« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث التفسیر

40/06/18

بسم الله الرحمن الرحيم

إبطال دعوى النسخ الآية السادسة والسابعة عشر

موضوع: إبطال دعوى النسخ الآية السادسة والسابعة عشر

 

الآية السادسة عشر [1]

التي ادعي نسخها قوله "عز من قائل":

﴿إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا)[2]

فقد ذكروا أن هذه الآية قد نسخت في موردين وبندين:

المورد الأول ما جاء من الأمر بنبذ ميثاق المشركين.

المورد الثاني ما جاء من الأمر بقتال المشركين سواء اعتزلوا المسلمين أم لم يعتزلوهم

فهذه الآية الكريمة تنص على أن المشركين إذا وصلوا إلى قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق يعني معاهدة أي استجار المشركون بقوم لديهم معاهدة سلام مع المسلمين فيكون حكمهم حكم من أجريت معهم المعاهدة فلا يقاتلو.

المورد الثالث إذا جاءوا المشركون واعتزلوا المسلمين عن القتال ولم يقاتلوا المسلمين وألقوا السلم ففي هذه الحالة الله "عز وجل" ﴿فما جعل الله لكم عليهم سبيلا﴾ هذا مفاد الآية الكريمة>

وفي المقابل هناك آيات تأمر بقتال المشركين مطلقا سواء استجاروا إلى قوم معهم معاهدة أو لا سواء اعتزلونا أم لا فتكون الآيات الدالة على قتال المشركين ناسخة للآيات الدالة على عدم قتال المشركين إذا لجئوا مع من لدينا معهم معاهدة أو اعتزلوا القتال.

والجواب إن هذه الآية الكريمة لم تنزل في شأن المشركين ابتداء وإنما نزلت في شأن المنافقين الذين تولوا وكفروا بعد إسلامهم فهم كانوا في الأصل كفارا ثم اسلموا على نفاق ثم ارتدوا على أعقابهم القهقرة>

والدليل على أن الآية نزلت في شأن المنافقين: سياق الآية الكريمة منذ مبدأها فقد قال الله تعالى ﴿فما لكم في المنافقين فئتين والله اركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل لله فلن تجد له سبيلا * ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليلا ولا نصيرا * إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا﴾[3] .

إذن الحكم الوارد في الآية الكريمة وارد في المرتدين الذين كانوا كفارا ثم اسلموا ثم كفروا بعد إسلامهم.

والحكم في المنافقين بمقتضى هذه الآية الكريمة هو القتل إلا في موردين:

المورد الأول وصول المنافقين المرتدين إلى قوم بينهم وبين المسلمين معاهدة وميثاق واستجارة المنافقين بهم فيجري على المنافقين حكم القوم الذين استجاروا بهم بمقتضى المعاهدة.

ولكن هذا الحكم مشروط ببقاء المعاهدة وبقاء الميثاق فإذا ألغيت المعاهدة بينهم وبين المسلمين لم يبقى للحكم موضوع. وقد تقدم فيما سبق إن ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء وقد ألغيت المعاهدة بين المسلمين والمشركين في سورة التوبة ﴿براءة من الله﴾[4] وسورة التوبة قد أمهلت المشركين أربعة أشهر ليتخيروا إما الإسلام وإما الخروج عن بلاد المسلمين وبالتالي لم يبقى موضوع للاستجارة التي ذكرتها الآية في البند الأول والشق الأول.

المورد الثاني مجيء المنافقين المرتدين إلى المسلمين ﴿وقد حصرت صدورهم عن القتال﴾[5] مع اعتزالهم القتال وإلقائهم السلم إلى المسلمين بعد الردة والمراد بالسلم ليس السلام والمسالمة وإنما المراد بإلقاء السلم إظهار الإسلام والإقرار بالشهادتين لأن هذا مرتد ملي وليس مرتد فطري فتقبل استتابته والدليل على أن المراد بالسلم هو إظهار الإسلام قوله تعالى ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا﴾[6] .

