« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث التفسیر

40/06/14

بسم الله الرحمن الرحيم

إبطال دعوى نسخ الآية الرابعة عشر

موضوع: إبطال دعوى نسخ الآية الرابعة عشر

 

الآية الرابعة عشر[1]

التي ادعي نسخها قوله تبارك وتعالى:

﴿ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا﴾[2] .

والكلام في نسخ هذه الآية يتم عبر نقاط:

النقطة الأولى

بيان الأقوال في تفسير الآية

يوجد قولان:

القول الأول حمل ذيل الآية المباركة ﴿والذين عقدت أيمانكم﴾ على بيان حكم مستقل عن الحكم السابق فتكون هذه العبارة جملة مستأنفة وتفسر كلمة نصيبهم بالنصر والنصح والرفادة والعون والعقل والمشورة وبناء على كون الجملة مستأنفة تكون الآية محكمة غير منسوخة.

وهذا القول ينسب إلى ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير كما في كتاب الناسخ والمنسوخ للنحاس[3] .

وتوضيح هذا القول بالنظر إلى الآية الكريمة مفاده كما يلي:

هذه الآية ناظرة إلى المواريث وقد ذكرت ثلاثة أصناف فيكون الصنف الأول وهو الوالدان والصنف الثاني وهو الأقربون لبيان الإرث.

فالآية تقول ﴿ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون﴾ يعني ما يتركه الوالدان والأقربون من ارث له أولياء يرثونه هذه جملة. الجملة الثانية جملة جديدة مستأنفة وليست معطوفة على هذه الجملة وهي جملة ﴿والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم﴾ ليس المراد بها فآتوهم ارثهم ونصيبهم من الإرث وإنما المراد فآتوهم نصيبهم أي انصروهم وأعينوهم وشاوروهم وقوموا برفادتهم وضيافتهم إن الله على كل شيء شهيد الله.

"عز وجل" يشهد تقسيم ارث الوالدين والأقربين ويشهد أيضا نصرة وعون الذين عقدت أيمانكم فبالتالي الكلام كل الكلام في العبارة الثالثة ﴿والذين عقدت أيمانكم﴾ فإذا خرجت عن الإرث لا يوجد نسخ في البين.

القول الثاني هناك من جعل قوله "عز وجل" ﴿والذين عقدت أيمانكم﴾ معطوفا على ما قبله مما ترك الوالدان والأقربون وفسر كلمة نصيبهم بما يستحقه الوارث من التركة. فيكون مفاد الآية هكذا:

هناك أولياء لثلاثة أصناف يرثون منهم الصنف الأول الوالدان الصنف الثاني الأقربون الصنف الثالث الذين عقدت أيمانكم. فهذه الأصناف الثلاثة آتوهم أجورهم.

هذا القول الثاني الذي يحمل والذين عقدت أيمانهم على معنى الإرث وإنها معطوفة على الوالدين والأقربين يوجد فيه قولان:

القول الأول ذهب إلى أن المراد بعقد اليمين في الآية المباركة هو عقد المؤاخاة وما يشبه عقد المؤاخاة من العقود التي كانت موجودة في الجاهلية. وكانوا يتوارثون بها فإذا عقدت عقد الأخوة معك أطال الله بقاك فإنني أرثك بعد عمر طويل. وقد أقر الإسلام ذلك إلى أن نزلت آية المواريث وهي قوله "عز وجل" ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾.[4]

وبناء على هذا المعنى الأول من القول الثاني تكون الآية منسوخة لأن آية ﴿والذين عقدت أيمانكم﴾[5] يعني الذين عقدتم معهم عقد المؤاخاة وغيره من العقود التي كانت في الجاهلية واقرها الإسلام فآتوهم نصيبهم يعني لهم نصيب من الإرث فتكون الآية المواريث ﴿وأولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ نافية للإرث وحصرت الإرث في خصوص الأقربين وأولي الأرحام فتكون الآية الثانية ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ ناسخة لحكم الإرث المستفاد من قوله ﴿والذين عقدت أيمانكم﴾.

وأما الرأي الثاني من القول الأول فهو أن يقال:

إن المراد بعقد اليمين في قوله "عز وجل" ﴿والذين عقدت إيمانكم﴾ خصوص عقد ضمان الجريرة.

هذا عقد موجود أتعاقد معك لو مثلا أنت جنيت جناية أو أنا جنيت جناية خدشت واحد صارت علي دية أنت تضمن جريرتي تدفع عني. فهذا يقال له ضمان الجريرة. فلو مات شخص وليس له وارث تصل النوبة إلى ضامن الجريرة. إذا لم يكن له إلا ضامن الجريرة وهذا موجود في الإرث وفق ترتيب هذا يسمونه ارث الولاء عندنا ضامن الجريرة.

عندنا ولاء الإمام "عليه السلام" الإمام وارث من لا وارث له[6] .

فإذا شخص ما عنده احد يورثه ولا عنده ضامن جريرة ولي العتق إذا واحد كان عبدا واعتقه مولاه ومات هذا العبد الذي تحرر وما عنده احد إلا مولاه الذي اعتقه هذا يقال له ولاء العتق.

طبعا هذه ترتيبات يعني الإمام ما يرث شخص إذا كان عنده ولاء عتق أو عنده ولاء جريرة لكن إذا ما عنده ضامن جريرة ولا عنده ولاء عتق الإمام وارث من لا وارث له على نحو الترتيب وهذا الإرث بالولاء يأتي بعد انتفاء الإرث بالقرابة أو النسب أو السبب.

الرأي الثاني يذهب إلى أن المراد بعقد اليمين خصوص عقد ضمان الجريرة. بناء على هذا الرأي الثاني يوجد قولان فقهيان:

القول الأول ما ذهب إليه أكثر علماء أهل السنة من أنه لا إرث بعقد ضمان الجريرة وبناء على رأي الأكثر تكون الآية منسوخة أيضا بآية المواريث لأن مفاد ذلك ﴿والذين عقدت أيمانكم﴾ يعني بالنسبة إلى ضمان الجريرة لا يوجد ارث فتكون آية المواريث ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ ناسخة.

ويوجد قول آخر ورأي ِآخر: وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة النعمان وأصحابه من ثبوت الإرث بعقد ضمان الجريرة فإذا ثبت الإرث بعقد ضمان الجريرة تكون الآية محكمة غير منسوخة.

طبعا استدلوا على ذلك بأن آية المواريث ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ أثبتت الإرث بالنسبة إلى الأرحام ولكنها لم تنف الإرث عن غير الأرحام. نعم هي قدمت الأرحام على غير الأرحام وتقديم الأرحام على غيرهم في الإرث لا يعني انتفاء الإرث عن غير الأرحام. فلا يوجد تنافي بين ثبوت الإرث للأرحام وثبوت الإرث لغير ذوي الأرحام لكي يقال إن آية المواريث ناسخة لآية ضمان الجريرة التي هي عقد الإيمان.

هذا تمام الكلام في النقطة الأولى في بيان الأقوال في المسألة.

النقطة الثانية بيان الحق والصحيح في المسألة

وبعض المسائل تحتاج إلى ذوق عرفي واستظهار عربي فصيح بعيد عن الأقوال والمذاهب المختلفة فلو عرضنا هذه الآية على رجل عربي مبين فإنه يستظهر منها ما يلي ﴿ولكل جعلنا موالي﴾ يعني هناك أولياء لكل من، من هذه الأصناف الثلاثة ﴿مما ترك الوالدان﴾ هذا الصنف الأول الصنف الأول، الصنف الثاني ﴿الأقربون﴾، الصنف الثالث ﴿الذين عقدت أيمانكم﴾ هذه الأصناف الثلاثة لها أولياء في تركتهم ﴿فآتوهم نصيبهم﴾ يعني أعطوهم حصتهم من الإرث ﴿إن الله كان على كل شيء شهيدا﴾ الله "عز وجل" يشهد على أعمالكم هل تعطوا أولياء هذه الأصناف الثلاثة ارثهم أو لا. لاحظ كيف المعنى منسجم بقطع النظر عن أي قول.

فالحق والإنصاف إن المراد بالآية ما هو ظاهره الذي يفهم منها وهو ثبوت الإرث بالمعاقدة ومع ذلك يعني مع حمل قوله "عز وجل" ﴿والذين عقدت أيمانكم﴾ على المعاقدة فلا يوجد نسخ لمدلول الآية الكريمة.

بيان ذلك:

إن سياق الآية الكريمة يقتضي أن يكون المراد بالنصيب هو حصة الإرث وحمل النصيب على النصرة أو الوفادة والضيافة خلاف ظاهر العبارة وخلاف ظاهر الآية. بل يكاد يكون خلاف صريح الآية.

ثم إن الآية الكريمة ناظرة إلى أصل تشريع الإرث للأصناف الثلاثة وليس ناظرة إلى تسوية الطبقات الثلاث فالآية الكريمة تدل على أن الطوائف الثلاث وهم أولياء الوالدين والأقربين والذين عقدت أيمانكم يرثون ولا تدل الآية على اشتراك هذه الطوائف الثلاثة وتساويهم في الطبقة. فمن الواضح أن الولد يرث أبويه ولا يرث مع الولد أحد من أقرباء الميت كإخوانه وأخواته وأعمامه وأخواله.

فالذي يستفاد من الآية أن الموروث هو هذه الطوائف الثلاث وأما ترتيب الإرث هذا يستفاد من الأدلة الأخرى في الكتاب والسنة ومن الواضح في كتاب الإرث أن الإرث أما أن يكون بالسبب وإما أن يكون بالنسب.

الإرث بالنسب له ثلاث طبقات وإذا وجدت الطبقة الأولى فإنها تمنع الطبقة الثانية:

الطبقة الأولى الأولاد والآباء

الطبقة الثانية الأخوان والأخوات

الطبقة الثالثة الأجداد والأعمام والأخوال

هذه طبقات موجودة في كتاب الإرث هذا بالنسبة إلى الإرث النسبي.

وهناك ارث سببي: الإرث السببي:

إما أن يكون بالمصاهرة يعني النكاح الزواج

وإما أن يكون بالولاء

والولاء ثلاثة أقسام:

ولاء العتق

وولاء ضامن الجريرة

وولاء الإمام "عليه السلام" فإنه وارث من لا وارث له.

السيد الخوئي "رحمه الله" بيّن وفصل هذه الأمور بشكل سلس وقال إن الآية الكريمة جامعة لجميع الوراث على الإجمال من دون تفصيل:

الصنف الأول فالولد يرث ما تركه الوالدان هذا الصنف الأول.

الصنف الثاني والأقربون من أولي الأرحام يرث بعضهم بعضا

والصنف الثالث ومن عقد معه عقد يرث في الجملة تشريكا أو ترتيبا، إما بنحو الترتيب كما ذكرنا أنه مع وجود ضامن الجريرة أو وجود ولاء العتق لا تصل النوبة إلى ارث الإمام فإنه وارث من لا وارث له. هذا بشكل إجمال.

ثم يفصل السيد الخوئي يقول إن الإرث من غير جهة الرحم لابد له من تحقق عقد والتزام من العاقد بيمينه وقدرته ويذكر أربعة أمور:

الأمر الأول هذا العقد إما أن يكون من جهة النكاح فكل من الزوجين يرث صاحبه بسبب عقد الزواج الذي تحقق بينهما هذا الصنف الأول، طبعا في الفقه يقولون الإرث:

إما أن يكون بالنسب ويذكرون الطبقات الثلاث

وإما أن يكون بالسبب

السبب إما المصاهرة أو الولاء والولاء ثلاثة أشياء ذكرنا

الأمر الأول المصاهرة

الأمر الثاني يكون من جهة عقد البيعة والتبعية ويسمى ولاء الإمامة ولا خلاف في ثبوت ذلك لرسول الله "صلى الله عليه وآله" ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة (أنا وارث من لا وارث له)[7] ولا إشكال في ثبوت ولاء الأمة بالأدلة القطعية للأئمة "عليهم السلام" لأنهم بمنزلة نفس الرسول "صلى الله عليه وآله" واتفقت كلمات الإمامية وروايات أهل البيت على ثبوت ولاء الإمامة هذا الصنف الثاني.

