« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/11/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وثلاثة وثلاثون): المقام الثاني تعقل الوجوب المشروط بلحاظ مقام الإثبات

الموضوع: الدرس (مائتان وثلاثة وثلاثون): المقام الثاني تعقل الوجوب المشروط بلحاظ مقام الإثبات

 

]المقام الثاني: تعقُّل الوجوب المشروط في مقام الإثبات[

[التمهيد للمقام الثاني]

وبعد أن اتضح أن الوجوب المشروط معقول في المقام الأول - وهو مقام الثبوت بمراحله الثلاث: الملاك والإرادة والجعل - يقع الكلام في تعقُّل الوجوب المشروط في مقام الإثبات، أي عالم الخطاب والدلالة ومرحلة الإثبات، فهل يوجد إشكال في الوجوب المشروط في عالم الإبراز والإثبات أم لا؟

]محل الإشكال: الوجوب المستفاد من صيغة الأمر[

استُشكِل في مورد ولم يُستشكَل في مورد آخر، فالوجوب إما أن يُستفاد من المادة بنحو المفهوم الاسمي، وإما أن يُستفاد من الصيغة والهيئة بنحو المعنى الحرفي.

لم يستشكل الأصوليون فيما إذا استُفيد الوجوب من مفهوم اسمي، كما لو قال المولى: "وجوب الحج مشروط بالاستطاعة"، فالشرط هو الاستطاعة، وقد أُخذت كقيد في وجوب الحج، ووجوب الحج قد استُفيد بنحو المعنى الاسمي، ولم يُستفَد الوجوب من صيغة الأمر، فهنا لا إشكال في تعقُّل الوجوب المشروط.

[أصل الإشكال في المعاني الحرفية]

إنما الإشكال فيما إذا استُفيد الوجوب من صيغة الأمر، كما لو قال المولى: "إذا جاء زيد فأكرِمْه"، فهنا يوجد شرط وهو مجيء زيد، ويوجد وجوب لكنه مستفاد من دلالة صيغة "أكرمه" على الوجوب، فهل يصح تقييد الوجوب المستفاد من صيغة الأمر أم لا؟

ذكروا في المعاني الحرفية أن الهيئات ملحقة بالحروف؛ فيكون مدلول الهيئة هو النسبة لبعض المعاني، كالنسبة الطلبية أو النسبة الإرسالية القائمة بين المكلف والمأمور به، فإذا كان الوجوب قد استُفيد بنحو المعنى الحرفي النسبي، والنسب لا تقبل التقييد.

والسر في ذلك: أن النسب سنخ مدلول حرفي جزئي، والجزئي لا يقبل التقييد، إنما يقبل التقييد الكلي، إذاً الشرط كالمجيء في قوله: "إذا جاء زيد فأكرمه" لا يُعقَل رجوع شرط المجيء إلى هيئة وصيغة "أكرمه"، فارجع الأصوليون شرط المجيء إلى مادة الصيغة، أي الإكرام، فالذي يُقيَّد بالمجيء هو الإكرام، وليس وجوب الإكرام.

[تحقيق الإشكال في مقامي الثبوت والإثبات]

فالأصوليون وإن بحثوا عن هذا الإشكال في مقام الثبوت واعترفوا بإمكانية رجوع الشرط إلى مدلول الهيئة بحسب الفهم العرفي والقواعد اللغوية، لكن في عالم الإثبات والخطاب والدلالة، بعد أن سلموا بأن مدلول الهيئة والصيغة هو النسبة، والنسبة مدلول حرفي نسبي جزئي، وبالتالي المداليل الحرفية والنسبية لا تقبل التقييد.

ومن هنا استشكلوا في رجوع القيود والشروط إلى الوجوب الذي يستفاد من المعنى الحرفي والنسبي والربطي، فقالوا إن القيد كشرط المجيء إنما يرجع إلى مادة الإكرام، ولا يرجع إلى صيغة "أكرمه".

وقد قرر الإشكال بأحد تقريبين:

]التقريب الأول للإشكال: الإطلاق والتقييد يختصان بالمفاهيم الكلية[

التقريب الأول: إن الإطلاق والتقييد إنما يعرضان على المفاهيم الكلية القابلة للإطلاق والتقييد، فالمفاهيم الكلية تتسع للإطلاق تارة وللتقييد تارة أخرى، أي توجد فيها قابلية الإطلاق وقابلية التقييد، بخلاف المفاهيم الجزئية التي لا تقبل الانطباق على كثيرين، وإنما هي مفاهيم شخصية متشخِّصة معيَّنة، لا يُعقَل فيها لا إطلاق ولا تقييد.

إذاً توجد كبرى كلية: الإطلاق والتقييد إنما يطرآن على المفاهيم القابلة لهما، بينما المفهوم الجزئي غير قابل للتقييد؛ لأنه بنفسه خاص ومتشخِّص، فلا يقبل التقييد.

وهنا قال الأصوليون في بحث الوضع: إن المعاني الحرفية موضوعة بالوضع العام، والموضوع له الخاص، وأن المفاهيم الحرفية أمور خاصة وجزئية، فهي لا تقبل الإطلاق والتقييد.

[تلخيص التقريب الأول]

الوجوب إذا استُفيد من مفهوم اسمي فإنه يقبل التقييد ولا إشكال فيه، كقول المولى: "يجب الحج على المستطيع"، لكن الوجوب المستفاد من صيغة الأمر - أي من الصيغة - لا يُعقَل أن يُقيَّد بقيد أو شرط، والسر في ذلك: أن ما يُستفاد من الفعل هو معنى حرفي، وهو النسبة الطلبية، والنسبة معنى جزئي غير قابل للتقييد، فحينئذٍ ارجِعوا الشرط والقيد إلى مادة الفعل لا إلى صيغته وهيئة الفعل، فقالوا: إن الوجوب المشروط ممكن إذا رجع الشرط إلى المعنى الاسمي، وغير ممكن إذا رجع الشرط إلى المعنى الحرفي الذي هو صيغة الفعل، فلا بد من إرجاعه إلى المعنى الاسمي الذي هو مادة الفعل.

[الجواب على التقريب الأول]

والجواب: إن مَن منشأ هذا التقريب هو الخلط بين اصطلاحين للجزئي:

الاصطلاح الأول: الجزئي الحقيقي، كمفهوم "زيد" و"عبيد"، الذي لا ينطبق على غيرهما، في مقابل المفهوم الكلي كـ"الإنسان" و"الحيوان"، اللذين ينطبقان على جميع أفراد الإنسان والحيوان، فهذا المصطلح الأول هو الجزئي الحقيقي في مقابل الكلي، أي أن الكلي هو المفهوم الذي ينطبق على كثيرين فيقبل التقييد، وأما الجزئي الحقيقي فهو المفهوم الذي لا ينطبق على كثيرين فلا يقبل التقييد.

الاصطلاح الثاني: الجزئي بلحاظ الطرفين، أي المفهوم المختص بلحاظ طرفين بالخصوص، لكن نفس هذا المفهوم قد يكون كلياً.

]بيان مثال «مِن» و«إلى» في النسب الحرفية[

مثال ذلك: في باب الحروف يُقال إن "مِن" تدل على الابتداء، و"إلى" تدل على الانتهاء، فلو قال القائل: "جئت من لبنان إلى إيران"، وفي قول آخر قال: "جئت من إيران إلى العراق"، فهنا يوجد ابتداء للمجيء والسير: ابتداء من لبنان أولاً، ومن إيران ثانياً، وهكذا في الانتهاء: يوجد انتهاء إلى إيران أولاً، وانتهاء إلى العراق ثانياً.

إذاً، حرف "مِن" متعلَّق بالطرف الأول وهو لبنان، ومتعلَّق بالطرف الثاني وهو إيران، وهكذا حرف "إلى" فإنه متعلَّق بالطرف الأول في الجملة الأولى وهو إيران، ومتعلَّق بالعراق الذي هو الطرف الثاني في الجملة الثانية.

وقد وقع الكلام في مدلول "مِن" ومدلول "إلى"، فهل لفظ "مِن" يمكن أن يُجعل موضوعاً لجامع بين النسبتين: النسبة الأولى: الابتداء من لبنان، والنسبة الثانية: الابتداء من إيران، وهكذا هل يمكن وضع لفظ "إلى" للمعنى والمدلول المستل من الجامع بين النسبتين: نسبة الانتهاء إلى إيران ونسبة الانتهاء إلى العراق؟

سؤال: هل يمكن جعل موضوع "مِن" جامعاً للنسبتين؟ وهل يمكن جعل مدلول "إلى" لجامع النسبتين بعد إلغاء خصوصية الطرفين؟

الجواب: إن لفظ "مِن" موضوع للنسبة الابتدائية في كلتا القضيتين، سواء أكان الابتداء من لبنان أم من إيران، فقد يقال حينئذٍ حاله حال لفظ "الإنسان": نجردت الخصوصيات (أسود، أبيض، طويل، قصير، مدني، قروي، جميل، قبيح) فننتزع مفهوم "الإنسان".

فقد يقال: ننتزع الأطراف (الطرف المبتدأ به)، نلغي لبنان وإيران، ونقول: لفظ "مِن" وُضع لجامع الابتداء، فهل يصح ذلك؟

الجواب: كلا، وألف كلا.

والسر في ذلك: إن النسبة متقومة بطرفيها وبأطرافها، فإذا ألغيت الأطراف عُدمت النسبة، وإذا أبقيت الأطراف لم تستطع أن تنتزع جامعًا.

إذن النسبة في القضية الأولى متقومة بطرفيها: الابتداء بلبنان والانتهاء بإيران، والنسبة في الجملة الثانية متقومة بطرفيها: الابتداء بإيران والانتهاء بالعراق؛ لأن النسبة تُعتبر أمرًا اندكاكيًا، اندكاك الابتداء بلبنان واندك الانتهاء بإيران في العبارة الأولى، واندكاك الابتداء بإيران واندك الانتهاء بالعراق في العبارة الثانية.

إذن يستحيل تكوين جامع بين النسبتين؛ لأننا إذا ألغينا خصوصية الطرفين في العبارة الأولى وخصوصية الطرفين في العبارة الثانية، فنكون حينئذٍ قد ألغينا أصل ماهية النسبة في كلا النسبتين، وإن لم نلغِ الطرفين في كلتا النسبتين، إذن تبقى كلتا النسبتين متغايرتين.

وبالتالي لا يمكن تحصيل الجامع بين النسبتين مع التحفظ على خصوصيات الأطراف، وإذا ألغيت الأطراف أو الطرفان، عُدم أصل النسبة وأصل مفهوم الرابط.

]نتيجة البحث في الوضع العام والموضوع له الخاص في الحروف[

إذن يتعين أن حرف "مِن" موضوع بالوضع العام والموضوع له خاص، يعني: "مِن" وُضع للابتداء، لكن في الجملة الأولى وُضع للابتداء من لبنان والانتهاء إلى إيران، وفي الجملة الثانية وُضع للابتداء من إيران والانتهاء إلى العراق. فيقال: إن هذه النسبة وهذا الربط جزئي، أي خاص بخصوص الطرفين، يعني: "مِن" في العبارة الأولى خاصة بالابتداء من لبنان، وليست لمطلق الابتداء، و"مِن" في العبارة الثانية خاصة لخصوص الابتداء من إيران لا لمطلق الابتداء من البلدان، فهذا معنى أن النسبة جزئية، يعني جزئية بلحاظ الطرفين (أي جزئية طرفية).

هذه الجزئية الطرفية مفهوم كلي عام: "المجيء من لبنان إلى إيران" يصدق على جميع مَن صعد الطائرة من لبنان إلى إيران، الأول يصدق عليه أنه جاء من لبنان إلى إيران، والثاني يصدق عليه أنه جاء من لبنان إلى إيران، إذن مصطلح "الجزئي" في بحث النسب والمعاني الربطية لا يُراد به المصطلح الأول (وهو الجزئي الحقيقي في مقابل الكلي الذي لا يقبل التقييد هذا الجزئي الحقيقي)، بل يُراد به المصطلح الثاني، أي الجزئي الطرفي: يعني خاص بلحاظ طرفي النسبة (جزئي بلحاظ طرفي النسبة)، لكنه في حد نفسه كلي يقبل التقييد.

خلاصة جواب التقريب الأول: الذي يقول: "لا يمكن إرجاع الشرط والقيد إلى صيغة الأمر وصيغة الفعل لأنها نسبة، والنسبة أمر جزئي لا يقبل التقييد، فلابد من إرجاع الشرط والقيد إلى مادة الفعل لا إلى صيغة الفعل".

الجواب: صيغة الفعل والنسبة والمفهوم الربطي المستل من الحرف، هذه المعاني الحرفية جزئية لا بمعنى الجزئي الحقيقي في مقابل الكلي حتى يُشكَّل بأنه غير قابل للتقييد، بل جزئية بمعنى النسبي والحرفي، أي أنه جزئي طرفي خاص بلحاظ أطرافه بالخصوص، وهذا الجزئي الطرفي كلي قابل للتقييد. فلا حاجة لإرجاع الشرط والقيد إلى مادة الفعل، بل يمكن إرجاعه إلى هيئة وصيغة الفعل، والله العالم.

هذا تمام الكلام في التقريب الأول.

التقريب الثاني: في الإشكال على إمكانية وتعقُّل إرجاع الشرط إلى الوجوب المستفاد من الهيئة، يأتي عليه الكلام.

logo