هذا واضح في سبب وشأن نزولها حينما رأى احد المسلمين مشركا وأراد قتله فأقر ذلك المشرك بالشهادتين وكان بين هذا المشرك وذلك المسلم سوء تفاهم مسبق فقال هذا المسلم أنت أقررت بالشهادتين لكي تتخلص من القتل وأنت لا تزال مشركا فقتله فأنزل الله "عز وجل" قوله تبارك وتعالى ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا﴾ هو لم يلغي السلام هو تشهد الشهادتين ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا﴾ كان عندك شيء دنيوي بينك وبينه سوء تفاهم مسبق قتلته لذاك لا لعدم إسلامه فالآية تدل على قبول المرتد الملي إذا اظهر التوبة والإسلام وأن المرتد الملي لا يقتل بعد التوبة وهذا هو مذهب الإمامية الذي استقروا عليه ولم ترد في القرآن آية واحدة تدل على قتل المرتد الملي وعلى وجوب قتل المرتد الملي على الإطلاق حتى تكون هذه الآية ناسخة لهذه الآية.

تعرفون المرتد:

إما فطري إذا هو مسلم بالولادة وأرتد

وإما ملي يعني كان من ملة أخرى غير الإسلام فاسلم ثم ارتد

والمشهور أن المرتد الفطري لا تقبل استتابته فيقتل فورا بينما المرتد الملي تقبل استتابته ولا يقتل فورا.

وهناك رأي عند بعض المراجع والفقهاء يرى أنه حتى المرتد الفطري لا يقتل فورا بل يستتب وتعقيبا على ذلك السيد الإمام حكم بقتل سلمان رشدي لأنه مرتد فطري مسلم أصلا من أصول هندية ثم هناك وجه أخر أيضا لقتله ليس الارتداد الفطري فقط وإنما هو محارب لله ولرسوله كتابه آيات شيطانية يسخر من النبي محمد "صلى الله عليه وآله".

لكن إذا أراد القائل بالنسخ أن يتمسك بنسخ الآية بما دل على قتال المشرك والكافر فمن الواضح أن هذا مشروط ببقاء موضوعه وهي القاعدة المتبعة في القضايا الحقيقية بقاء الحكم ببقاء موضوعه فهو إذا الآن اسلم رجع إلى الإسلام واستتاب وقبلت توبته صار مسلم فكيف تتمسك بوجوب قتال المشركين هو الآن ليس بمشرك نعم ورد الأمر بقتل المرتد على الإطلاق في بعض روايات أهل السنة يعني المرتد مطلقا سواء كان مليا أو فطريا.

روى البخاري واحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وأبو داود السجستاني وابن ماجة عن ابن عباس عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" أنه قال (من بدل دينه فاقتلوه)[7] .

كلام مطلق من بدل دينه مطلقا سواء كان مسلما بالفطرة أو مسلما عن ملة لكن لا خلاف بين المسلمين في أن هذا الحكم وهو قتل المرتد مقيد بعدم التوبة يعني إذا لم يتب.

لكن وقع الخلاف بينهم في المدة التي يستتاب بها ووقع الخلاف بينهم في وجوب الاستتابة واستحبابها المشهور بين الإمامية أن التوبة واجبة وأنها لا تحدوا بمدة محددة بل يستتاب مدة يتمكن منها من الرجوع إلى الإسلام وقيل يستتاب ثلاثة أيام ونسب هذا القول إلى بعض الإمامية واختاره كثير من علماء أهل السنة وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى استحباب الإمهال ثلاثة أيام.

نعم ذهب علي بن أبي بكر المرئيناني إلى وجوب القتل من غير إمهال ونسب ابن الهمام إلى الشافعي وابن المنذر أنهما قالا في المرتد إن تاب في الحال وإلا قتل[8] عموما لا إشكال في سقوط الحكم القتل بالتوبة وقد صرح بذلك في الروايات المأثورة عند الفريقين السنة والشيعة وبالتالي لا تكون هذه الآية منسوخة.

النتيجة النهائية لم يثبت نسخ.

الآية السابعة عشر [9]

قوله تبارك وتعالى:

﴿فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فأحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين﴾[10]

وقد اختلفت الأقوال في هذه الآية

توجد ثلاثة أقوال:

القول الأول قول الإمامية وهي أنها آية محكمة ولن تنسخ.

القول الثاني هو أن هذه الآية منسوخة بآية أخرى وهي قوله تبارك وتعالى ﴿فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهوائهم﴾[11] .

القول الثالث يرى النسخ بالعكس يعني يرى أن الآية الأولى ﴿فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم﴾ هي التي نسخت الآية الثانية ﴿فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهوائهم﴾.

وتفصيل الكلام في هذه الأقوال:

أما بالنسبة إلى القول الأول وهو أن هذه الآية محكمة لن تنسخ فقد أجمعت الشيعة الإمامية على أن هذه الآية لم تنسخ وأن القاضي المسلم والحاكم المسلم إذا جاءهم شخص من غير أهل ملته مسيحي يهودي وثني وتقاضى عنده فهو مخير إما أن يقضي له بمقتضى حكم الإسلام وإما أن يعرض عنه ويتركه وما التزم به في دينه ولا يقضي بينهم فالحاكم مخير حين يتحاكم إليه الكتابيون المسيح واليهود والبعض يدخل المجوس، السيد القائد الخامنئي يدخل المجوس والصابئة.

روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن أبي جعفر "عليه السلام" قال (إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة ـ إذن هذا الحكم خاص بخصوص أهل الكتاب لا مطلق الكافر يعني لا يشمل الهندوسي أو الوثني ـ وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم وإن شاء ترك)[12] هذا قول الإمامية وإليه ذهب من علماء أهل السنة الشعبي وإبراهيم النخعي وعطاء ومالك.

القول الثاني الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية الآية الأولى تحكم بالتخيير ﴿فإن جاءوك ـ أهل الكتاب ـ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم﴾[13] الآية الثانية ليس فيها تخيير تحصر الأمر في الحكم والقضاء ﴿فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهوائهم﴾[14] فالآية الثانية تلغي التخيير وتنسخ الحكم في الآية الأولى هذا القول الثاني.

القول الثالث بالعكس وهو قول مجاهد فقد ذهب إلى أن آية التخيير ناسخة للآية الثانية الآية الثانية تنص على خصوص القضاء والحكم ﴿فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهوائهم﴾ ومجاهد يرى أن آية التخيير نسخت التعيين الموجود في آية الحكم.

هذا تمام الكلام في بيان الأقوال في المسألة هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية مقتضى التحقيق في المسألة هو عدم ثبوت النسخ في الآية الكريمة وإن الأمر بالحكم بين أهل الكتاب بما انزل الله في الآية الثانية قوله "عز وجل" ﴿فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهوائهم﴾ مقيد إذا أراد الحاكم أن يحكم بينهم فيوجد بين الآيتين كمال الانسجام:

الآية الأولى تقول إذا جاءك أهل الكتاب فأنت مخير أيها القاضي إما أن تحكم بينهم وإما أن تتركهم.

الآية الثانية تقول إذا اخترت الشق الأول وأردت أن تحكم بينهم فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهوائهم.

فالآية الثانية فرع الآية الأولى يعني فرع اختيار الشق الأول والخيار الأول من الآية الأولى.

ولكن ما هو الدليل على هذه الدعوى الدليل على التقييد أمران:

الأمر الأول شهادة سياق الآيات بذلك سياق الآية الأولى ﴿فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم ـ الآن تفصل الآية إذا أعرضت عنهم ـ فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين﴾.

إذن الآية الأولى قيدت حكمه حكم الحاكم بأنه لابد أن يكون بالقسط والعدل الآية الثانية هكذا تقول ﴿فاحكم بينهم بما انزل الله﴾ يعني إذا أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما انزل الله ولا تتبع أهوائهم ولا تحكم بما تقتضيه أهوائهم وآرائهم.

الأمر الثاني قوله تعالى في ذيل الآية الأولى: ﴿وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾ فإنه يدل على أن وجوب الحكم بينهم بالقسط معلق على إرادة الحكم بينهم وللحاكم أن يعرض عنهم. فينتفي وجوب الحكم بانتفاء موضوعه.

ومما يدل على عدم النسخ في الآيات الكريمة الروايات التي دلت على أن سورة المائدة نزلت دفعة واحدة على رسول الله وهو على ناقته الشهباء في أثناء مسيره نزلت مرة واحدة جملة واحدة.

ويذكر السيد الخوئي هذه الروايات:

الرواية الأولى روى عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي "عليه السلام" (إن سورة المائدة كانت من آخر ما نزل على رسول الله وإنها نزلت وهو على بغلته الشهباء وثقل عليه الوحي حتى وقعت)[15] .

الرواية الثانية وروت أسماء بنت يزيد قالت إني لأخذت بزمام العضباء ناقة رسول الله إذ أنزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق من عضد الناقة[16] والآية التي يدعى أنها ناسخة والآية التي يدعى أنها منسوخة كلتاهما وردتا في سورة المائدة فكيف تكون الآية الناسخة والمنسوخة يعني كيف الآن تنزل المنسوخة وتنسخ قبل العمل بها كلها نزلت دفعة واحدة.

الرواية الثالثة روت أسماء بنت يزيد أيضا بإسناد آخر قالت نزلت سورة المائدة على النبي "صلى الله عليه وآله" جميعا إن كادت لتكسر الناقة[17] لأن ثقل الوحي النبي كان ينصب عرقا.

الرواية الرابعة روى جبير بن نفير قال حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ المائدة فقلت نعم فقالت أم أنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، هذا الكلام يفهم منه أنه لا يوجد فيها حكم منسوخ في الآخر قد تكون منسوخة لكن هذه في الآخر وأيضا غير منسوخة.

الرواية الخامسة وروى أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" (المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها)[18] .

إذن من هذه الروايات نستفيد ثلاثة أشياء:

النقطة الأولى دلت هذه الروايات على أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة فإذا نزلت سورة المائدة دفعة واحدة بدلالة هذه الروايات المستفيضة كيف يمكن أن ندعي أن تكون إحدى آيات هذه السورة ناسخة لآية أخرى منها وهذا ليس إلا عبارة عن النسخ قبل حضور وقت العمل أن تنتظر أول الآية تنزل ويعملون بها وبعدين تنسخ مثل آية النجوى عمل بها أمير المؤمنين ثم نسخت أما أن تنزل الآية وقبل أن يعمل بها تنسخ.

إذن ما الفائدة من إنزال هذه الآية يكون إنزالها لغو فتكون النتيجة أن يكون التشريع في الآية المنسوخة لغوا لا فائدة فيه.

إذن هذا الأمر الأول الذي يستفاد سورة المائدة نزلت دفعة واحدة جملة واحدة ومقتضى ذلك أن يكون النسخ قبل العمل فتكون النتيجة أن تكون الآية المنسوخة لغوا.

النقطة الثانية الذي نستفيدها من الروايات إن سورة المائدة هي آخر ما نزل من القرآن.

النقطة الثالثة التي نستفيدها من بعض هذه الروايات أن سورة المائدة لم ينسخ شيء من آياتها.

فبمقتضى هذه العناوين الثلاثة:

أولا المائدة نزلت دفعة واحدة

وثانيا آخر ما نزل من القرآن

وثالثا لم ينسخ منها شيء

فهذه القرائن الثلاث التي استفدناها من الروايات تنفي وقوع النسخ.

النتيجة النهائية لم يثبت أن الآية السابعة عشر منسوخة.

الآية الثامنة عشر يأتي عليها الكلام.

 


logo