< قائمة الدروس

بحث الفقه الأستاذ مصطفی الأشرفي

41/01/21

بسم الله الرحمن الرحیم

موضوع: فقه الطهارة- ماء البئر- ظهور اخبار النزح فی الإرشاد إلی نجاسة البئر- حمل الاخبار الدالة علی نجاسة البئر بمجرد ملاقاة النجاسة.

ظهور اخبار النزح فی الإرشاد إلی نجاسة البئر: ذکرنا أنّ روایات المنزوحات البالغة حدّ التواتر دلّت علی وجوب نزح المقدرات المختلفة و هی ظاهرة فی کون النزح إرشاداً إلی نجاسة البئر و النزح مقدمة لتطهیرها، لا أنّ النزح واجب شرطی للوضوء أو الغسل أو الشرب من مائها مع کونها باقیاً علی الطهارة هذا ما هو المتفاهم من تلک الروایات عرفاً. و یشهد له قرائن؛

الأولی منها: تفصیل الإمام() فی عدة من الروایات بین تغیّر ماء البئر فأوجب نزح الماء إلی أن یطهر البئر و یزول تغیّره و بین ما إذا لم‌یتغیّر الماء فأوجب نزح المقدرات ولو بقرینة المقابلة فمنها مؤثقة سماعة؛ قال سألته عن الفأرة تقع فی البئر أو الطیر؟ قال: «إن أدرکته قبل أن ینتن نزحت منها سبع دلاء»[1] . و منها ما عن أبی‌خدیجة؛ قال سئل الصادق() عن الفأرة تقع فی البئر؟ قال: «إذا ماتت و لم‌تنتن فأربعین دلواً فإذا إنتفخت فیه او نتنت، نزح الماء کلّه»[2] .

القرینة الثانیة: ترخیص الإمام() التوضّی من ماء البئر إذا وقع فیها حیوان مذبوح بعد نزح دلاء یسیرة ثم التوضّأ منها کما فی صحیحة علی‌بن‌جعفر؛ قال و سألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت فی بئر، هل یصلح أن یتوضّأ منها؟ قال: «ینزح منها دلاء یسیرة ثم یتوضّأ منها»[3] فإنّ الحدیث فی قوله «ثم یتوضّأ» ظاهر فی کون النزح مقدمة لتطهیر البئر و من هنا جاز التوضّی بعد النزح لا قبله.

القرینة الثالثة: ما إشتملت علیه بعض الأخبار من کلمة «یطهرها» کما فی صحیح إبن‌یقطین عن أبی‌الحسن()؛ سألته عن البئر تقع فیها الحمامة و الدجاجة و الفأرة أو الکلب أو الهرة؟ فقال: «یجزیک أن تنزح منها دلاء، فإنّ ذلک یطهرها إنشاءالله‌تعالی»[4] و کذا صحیحة محمدبن‌اسماعیل‌بن‌بزیع؛ کتبت إلی رجل أن یسأل أباالحسن‌الرضا() عن البئر تکون فی المنزل للوضوء فیقطر فیها قطرات من بول أو دم أو یسقط فیها شیء من عذرة کالبعر و نحوها ما الذی یطهرها حتی یحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقع() بخطه فی کتابی: «ینزح دلاء منها»[5] .

فإنّ قول الإمام() فی الروایة الأولی: «یطهرها» و سؤال الراوی عن تطهیر البئر بعد وقوع النجس فی البئر بقوله: «ما الذی یطهرها» و تقریر الإمام() له ظاهر فی نجاسة ملاقاة البئر مع النجاسة و حصول التطهیر لها بالنزح.

و بالجملة هذه الأخبار بضمیمة هذه القرائن الثلاث صریحة الدلالة علی نجاسة البئر بملاقاة النجس و تطهیرها بالنزح و قد عرفت فی یوم الأربعاء الماضی أنّ سیدنا الحکیم() بعد أن ناقش فی دلالة الأخبار علی الوجوب التعبدی بظهورها فی الإرشاد إلی النجاسة لکن الروایات الطهارة تابی عن ذلک فلابدّ من حملها علی مرتبة ضعیفة من النجاسة لاتثبت لها أحکام النجاسة لإختصاص تلک الأحکام بالمرتبة القویة بدعوی أنّ الذی یساعده الجمع العرفی کما إستقرّ دیدنهم فی أمثال المقام فإنّ الأمر بجملة من المستحبات فی الصلاة مثل الإقامة و التکبیر و غیرهما ظاهر فی الإرشاد إلی الجزئیة أو الشرطیة لکن لمّا لم‌یکن الأخذ به لمادلّ علی الصحة بدونه، حمل علی الإرشاد إلی خصوصیة راجحة فی الصلاة و لم‌تحمل علی الوجوب.

و قد عرفت مناقشة سیدنا الأستاد() فی ذلک و إنّه لاوجه لهذا الجمع فی نظر العرف إذ لایفهم أهل اللسان إذا عرضنا علیهم المتعارضین، من الطهارة طبیعتها و من النجاسة مرتبة ضعیفة، بل الجمع بذلک أمر غیر معقول لإستحالة إجتماع الطهارة مع النجاسة ولو بمرتبة ضعیفة عنهما لأنّهما کالسواد و البیاض المتضادین. ولذا إلتجاء سیدنا الأستاد() إلی الرجوع إلی أحکام المتعارضین من تقدیم موافق الکتاب علی مخالفه أو تقدیم مخالف العامة علی موافقها و قد عرفت أنّهما إقتضیا تقدیم أخبار الطهارة.

أقول: قد عرفت إمکان المراتب فی کلّ من الطهارة و النجاسة إذا کانتا أمرین واقعیین کشف عنهما الشارع و یفیده التصریح بأفضل التفضیل فی کلّ من الطهارة و النجاسة فی الآیات و الروایات.

ثم إنّ سیدنا الأستاد() أیّد قوله فی الحمل علی التقیة بأنّ الأئمة() لم‌یکونوا بصدد بیان الحکم الواقعی بل کانوا فی مقام الإجمال تقیة کما تری ذلک فی صحیح محمدبن‌إسماعیل‌بن‌بزیع حیث سأل عما یطهر البئر فأجاب() بقوله «ینزح دلاء» و الجمع صادق علی الثلاثة مع أنّه لاقائل بتطهیر نجاسة البئر بثلاثة دلاء فیظهر من الروایة أنّه لیس بصدد بیان الحکم الواقعی وإلّا لایناسب الإجمال فی مقام الإفتاء و ذکر أنّ من هذا القبیل الروایات الواردة فی أنّ الرعاف و مسّ الذکر و الفرج و القبلة یوجب الوضوء کما هی کذلک عند العامة فإنّها إرشاد إلی ناقضیة الأمور المذکورة للوضوء، فإذا رفعنا الید عن ظاهرها فی الإرشاد فلادلیل علی الحمل علی الإستحباب و قد أشار فی الهامش إلی الروایات فراجع.

ثم رتّب علی الحمل علی التقیة أنّه لایصحّ الإفتاء بالإستحباب إذ بعد رفع الید عن ظهور الروایات فی الإرشاد إلی النجاسة فحمل الروایات علی الوجوب و الندب علی خلاف ظواهرها مع الحکم بطهارة البئر، یحتاج إلی الدلیل. نعم لو کانت ظاهرة فی الوجوب التعبدی و فرضنا رفع الید عنه لمکان الدلیل لابأس بحمل الأمر حینئذ علی الندب.

أقول: هنا إحتمال آخر و هو رفع الإستقذار إذ لاشبهة فی حصوله عند وقوع النجاسة. و الإمام() مع علمه بالطهارة لمکان المادة یرشد إلی النزح لأجل رفع القذارة الثانیة بملاقاة النجس و هو یختلف بحسب النجاسات.

و أما الطائفة الثانیة من الروایات المتمسک بها لنجاسة البئر فهی صحیحة إبن‌أبی‌یعفور عن أبی‌عبدالله() «إذا أتیت البئر و أنت جنب فلم‌تجد دلواً و لاشیئاً تغرف به، فیتمّم بالصعید، فإنّ ربّ الماء ربّ الصعید. و لاتقع فی البئر و لاتفسد علی القوم ماءهم»[6] و قد مرّ فی صحیحة إبن‌بزیع أنّ الإفساد بمعنی التنجیس فالروایة تدلّ علی نجاسة البئر بوقوع الجنب فیها.

