأدركت الكثير أنت تقول ما شاء الله فلان سياسي مخضرم يعني ماذا سياسي مخضرم؟ يعني عاش تجارب كثيرة واستطاع انتزاع الخبرة والتجربة من تلك التجارب وإلا في واحد ربما يعيش تجارب مئة سنة لكن عقله عمر طفل عمره عشرة سنوات وواحد يعيش تجارب عشر سنوات عنده خبرة رجل مجرب مئة سنة، إذاً الوجه السادس والأخير هو أن البدن يضعف كلما كبر والنفس تقوى كلما كبرت، وإن قلت إن الشيخ الكبير تضعف حواسه قلنا إنما تضعف مدركاته وليست نفسه، هذا تمام الكلام في الوجه السادس من المقام الأوّل ستة وجوه لإثبات أن النفس مجردة عن المادة وليست كالجسم فإن الجسم والقوى الجسمية والبدنية مادية.

في آخر سطر يتكلم عن المقام الثاني بقاء النفس قال وأما الثاني؛ نقرأ العبارة من بداية الفصل ونهاية الفصل بداية الفصل فصل في تجرد النفس وبقائها؛ لا ريب في تجرد النفس وبقائها بعد مفارقتها عن البدن أما الأوّل والمراد به عدم كونها جسماً وجسمانية فيدل عليه وجوب؛ هذا أما الأوّل، الآن آخر سطرين وأما الثاني في مقابل الأوّل ـ وأما الثاني يعني بقائها بعد مفارقة البدن ـ وأما الثاني أعني بقائها بعد المفارقة عن البدن فالدليل عليه بعد ثبوت تجردها ـ يعني الوجوه الستة ـ أن المجرد لا يتطرق إليه الفساد ـ هذا ذكرناه في الدرس السابق ـ لأنه حقيقة والحقيقة لا تبيد كما صرح به المعلم الأوّل أرسطو وغيره ووجهه ظاهر.

هذا تمام الكلام في هذا الفصل في تجرد النفس وبقائها.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo