< فهرست دروس

الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/02/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - خاتمة في شرائط العمل بالأصول العملية

البراءة النقلية: بيان ما أفاده الشيخ الوحيد (حفظه الله) في عدم إطلاق حديث الرفع:

كان الكلام في أنه هل يوجد إطلاق في حديث الرفع بحيث يكون في حد نفسه يشمل ما قبل الفحص، أو لا إطلاق فيه لما قبل الفحص؟ وذكرنا الوجهين في ذلك، هناك وجهان وجه بعدم الإطلاق ووجه بالإطلاق وتقدم الكلام فيهما.

الشيخ الوحيد (حفظه الله) عنده بيان لعدم الإطلاق، غير البيان المتقدم، فالبيان المتقدم أوردنا المناقشة فيه، الآن يذكر بياناً آخر لإفادة عدم الإطلاق في حديث الرفع، وهذا البيان يتوقف على بيان نكتتين:

النكتة الأولى: أن الموضوعات المذكورة في حديث الرفع من قبيل مثلاً: رفع النسيان ورفع الخطأ وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون، هذه الأمور التسعة التي رفعت ومن جملتها رفع ما لا يعلمون، هذه الأمور التي رُفعت في حديث الرفع كلها أمور من أعذار العبد بالنسبة إلى التكاليف، يعني بما أنه مضطر فهو معذور، مكره فهو معذور، ناسي فهو معذور، لا يطيق فهو معذور، فكل هذه الأمور أعذار بالنسبة إلى العبد وبالإضافة إلى التكاليف، ما لا يعلمون وقع في نفس سياق هذه الأعذار فعليه: بما أنه وقع في سياق هذه الأعذار فنحمل نفس الكلام أن الجهل الموجود هنا هو الجهل المعذّر، عندنا جهلان: جهل معذّر وجهل غير معذّر، يعني جهل يكون عذراً للمكلف وجهل لا يكون عذراً للمكلف، ما لا يعلمون وقعت في سياق هذه الأعذار التي هي قطعاً أعذار النسيان والخطأ والإكراه والاضطرار كلها أعذار، والجهل أيضاً وقع في هذا السياق فنقول: إن المقصود من ما لا يعلمون هنا الجهل المعذّر، أما الجهل غير المعذّر فلا يدخل في ضمن هذا السياق، والجهل المعذّر هو الجهل الذي يكون بعد الفحص، أما الجهل قبل الفحص فهذا لا يعتبر معذراً، من لم يفحص ليظفر بوظيفته لا يكون جهله عذراً له بل هناك حجة من المولى على العبد مادام لم يفحص.

هذه الخصوصية الموجودة في هذا السياق التي الآن شرحناها، يتضح من خلالها أن ما لا يعلمون لا يشمل ما قبل الفحص، يعني لا إطلاق فيه لما قبل الفحص.

وحاصله بعبارة مختصرة: نقول: بما أن ما لا يعلمون وقعت في سياق أمور كل هذه الأمور من أعذر العبد بالنسبة إلى التكاليف، فما لا يعلمون أيضاً تقع على نفس السياق، يعني الجهل المعذّر، والجهل قبل الفحص غير معذّر، وأما الجهل بعد الفحص فهو المعذّر ويكون عذراً، فحديث الحديث لا يشمل ما قبل الفحص بهذه النكتة.

ويمكن أن يصاغ بعبارة أخرى: لعل العبارة الأخرى نجعلها نوع من الدليل على ما تقدم، يعني ربما يقال: فعلاً الآن مبدئياً ربما يورد على الشيخ الوحيد (حفظه الله) بأن هذه دعوى، عندما تقول بأن الجهل قبل الفحص ليس بعذرٍ هذه تكون مجرد دعوى، يدعي آخر ويقول الجهل قبل الفحص أيضاً عذر كما يذهب إليه المحقق العراقي بحسب ما تقدم.

نقول هكذا: حديث الرفع بما أنه يشمل الموضوعات بلا فحص وتعتبرونه معذراً أيضاً هنا في الشبهات الحكمية، المهم نريد أن نقول: يمكن أن يُدعى بأن ما أفاده الشيخ الوحيد (حفظه الله) مجرد دعوى، أصل الدعوى هي هذه، فلهذا نصيغ بعبارة أخرى يمكن أن تكون كدليل على هذه الدعوى.

العبارة الأخرى: نقول: مما لا شك فيه أن حديث الرفع حديث امتناني وواقع في موقع الامتنان فلا يكون إلا في المورد الذي يكون قابلاً للمنّة قابلاً للامتنان، فالموارد الأخرى شخص كان مضطراً كان مكرهاً هذا قابل للامتنان، أما بالنسبة إلى الجاهل فالجاهل عندنا قسمان، جاهل قبل الفحص لكسله لعدم رغبته للسعي وراء الحكم الشرعي، وجاهل بعد الفحص، هل يمكن أن يكون الجاهل قبل الفحص الذي ترك تحصيل الحكم الشرعي لأجل كسلٍ لأجل مللٍ لأجل عدم رغبةٍ، هل يكون مثل هذا قابلاً للامتنان؟ أو الذي يقبل المنة هو الذي سعى وفحص وبحث ولم يجد الحكم الشرعي؟ لا شك هو الثاني، لا شك أن الجاهل المقصّر لا يكون قابلاً للامتنان فعليه لا يأتي في حقه حديث الرفع، فحديث الرفع بعد أن أثبتنا واتضح وهو مسلم بأنه حديث امتناني معناه أنه يرد في المورد الذي يكون قابلاً للامتنان، والجاهل قبل الفحص غير قابل للامتنان فعليه لا يشمله حديث الرفع، والنتيجة تكون: أن حديث الرفع غير مطلق ليشمل ما قبل الفحص، هذه نكتة أولى ووجه أول لبيان ما أفاده الشيخ الوحيد (حفظه الله) مع تتميمه لكيلا يرد عليه الإشكال.

النكتة الثانية التي تصلح في المقام: هي أنه هناك أمور ينبغي أن تُلاحظ لفهم كلام المتكلم، فهم كلام المتكلم لا بد أن نعرف مسلك المتكلم في ذلك حتى نعرف ما هو غرضه ومراده، هذه أمور ضرورية، ولما نعرف مسلك المتكلم نستطيع أن نفهم كلامه حتى لو كان بنحو الإطلاق، من خلال معرفتنا لمسلكه نقول لا يريد الإطلاق، هذه نكتة مهمة.

إذا اتضحت هذه النكتة، الآن نذكر ما أفاده الشيخ الوحيد (حفظه الله)، يقول: مسلك الشارع كما نعرفه من خلال الكتاب ومن خلال السنّة هو الترغيب في تحصيل العلم والترغيب في الوصول إلى الحقائق وأغراض الأحكام الإلهية، هذا يتضح من خلال الكتاب والسنّة المعصومية، إذا عرفنا أن مسلك الشارع هو الحث على تحصيل العلم والرغبة في تحصيل العلم والتأكيد على ذلك، يعني هو الشارع يريد من العبد (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد) أو مثلاً (اطلبوا العلم ولو في الصين) المهم ترغيب لطلب العلم وتحصيل العلم ومعرفة هذه الحقائق.

إذا عرفنا أن هذا هو مسلك الشارع وهذا غرضه، الحكيم لا يمكن أن ينقض غرضه، وهذا أيضاً أمر عقلي وعقلائي أن الحكيم لا ينقض غرضه، فضلاً عن الحكيم المطلق، يعني مطلق الحكيم يقبح منه أن ينقض غرضه، أما الحكيم المطلق نقول: محال أصلاً أن ينقض غرضه.

عليه: عندما الآن يضع الأحكام الشرعية ومن جهة أخرى يحث على تحصيل العلم، فهل يا ترى يقول: رفع ما لا يعلمون، ويقصد منه الجاهل الذي لم يذهب لتحصيل العلم ولم يسعَ له، نقول: هذا يتنافى مع غرضه، غرض المولى الذي عرفناه هو الترغيب والتأكيد والحث على تحصيل العلم، إذا كان هذا هو غرض المولى كيف يقول: بالنسبة إلى الجاهل المقصر الذي لم يسعَ لتحصيل العلم أنت معذور عندما تترك الحكم الشرعي لأنك جاهل ولأنك لم تسعَ له؟

هذان الأمران أشبه ما يكون متناقضان متنافيان، من جهة يحث على تحصيل العلم ويؤكد عليه ويرغب فيه، ومن جهة يقول: أنت معذور إذا تركت تحصيل العلم وبالتالي تركت الحكم الشرعي، هذان الأمران لا يجتمعان ويتنافيان بالنسبة إلى مطلق الحكيم فضلاً عن الحكيم المطلق.