و الجواب أولاً أنّ الروایة لم‌تفرض فیها نجاسة بدن الجنب و الغالب طهارته سیّما فی الأعصار المتقدمة حیث أنّهم یغسلون مواضع النجاسة عن أبدانهم حیث لم‌یکن عندهم خزانة و لاکرّ آخر و إنّما کانوا یغتسلون بالماء القلیل و علیه لم‌یکن البئر ملاقیة للنجاسة، إلّا أن نلتزم بما ذهب إلیه أبوحنیفة و بعض أصحابه من نجاسة الماء المستعمل فی غسل الجنابة ولو مع طهارة بدن الجنب و هو قول باطل إذ إغتسال الجنب لیس من أحد المنجسات.

ثم لو سلّمنا نجاسة بدن الجنب فإذا لم‌یعلل منعه من الإغتسال فی البئر بما هو أعظم و أهمّ عند السائل و هو بطلان غسله بل علّله بإفساد ذلک علی القوم مع أنّه یمکن أن یکون البئر و الإغتسال به فی ملکه و داره مما لایمرّ علیه القوم.

و علیه فالمراد بالإفساد علی القوم إما تنفر الناس عن إغتسال الجنب فی الماء لأجل کثافة البدن و تحمله للدسومته و الوساخة و إما لأجل تحرک الوحل الموجود فی الآبار الموجب لإختلاطه بالماء و خروجه عن قابلیة شرب الناس و ما أشبه ذلک.

و أما الطائفة الثالثة و هی الأخبار الواردة فی تباعد البالوعة عن البئر بخمسة أذرع أو بسبعة علی إختلاف الأراضی من کونها سهلة أو جبلاً و إختلاف البالوعة من حیث کون البئر أعلی من البالوعة أو العکس.[7] و لاوجه لهذا الإعتبار إلّا إنفعال البئر بالملاقاة إذ لو کانت البئر معتصمة لم‌یفرق فی ذلک بین تقاربها مع البالوعة و تباعدها إلّا مع الإختلاط و تغیّر ماء البئر فی أحد أوصافه الثلاثة. کیف و قد صرح فی بعضها بنجاسة البئر إیضاً عند تقاربهما.

و الجواب: أنّ هذه الأخبار علی طائفتین؛ الأولی: ما لایشتمل علی نجاسة الماء بل إقتصر فیها علی مجرد التباعد بین البئر و البالوعة بمقدار ثلاثة أذرع أو أکثر. الثانیة: ما إشتمل علی نجاسة البئر بتقاربهما.

أما الأولی فتحمل علی التباعد لأجل التحفظ علی عدم إنفعال ماء البئر بالملاقاة و الوجه فی هذا الحمل دلالة جملة من الروایات علی عدم إنفعال ماء البئر بملاقاة النجاسة کصحیحة إبن‌بزیع المتقدمة و جملة أخری دلّت علی أنّ تقارب البالوعة من البئر لایوجب کراهة الوضوء و لاالشرب من مائها و هی صحیحة محمدبن‌القاسم عن أبی‌الحسن() فی البئر یکون بینها و بین الکنیف خمس أذرع، أقلّ، أو أکثر، یتوضّأ منها؟ قال: «لیس یکره من قرب ولابعد، یتوضّأ منها و یغتسل ما لم‌یتغیّر الماء»[8] فهاتان الطائفتان قرینتان علی حمل هذه الطائفة من أخبار التباعد علی التنزّه من الأقذار و التحفّظ علی النظافة التی ندب الیها فی الشرع حیث إنّ عروق الأرض متصلة و القذارة تسری من بعضها إلی بعض و علیه یکون الإستدلال بهذه الطائفة إیضاً ساقطاً.

و أما الطائفة الثانیة من الروایات تباعد البالوعة و البئر المشتملة علی نجاسة البئر عند تقاربهما فهما صحیحة زرارة و محمدبن‌مسلم و أبی‌بصیر؛ قلنا له: بئر یتوضّأ منها، یجری البول قریباً منها، أ ینجّسها؟ قال: فقال: «إن کانت البئر فی أعلی الوادی، و الوادی یجری فیه البول من تحتها، فکان بینهما قدر ثلاثة أذرع، أو أربعة أذرع، لم‌ینجس ذلک شیء، و إن کان أقلّ من ذلک نجّسها»[9] .

و إدعی سیدنا الأستاد() أنّ الروایة مخالفة لضرورة المذهب و للإجماع قطعی.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo