46/11/15
الدرس (مائتان وأربعة وثلاثون): التقريب الثاني لإشكال تعقل الوجوب المشروط في مرحلة الإثبات
الموضوع: الدرس (مائتان وأربعة وثلاثون): التقريب الثاني لإشكال تعقل الوجوب المشروط في مرحلة الإثبات
[التقريب الثاني لإشكال تعقّل الوجوب المشروط في مرحلة الإثبات]
أنْ يُقال: إن الإطلاق والتقييد لشيء إنما هو حكمٌ من قبل المتكلم على ذلك الشيء، إذا الإطلاقُ فرعٌ لحاظ الموضوعِ، فلابدَّ من توجُّهِ نفسِ المتكلمِ إلى الموضوعِ بتوجُّهٍ تفصيليٍّ استقلاليٍّ، والمفرض أنَّ المعانيَ الحرفيةَ معانٍ ربطية آلية غيرُ مستقلة، فلا يمكن التوجُّهُ إلى النِّسَبِ والمعاني الحرفيةِ بشكلٍ مستقلٍ، وما دامت كذلك، فلا يمكن الحكمُ عليها بالإطلاقِ أو التقييدِ.
خلاصة التقريب الثاني:
الإطلاقُ والتقييدُ فرعُ إمكانِ التوجُّهِ الاستقلاليِّ والتفصيليِّ إلى الموضوعِ، والمعنى الحرفي ليس معنًى مستقلاً، بل قائمًا بغيره، فلا يمكن التوجُّهُ إليه بشكلٍ تفصيليٍّ لكي يُثبتَ له الإطلاقُ أو التقييدُ، فلا يُعقَلُ تقييدُ المعاني الحرفيةِ، فلا يُعقَلُ تقييدُ الوجوبِ واشتراطُ ذلك الوجوبِ إذا كان منشؤُه صيغةُ فعلِ الأمرِ.
]الجواب عن التقريب الثاني[
والجواب: ماذا تقصدُ بالآلية؟
يوجدُ معنيان للآلية:
المعنى الأول: المرآتية.
المعنى الثاني: الوجود التبعي الاندكاكي.
وعلى كلا المعنيين لا يتمُّ هذا التقريبُ الثاني.
أما المعنى الأول (المرآتية): فإنْ أُريدَ بالمعنى الربطيِّ والحرفِ هو المرآتيةُ على حدِّ مرآةٍ، فالإنسانُ ينظرُ إلى المرآةِ وينظرُ إلى الزجاجِ، لكنه ينظرُ نظرًا عفويًّا إلى الزجاجِ، يكونُ تمامُ نظرِه نحوَ صورته التي يشاهدُها في المرآةِ، مع أنه على يقينٍ من أنه إنما ينظرُ إلى زجاجٍ وإلى مرآةٍ، فهو حينئذٍ إنْ أراد أن يحكمَ على ما في المرآةِ، فسوف ينصبُ حكمَه على المرئي وهو صورته المشاهدةِ في المرآةِ؛ لأنه غافلٌ عن نفسِ المرآةِ.
إنْ أُريدَ من المعاني الحرفيةِ الآلية هو كونُ هذه المعاني آلةً للغيرِ، كما أنَّ الزجاجَ والمرآةَ آلةٌ للغيرِ، فهذا التقريبُ لا يتمُّ؛ لأنه حتى بناءً على المعنى الآليِّ المرآتي يمكنُ توجُّهُ النفسِ إلى المعنى الحرفيِّ بشكلٍ مستقلٍ.
]نموذج تطبيقي لتوضيح إمكان التوجه إلى المعنى الحرفي[
مثالٌ على ذلك: لو سألَ السائلُ: "أين زيدٌ؟" فقيلَ: "زيدٌ في المسجدِ"، "زيدٌ في الدكانِ"، "زيدٌ في المحكمةِ"، فهنا السائلُ لم يسألْ عن زيدٍ ولم يتوجهْ إلى خصوصياتِ زيدٍ أو غيره، بل توجه لبُّ سؤاله إلى الكينونةِ والظرفيةِ: أينَ ظرفُ مكانِ زيدٍ؟ المسجدُ أو الدكانُ أو المحكمةُ، فتوجهَ السائلُ إلى الحالةِ الكائنةِ، أيِ الكونِ في المسجدِ أو المحكمةِ أو الدكانِ، فهنا توجدُ نسبةٌ، وهي نسبةُ وجودِ زيدٍ في المسجدِ أو الدكانِ أو المحكمةِ، وتوجهَ إلى هذه النسبةِ.
فإذا لم يقمْ برهانٌ على أنَّ المعانيَ الحرفيةَ دائمًا يكونُ مغفولًا عنها، بل قد تكونُ محطَّ النظرِ، هذا بناءً على المعنى الأولِ للآليةِ، وهو المرآتيةُ.
المعنى الثاني (الوجود الاندكاكي):
فإنَّ الحرفيَّ باعتباره أمرًا نسبيًّا وربطيًّا، والنسبةُ مندكةٌ ذاتًا ووجودًا بين طرفيها، فلا قوامَ للنسبةِ بذاتها بالاستقلالِ، بل النسبةُ متقومةٌ بالطرفينِ، فلا يُعقَلُ أن توجدَ النسبةُ بوجودٍ استقلاليٍّ أصلاً، لا في عالم الخارجِ ولا في عالمِ الذهنِ؛ لأنها ستخرجُ عن كونِها نسبةً وتصيرُ أمرًا منسوبًا لا نسبةً.
]تحليل لعدم استقلال الوجود الذهني والخارجي للنسبة[
فالنسبةُ الحقيقيةُ بحسبِ الحملِ الشائعِ (أي ما يقومُ بعمليةِ الربطِ) لا يُعقَلُ أن تكونَ هذه النسبةُ موجودةً في الخارجِ، ولا يُعقَلُ أن تكونَ موجودةً في الذهنِ بوجودٍ استقلاليٍّ، النسبةُ (أي ما يقومُ بالربطِ في الذهنِ ويربطُ في الخارجِ) متقومةٌ بالطرفينِ، كيف يربطُ ويحقِّقُ الربطَ من دونِ وجودِ طرفينِ؟ فلا يربطُ بالاستقلالِ، بل يتحققُ الربطُ بوجودِ طرفينِ في الخارجِ.
إذنْ المعنى الحرفيُّ معنى ربطيٌّ، معنى نسبيٌّ، غيرُ متقومٍ بذاتهِ، لا في الخارجِ ولا في الذهنِ، فكيف يلحظُه المتكلمُ ويقيِّدُه تارةً ويطلقهُ تارةً أخرى؟!
]إعادة صياغة الإشكال بناءً على الوجود الربطي للآلية[
إنْ أُريدَ من الآليةِ المعنى الربطيُّ، فهذا الكلامُ صحيحٌ وتامٌّ، ولابدَّ من صياغةِ الإشكالِ بشكلٍ آخرَ، فيُقالُ هكذا يصير صياغة التقريب الثاني بناءً على المعنى الثاني للآلية (الوجود الربطي)، يُقالُ هكذا:
إنَّ المعنى الحرفيَّ إذا كان موجودًا تبعًا واندكاكًا، فلا يُعقَلُ التوجُّهُ نحوهُ بشكلٍ تفصيليٍّ؛ لأنَّ توجُّهَ النفسِ نحوهُ بشكلٍ تفصيليٍّ عبارةٌ أخرى عن وجودِه في النفسِ، وحيث إنَّ الإطلاقَ فرعُ توجُّهِ النفسِ، وحيث إنَّ توجُّهَ النفسِ لشيءٍ استقلالًا يساوق وجودَه استقلالاً، وحيث إنَّ المعنى الحرفيَّ لا يُعقَلُ فيه الوجودُ الاستقلاليُّ، إذنْ يمتنعُ فيه الإطلاقُ والتقييدُ؛ لأنه يلزمُ منه أن يكونَ للمعنى الحرفيِّ وجودٌ استقلاليٌّ، وهو خلفُ الفرضِ، إذِ الفرضُ أنَّ المعنى الحرفيَّ معنى اندكاكيٌّ، هو عينُ الربطِ، أي قوامُه بغيرهِ لا بذاتِه.
]الجواب عن الإشكال بناءً على المعنى الربطي[
والجواب: تارةً نتوجهُ إلى ذاتِ الشيءِ، وتارةً نتوجهُ إلى الشيءِ بواسطةِ عنوانٍ مشيرٍ، فلو سلَّمنا بهذا الكلامِ في المقامِ، فهنا نقولُ: إنَّ الإطلاقَ والتقييدَ إنما ينصبانِ على المعنى الحرفيِّ، لكنهما لا ينصبانِ على المعنى الحرفيِّ مباشرةً، بل ينصبانِ على عنوانٍ اسميٍّ مستقلٍّ قابلٍ للتصورِ التفصيليِّ بالذاتِ، فيمكنُ إطلاقُه أو تقييدُه، وهذا العنوانُ والمفهومُ الاسميُّ الاستقلاليُّ يشيرُ إلى المعنى الحرفيِّ الربطيِّ.
إذاً تقييدُ أو إطلاقُ المعنى الحرفيِّ إما أن يكونَ بالنظرِ إليه مباشرةً، وإما أن يكونَ بالنظرِ إليه بواسطةِ عنوانٍ مشيرٍ قابلٍ للإطلاقِ والتقييدِ، فإنْ تمَّ الإشكالُ بناءً على المعنى الثاني للآليةِ (وهو المعنى الربطيُّ)، فصحيحٌ أنَّ التوجُّهَ مباشرةً إلى المعنى الربطيِّ غيرُ ممكنٍ؛ لأنه لا يمكنُ ملاحظتُه بالتفصيلِ، لكن يمكنُ ملاحظةُ المعنى الربطيِّ بواسطةِ معنًى اسميٍّ يشيرُ إليهِ، وهذا المعنى الاسميُّ المشيرُ قابلٌ للإطلاقِ والتقييدِ، وهذا كالوضع الذي لاحظَ المعنى الحرفي، لكنَّ الواضع لم يلاحظِ المعنى الحرفيَّ مباشرةً، بل لاحظَه بواسطةِ عنوانٍ مشير،كذلك هنا يُقالُ: إنَّ الإطلاقَ والتقييدَ ينصبانِ على المعنى الحرفيِّ، لا بالمباشرةِ، بل بواسطةِ عنوانٍ اسميٍّ يشيرُ إلى المعنى الحرفيِّ.
]النتيجة النهائية في مقام الإثبات[
النتيجة النهائية:
الواجبُ المشروطُ ممكنٌ ثبوتًا وإثباتًا.
أما في عالمِ الثبوتِ، ففي ثلاثِ مراحلَ: الملاكُ، والإرادةُ، والجعلُ.
وأما في عالمِ الإثباتِ (عالمِ الخطابِ والإبرازِ)، فقد أجَبْنا على جميعِ الإشكالاتِ المتوجهةِ على إمكانِ الوجوبِ المشروطِ، فيعقلُ تقييدُ الوجوبِ الذي استفدناهُ من صيغةِ الفعلِ، فيمكنُ تقيده بشروط، ولا يوجدُ إشكالٌ.
وبذلك يتمُّ الكلامُ عن إمكانِ الوجوبِ المشروطِ ثبوتًا وإثباتًا.
وهناك كلامٌ آخرُ: تارةً يُقَرَّبُ بحسبِ مقامِ الثبوتِ، وأخرى بحسبِ مقامِ الإثباتِ، ويُسجَّلُ إشكالٌ على الواجبِ المشروطِ.
فإذا لُوحظَ بحسبِ مقامِ الثبوتِ: يُقالُ إنَّ الوجوبَ المشروطَ تفكيكٌ بين الاعتبارِ والمعتبرِ.
وإذا قُرِّبَ بحسبِ مقامِ الإثباتِ: يُقالُ إنَّ الإنشاءَ إيجادٌ للمعنى باللفظِ، فيُقالُ: إنَّ الوجوبَ المشروطَ تفكيكٌ بين الإنشاءِ والمنشأِ.
وجوابُ هذينِ الإشكالينِ في مقامِ الثبوتِ والإثباتِ واضحٌ: إذ إننا لو لاحظنا نفسَ الوجودِ، فنفسُ وجودِ الإنشاءِ والمنشأِ واحدٌ، ونفسُ وجودِ الاعتبارِ والمعتبرِ واحدٌ، وبالتالي نقولُ هكذا: إنَّ الوجوبَ المعتبرَ موجودٌ بعين وجودِ الاعتبارِ، كما أنَّ الوجوبَ المنشأَ موجودٌ بعينِ وجودِ الإنشاءِ، فلا تفكيكَ بين الاعتبارِ والمعتبرِ في عالمِ الثبوتِ، ولا تفكيكَ بين الإنشاءِ والمنشأِ في عالمِ الإثباتِ، فإنْ أرادوا أنَّ المعتبرَ بالذاتِ والمنشأَ بالذاتِ قد انفكَّ عن الاعتبارِ والإنشاءِ، قلنا: إنَّ الوجوبَ المعتبرَ هو نفسُ الاعتبارِ من ناحيةِ الوجودِ، فعند الاعتبارُ يثبتُ المعتبرَ، هذا هو.
وإنْ أرادوا المعتبرَ بالعَرَضِ لا المعتبرَ بالذاتِ، أو المنشأَ بالعَرَضِ لا المنشأَ بالذاتِ (أي ما هو المطابقُ للمعتبرِ والمنشأِ قد انفكَّ)، فالجوابُ: لا بأسَ بذلك؛ لأنَّ المعتبرَ بالعَرَضِ ليس معتبرًا حقيقةً، وكذلك المنشأَ بالعَرَضِ ليس منشأً حقيقةً.
]النتيجة الختامية للبحث[
النتيجة النهائية:
تمَّ البحثُ في الواجبِ المطلقِ والواجبِ المشروطِ، واتضحَ إمكانُ الواجبِ المشروطِ، ذكرنا أنَّ في بعضِ المواردِ يرجعُ الشرطُ إلى الوجوبِ، وفي بعضِ المواردِ يرجعُ الشرطُ إلى الواجبِ، وفي بعضِ المواردِ يرجعُ الشرطُ إلى الوجوبِ والواجبِ.
والواجبُ المنجزُ والمعلَّقُ يأتي عليه الكلام.