إذاً: نقول من خلال ذلك: بأننا بما أنه عرفنا مسلك الشارع في حثه على تحصيل العلم والسعي وراء تحصيله وتحصيل الأحكام، من خلال ما عرفنا من مسلكه نعرف أن مراده عندما قال: رفع ما لا يعلمون، لا يشمل حتى الجاهل قبل الفحص، نعم يشمل الجاهل بعد الفحص، بعد أن يفحص ولا يجد الحكم الشرعي وييأس من ذلك الآن نقول: نعم معذور ويشمله رفع ما لا يعلمون، أما قبل ذلك لا يمكن أن نقول رفع ما لا يعلمون.

فالنتيجة من خلال هذين الوجهين: نعرف أن حديث الرفع ليس مطلقاً، يعني لا يشمل الجهل قبل الفحص.

عليه: يترتب على ذلك أثر وهو أنه لا بد من الفحص، يعني يترتب على هذا أن نقول: يشترط في البراءة النقلية الفحص عن الأحكام ولا يصح جريانها بدون الفحص عن الأحكام؛ لأن أصل دليل البراءة النقلية لا يشمل ما قبل الفحص، فلا يكون المكلف معذوراً، إذاً حتى يجري البراءة النقلية يشترط عليه أن يفحص عن الحكم الشرعي في مضانّه.

يبقى أنه مدة البحث ومقدار البحث هذا يأتي الكلام فيه، المهم الآن فرغنا من هذه الجهة.

نلخص بحسب ما تقدم وبحسب التسلسل: نقول: الكلام في شرائط البراءة النقلية، هل يشترط في جريانها شيء أو لا؟ نقول: هذا الكلام يتوقف على أن حديث الرفع أساساً أو الأدلة الدالة على البراءة النقلية هل هي مطلقة تشمل ما قبل الفحص حتى نقول إن المقتضي لجريانها تام، ونبحث عن المانع؟ أو أن حديث الرفع أو غيره من الأحاديث ليست مطلقة فلا يوجد مقتضي لجريان البراءة قبل الفحص؟ إلى هنا توصلنا بحسب ما أفاد الشيخ الوحيد (حفظه الله) وهو متين، والوجهين الذين ذكرناهما أن حديث الرفع ليس بمطلق ولا يشمل ما قبل الفحص، إذاً لا مقتضي لجريان البراءة النقلية قبل الفحص.

ثم بعد ذلك نقول: على القول بأن حديث الرفع في حد نفسه مطلق يشمل ما قبل الفحص وما بعد الفحص، على هذا القول نحتاج أن نبحث في المانع، هل هناك مانع من هذا الإطلاق أو ليس هناك مانع منه؟

على القول الأول إذا لم يكن مطلق، أصلاً المقتضي لجريان البراءة غير موجود إلا بعد الفحص، فلهذا يجب أن نفحص حتى نحصل المقتضي لجريان البراءة، يعني حتى يمكننا أن نتمسك بحديث الرفع.

على القول الآخر بأن حديث الرفع مطلق ويشمل ما قبل الفحص: هنا نحتاج أيضاً أن نبحث عن المانع، هل يوجد مانع من هذا الإطلاق أو لا يوجد مانع منه؟

ذكر الأصوليون عدة موانع عن هذا الإطلاق على القول بتحقق الإطلاق:

المانع الأول: الأجماع، الإجماع قائم على وجوب الفحص وعلى لزوم الفحص وعدم جريان البراءة قبل الفحص، هذا حكم إجماعي متفق عليه عند جميع الأصوليين، أنه لا بد من الفحص ولا يمكن جريان البراءة قبل الفحص، فإذاً هذا الإجماع يكون مانعاً من جريان حديث الرفع.

هذا الوجه طبعاً يأتي فيه ما نذكره مراراً في الإجماع، الإجماع لا بد من أن نتناوله صغروياً وكبروياً، أما من حيث الصغرى: فتقريباً مسلَّم عندهم أن الأجماع متحقق، لا أحد يقول يمكنك جريان البراءة قبل الفحص في المضان، الكلام في الجهة الثانية وهي الكبروية: هل هذ الإجماع حجة أو ليس بحجة؟

هنا نشير إلى نكتة ربما لم نشر لها سابقاً، أو أشرنا لها سريعاً، هذه النكتة هي أن موارد الإجماع مختلفة:

بعض موارد الإجماع يكون هناك مستند موجود يمكن أن يتمسك به المجمعون، يعني نلاحظ أنهم يقولون: الدليل الإجماع ويستدل عليه برواية كذا أو آية كذا أو بالأصل الفلاني أو بالسيرة أو بالقاعدة أو بالوجع العقلي، المهم تذكر هناك أوجه كمستند لمورد الإجماع.