الصنف الثالث يكون من جهة عقد العتق فيرث المعتق عبده الذي اعتقه بولاء العتق، طبعا العتق ليس عقدا وإنما هو إيقاع يحتاج طرف واحد يعني المولى يقول لعبده أنت حر لوجه الله بعد العتق قال أنا لا أقبل أو اقبل كالطلاق هذا هو الفارق بين العقد وبين الإيقاع العقد كالنكاح لابد من قبول الطرفين يتقوم بالطرفين مثل البيع مثل النكاح مثل الإجارة. وأما الإيقاع يتقوم بطرف واحد كالطلاق والعتق والوقف والصنف الرابع هو من جهة عقد الضمان ويسمى ولاء ضمان الجريرة. واتفقت كلمات الإمامية على ثبوت الإرث بسبب هذا الولاء وذهب أبو حنيفة النعمان وأصحابه إلى ما ذهبت إليه الإمامية.

الخلاصة إذا نريد أن نرتب دعوى النسخ فإنها تتوقف على مقدمتين:

المقدمة الأولى تامة والمقدمة الثانية ليست تامة فلا تتم دعوى النسخ.

المقدمة الأولى أن يكون قوله تبارك وتعالى ﴿والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم﴾[8] معطوفا على ما قبله في الآية ﴿على الوالدين والأقربين﴾ ولا يكون قوله تعالى جملة مستأنفة ليكون المراد من نصيبهم النصح والمشورة وما يشبههما لا النصيب من الإرث هذه المقدمة تامة فيكون المراد من النصيب هو الإرث والنصيب من الإرث.

المقدمة الثانية أن يراد بعقد اليمين خصوص ضمان الجريرة مع الالتزام بعدم ثبوت الإرث بضمان الجريرة كما عليه اغلب أهل السنة أو يكون المراد بعقد اليمين عقد المؤاخاة وما يشبهه مما كان في الجاهلية وكانوا يرثون به وقد اجمع المسلمون على عدم ثبوت الإرث بعقد المؤاخاة وما يشبهه.

المقدمة الأولى لا ريب في صحتها وهذا هو الذي يقتضي سياق الآية الكريمة والظهور العرفي فيها.

أما المقدمة الثانية فممنوعة لأن ضمان الجريرة احد مصاديق العقود ومع ذلك مع حمل عقد الإيمان على ضمان الجريرة لم ينسخ حكمه ودعوى أن المراد بعقد اليمين العقود التي لا توجب التوريث كالمؤاخاة ونحوها لا دليل على ثبوتها.

النتيجة النهائية بمقتضى الظهور العرفي يثبت الإرث في ضمان الجريرة وآية ﴿وأولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ تثبت الإرث لذوي الأرحام وكما يقال بعبارة علمية إثبات الشيء لا ينفي ما عداه فإثبات الآية للإرث بالنسبة إلى ذوي الأرحام لا يعني إن آية المواريث تنفي الإرث عن غير ذوي الأرحام كضمان الجريرة فيكون هناك انسجام بين الآيتين، آية المواريث ﴿وأولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ تثبت الإرث لذوي الأرحام والآية التي هي موطن البحث تثبت الإرث إلى ثلاثة أصناف الوالدين الأقربين والذين عقدت أيمانكم فتكون الآية الرابعة عشر محكمة وليست منسوخة.

هذا تمام الكلام في الآية الرابعة عشر الآية الخامسة عشر يأتي عليها الكلام.

 


logo