نحو آخر من الإجماعات: نلاحظ أنه لا يوجد دليل غير الإجماع، يكون مورد الإجماع ليست عليه آية ولا رواية ولا موافق لقاعدة ولا لأصل عملي ولكن مع ذلك أجمع الفقهاء عليه، هذا النحو الثاني يمكن أن يكون كاشفاً عن رأي المعصوم أو عن دليل معتبر؛ لأن الإجماع عندنا ليس هو حجة بنفسه كما عليه العامة، وإنما هو حجة بما هو كاشف عن رأي المعصوم، لأن رأي المعصوم وقوله هو الحجة، أو كاشف عن دليل معتبر لو وصل إلينا لقلنا باعتباره.

مورد الإجماع إذا كان ليست عليه آية ولا رواية ولا أصل ولا قاعدة ولا مستند صحيح له والفقهاء جميعهم أطبقوا عليه فمن المعلوم أنهم مع ورعهم وتقواهم ومع علمهم ومع تتبعهم لا يفتون بغير علم، هذا شيء طبيعي بالنسبة إلى علمائنا أعزهم الله رحم الله الماضين وحفظ الباقين، مع ورعهم وشدة تقواهم وعلمهم لا يمكن أن يفتوا بغير علم، ومن جهة أخرى أن هؤلاء الفقهاء مختلفون من حيث المسالك، تأتي مثلاً في خبر الواحد بعضهم يرى أن الحجة هو الخبر الصحيح بالخصوص الذي يرويه العدل عن العدل إلى الإمام فيضيق المساحة، وبعضهم يقول مطلق خبر الثقة كافي، وبعضهم يقول حتى الحسن نأخذ به وبعضهم يقول نأخذ حتى لو كان ضعيف إذا كانت عليه قرائن وشواهد، المهم نلاحظ أنهم مختلفون في المسالك والمذاهب، مع كونهم مختلفين ومع كونهم ورعين ومع كونهم متتبعين نلاحظهم في هذا المورد اتفقوا على حكم ولا يوجد بحسب ما نرى لا يوجد عندنا دليل، مثل هذا الإجماع يطمأن الشخص بأنهم تلقوه كابراً عن كابر وطبقة عن طبقة إلى أن وصل إلى عصر المعصوم، يعني نفترض طبقة الشيخ الطوسي أخذته عن طبقة الشيخ المفيد وطبقة الشيخ المفيد أخذته عن طبقة الشيخ الصدوق وطبقة الشيخ الصدوق أخذته عن طبقة الشيخ الكليني وطبقة الشيخ الكليني أخذته عن طبقة علي بن إبراهيم وهو أخذه عن والده إبراهيم بن هاشم وهو أخذه عن المعصوم، مثل هذه الإجماعات يطمأن إليها وسيما أيضاً إذا لاحظنا جهة حساب الاحتمالات كما يفيده السيد الشهيد الصدر (ره) في موارد الإجماع، هذا النحو من الإجماع يكون حجة ويمكن الاستاد عليه.

لكن هذا النحو من الإجماع نادر جداً، ولعله على ما في بالي أن الشيخ الوحيد (حفظه الله) في بعض دروسه كان يقول لعل مثل هذا الإجماع يوجد في ثمانية موارد في كل الفقه، المهم هذا النحو من الإجماع نطمأن بأنه حجة ولكن هو نادر الوجود.

ما نحن فيه من قبيل القسم الأول وليس من قبيل القسم الثاني، ما نحن فيه صغروياً صحيح الإجماع المتحقق لا كلام فيه، ولكن كبروياً نقول: هذا الإجماع الموجود هناك مستندات عندهم يوجد عندنا مستند للزوم الفحص دليل عقلي مثلاً علم إجمالي مثلاً، كما سيأتي من أدلة على لزوم الفحص قبل جريان البراءة.

إذاً عندنا أدلة يمكن أن يستند إليها الفقيه أو الأصولي من هذا نستكشف أو نقول بأن إجماعهم لا يكشف عن رأي المعصوم أو عن دليل معتبر غير هذه الأدلة بل صحيح أن هذا اتفق مع غيره ولكن لدليل أول وذاك الثاني اتفق معه ولكن لدليل آخر والثالث يعتمد على دليل ثالث مثلاً، المهم بما أنه يوجد في المقام ما يصلح إلى أن يكون دليلاً ومستنداً للإجماع فهذا الإجماع إما أن يكون مدركياً أو محتمل المدرك فلا يكون حجة.

فإذاً: هذا المانع الأول عن الإطلاق إذا ثبت الإطلاق في حديث الرفع فالمانع الأول عن التمسك بالإطلاق هو الإجماع والإجماع مخدوش بهذه النكتة التي ذكرناها. والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo