46/06/26
الدرس (مائتان وأربعة): إجزاء الأمر الظاهري عن الواقع
الموضوع: الدرس (مائتان وأربعة): إجزاء الأمر الظاهري عن الواقع
المقام الثاني إجزاء الأمر الظاهري عن الواقع.
والكلام في المقام الثاني هو عن التطبيق الثاني في الإجزاء.
فالتطبيق الأول هو إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري، وقد أخذناه في المقام الأول.
والمقام الثاني فيتحدث عن التطبيق الثاني، وهو إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي.
سؤال: فهل يكون امتثال الأمر الظاهري مجزياً عن الواقع أم لا يكون مجزياً بعد انكشاف الخلاف؟
وهنا يوجد احتمالان:
الاحتمال الأول هو أن يكون انكشاف خلاف الأمر الظاهري للواقع بنحو قطعي ويقيني، فيتيقن المكلف أن هذا الأمر الظاهري مخالف للواقع قطعا.
الاحتمال الثاني هو أن يكون انكشاف الخلاف بتبدل الحكم الظاهري إلى حكم ظاهري آخر.
ومن هنا يقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: فيما إذا انكشف الخلاف بالقطع واليقين.
المقام الثاني: إذا انكشف الخلاف بتبدل الحكم الظاهري إلى حكم ظاهري آخر.
أما المقام الأول وهو إذا انكشف خلاف الأمر الظاهري للواقع بشكل قطعي ويقيني، فإنه بمقتضى طبعه وبقطع النظر عن ورود أي دليل خاص، فهو يقتضي عدم الإجزاء في المقام؛ إذ أنه خالف الواقع قطعا.
وذلك لأن أدلة الأوامر الظاهرية باعتبار اختلاف مرتبتها عن مرتبة الأحكام الواقعية، وعدم كونها موجبة لحدوث تغير في الواقع.
فحينئذ، تبقى أدلة الأحكام الواقعية على حالها إذ لا مغيرة لها، فلا يحدث فيها أي تغيير من ناحية الأوامر الظاهرية، وغاية ما توجده الأحكام الظاهرية هو التنجيز والتعذير في مقام العمل، فهي إما أن تدخل التكليف في ذمة المكلف أو تخرج التكليف من ذمة المكلف وتعذره فيه من دون أن تحدث الأوامر الظاهرية أي تغيير في مَدلولات الأحكام الواقعية، وحينئذ يكون دليل الحكم الواقعي حجة في وجوب الإعادة.
فلو أن المكلف صلى في ثوب المحكوم بالطهارة ظاهرا إما بأصل عملي كأصالة الطهارة أو بأمارة بلحاظ شبهة موضوعية أو حكمية، أو صلى بالثوب الطاهر ظاهرا بأصل أو أمارة، وبعد ذلك انكشف له نجاسة هذا الثوب واقعاً، ففي مثل ذلك مقتضى القاعدة وجوب الإعادة، إلا إذا ورد دليل خاص يدل على عدم وجوب الإعادة.
فمقتضى القاعدة التمسك بدليل "لا صلاة إلا بطهور"، فتكون هذه الصلاة في الثوب النجس باطلة وتجب إعادتها.
[التقريبان للإجزاء في المقام الأول]
إذاً، مقتضى القاعدة في المقام الأول هو عدم الإجزاء، إلا إذا قرب الإجزاء بعض التقريبات وأهمها تقريبان:
التقريب الأول للمحقق الخراساني في كفاية الأصول[1] .
وقد نوقش التقريب الأول بثلاث مناقشات للمحقق النائيني[2] ، ووافق السيد الخوئي[3] المحقق النائيني في المناقشة الأولى والثانية، لكن الشهيد الصدر رضوان الله عليه رد المناقشات الثلاث وانتصر لصاحب الكفاية، ثم ناقش صاحب الكفاية ورد هذا التقريب، فتكون النتيجة على مبنى الشهيد الصدر عدم الإجزاء في المقام الأول.
فلنتأمل في التقريب الأول للإجزاء لصاحب الكفاية، فقد اختار صاحب الكفاية الإجزاء في موارد الأحكام الظاهرية التي يكون المجعول فيها الحكم الظاهري لا بلسان إحراز الواقع بل من قبيل تعيين الوظيفة العملية.
بيان ذلك: المجعول في الحكم الظاهري على نحوين:
[الحكم الظاهري على نحوين]
النحو الأول: لسان إحراز الواقع والكشف عنه كخبر الثقة والبينة، فهي تقول: "أكشف لك عن الواقع وأحرزه لك"، فإذا انكشف الواقع وكان على خلاف إخبار الثقة أو البينة، فحينئذ تسقط حجية البينة وخبر الثقة؛ لأن لسانهما لسان الإحراز والكشف، وقد اتضح الواقع وبان أن كشفهما ليس بصحيح.
النحو الثاني: اللسان الثاني لسان جعل الوظيفة الظاهرية والوظيفة العملية، كمن يقول بمسلك جعل الحكم المماثل، أي أن الأمارة تجعل حكما ظاهريا مماثلا للحكم الواقعي، فالأمارة لا تقول هذا الحكم الظاهري يحرز الواقع ويكشفه كما في الاحتمال، بل الأمارة تقول جعلت لك حكماً مماثلاً للواقع ووظيفتك العملية هي هذا الحكم الظاهري الذي جعلته لك، فإذا انكشف الواقع خلاف هذا الحكم الظاهري فلا يسقط الحكم الظاهري لأن لسانه ليس لسان الإحراز والكشف كما في اللسان الأول، بل لسانه لسان الحكم المماثل والوظيفة العملية، والمكلف قام بوظيفته العملية فنحكم بالإجزاء.
[مفاد كلام صاحب الكفاية]
إذاً، إذا اتضحت هذه المقدمة، نبيّن مفاد كلام صاحب الكفاية رضوان الله عليه، فقد ذهب إلى الإجزاء في موارد الأحكام الظاهرية التي يكون المجعول فيها الحكم الظاهري لا بلسان إحراز الواقع، كما في التقريب الأول، بل بلسان تعيين الوظيفة العملية، كما في النحو الثاني.
من قبيل الأصول العملية غير التنزيلية، فالأصول التنزيلية يعني منزلة منزلة الواقع، فيها جانب إحراز وكشف بخلاف الأصول العملية غير التنزيلية، كأصالة الحل، كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام، وأصالة الطهارة، كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه نجس بعينه فتدعه.
فأصالة الحل وأصالة الطهارة عند صاحب الكفاية هما أصلان يعينان العملية، وعنده أنهما من الأصول العملية غير التنزيلية.
وخلاصة ما ذكره في وجه الإجزاء هو:
[أقسام دليل الحكم الظاهري]
[القسم الأول:] أن دليل الحكم الظاهري تارة يكون لسانه لسان جعل الطهارة أو الحلية ابتداء، كما هو الحال في كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر، وكل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام، هذا لسان تعيين الوظيفة العملية.
[القسم الثاني:] وتارة أخرى: لا يكون لسانه لسان جعل الحلية والطهارة عملاً، بل لسان إحراز الطهارة والحلية الواقعية، وإن كان لباً وحقيقةً يوجد هناك حكم ظاهري غير الحكم الواقعي ومجعول في هذا الدليل، لكن هذا الظاهري ليس لسانه لسان جعل حكم مستقل، بل لسانه لسان التعبد في إحراز الحكم الواقعي، وهو الطهارة الواقعية والحلية الواقعية.
مثال الأدلة التي لسانها لسان الإحراز: أدلة حجية الأمارات، فإن لسان دليل حجية البينة وخبر الثقة القائم على طهارة الثوب ليس هو لسان جعل الطهارة لهذا الثوب، يعني جعل طهارة مستقلة لهذا الثوب، وإن كان قد يكون هناك طهارة مجعولة مستقلة بحسب عالم اللب بناءً على أن المجعول هو الحكم المماثل في باب الأمارة، ولكن لسان الدليل ليس لسان جعل الحكم المماثل حتى تجعل طهارة بإزاء هذا الحكم الظاهري، بل لسانه لسان صدق العادل.
والعادل ليس في مقام جعل طهارة أخرى في مقابل الطهارة الواقعية، بل لسان حال وتمامه الكشف عن نفس الطهارة الواقعية، لا إحداث طهارة وإنشاء طهارة ظاهرية في مقابل الطهارة الواقعية.
فيكون مفاد دليل الحجية هو التعبد بتلك الطهارة لكي يكون لسان دليل الحجية موازياً مع لسان الأمارة نفسها التي ثبتت حجيتها بدليل الحجية.
إذاً، هناك لسانان في أدلة الحجية:
اللسان الأول: هو لسان جعل شيء في مقابل الواقع من طهارة وحلية بقطع النظر عن الواقع، يعني إحداث طهارة ظاهرية في مقابل الطهارة الواقعية.
اللسان الثاني: هو لسان التعبد بأن هذا هو الواقع وأن الواقع موجود في المقام، لا التعبد بشيء آخر زائد عن الواقع، أي لسان هذه الطهارة تحرز الواقع وهذه الحلية تحرز الواقع، لا أن هذه إحداث للطهارة والحلية.
وحينئذ يقال:
[إذا كان اللسان هو اللسان الأول]
إنه بالنسبة إلى أدلة الأحكام الظاهرية التي يكون لسانها هو اللسان الأول، أي لسان جعل الطهارة والحلية زائداً عن الطهارة الواقعية والحلية الواقعية، فهنا لو كانت الطهارة قد وقعت موضوعاً لحكم شرعي وكان الكلام في الإجزاء وعدمه، ذلك الحكم الشرعي كالحكم بصحة الصلاة. فحينئذٍ، مقتضى القاعدة هو الإجزاء، لأن دليل قاعدة الطهارة أوجد فرداً آخر من الطهارة في مقابل الطهارة الواقعية، يعني: "لا صلاة إلا بطهور" لها فردان: فرد واقعي وفرد ظاهري، والإتيان بالفرد الظاهري مجزٍ، ولا يوجب الإعادة.
فيكون دليل الحكم الظاهر: "هذا طاهر"، وأصالة الحل قد وسعت دليل ودائرة دليل الحكم الواقعي: "لا صلاة إلا بطهور"، فيكون هناك طهوران: طهور واقعي وطهور ظاهري.
إذاً، "فلا صلاة إلا بطهور" تشمل هذا الطهور الظاهري، فتشمل "لا صلاة إلا بطهور" مورد الطهور: الظاهر والواقعي معاً.
إذاً، الدليل الظاهري الحاكم على الدليل الواقعي، وبالتالي لا صلاة إلا بطهور تشمل هذه الصلاة بعقد المستثنى منها لا المستثنى منه، يعني إن الصلاة مع طهور تكون صحيحة بمقتضى حاكمية دليل قاعدة الطهارة على دليل الشرطي وهو دليل "لا صلاة إلا بطهور".
هذا إذا كان اللسان هو اللسان الأول، لسان جعل حكم مماثل أو جعل الوظيفة العملية ظاهراً، حتى لو لم نقل بمسلك جعل الحكم كما في كلمات المحقق العراقي الذي يرى جعل الحكم المماثل.
[إذا كان اللسان هو الثاني]
وأما إذا كان اللسان هو الثاني، أي لسان أن الشرط موجود، يعني إحراز لك الواقع والطهارة الواقعية، أي أن الطهارة الواقعية موجودة وليس لسان إنشاء طهارة في مقابل الطهارة الواقعية.
إذاً، فهذه الصلاة تكون باطلة في المقام؛ لأنها غير واجدة للشرط والشرط هو الطهارة، وهنا لا طهارة.
أما الطهارة الواقعية فهي يقيناً غير موجودة قطعا، هذا انكشف الواقع خلاف ذلك. وأما الطهارة غير الواقعية وهي الطهارة الظاهرية، فنقول إن دليل الحجية لا ينهض لإثباتها؛ لأن دليل الحجية تعبدنا بوجود الطهارة الواقعية، لا أنه أضاف إلى الطهارة الواقعية طهارة أخرى في المقام، إذاً، فلا يحكم بصحة الصلاة لفقدانها شرطها.
هذا تمام الكلام في تقريب صاحب الكفاية.
الخلاصة:
صاحب الكفاية يرى إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي إذا انكشف خلاف الواقع قطعاً في خصوص مورد، وهو ما إذا كان لسان الحكم الظاهري هو جعل وظيفة للمكلف أخرى غير الوظيفة الواقعية، فيتم الإجزاء.
ولا يتم في مورد آخر، وهو إذا كان لسان الحكم الظاهر هو إحراز الحكم الواقعي، فإذا انكشف الواقع بخلاف الحكم الظاهري، حينئذٍ نحكم بعدم الإجزاء.
هذا تمام الكلام في تقريب صاحب الكفاية رحمه الله للإجزاء.
وقد اعترض عليه المحقق بثلاثة اعتراضات، وردها بأجمعها الشهيد الصدر وانتصر لصاحب الكفاية مقابلها، لكنه لم يكن مبنى صاحب الكفاية وحكم بعدم الإجزاء.
التقريب أو الاعتراض الأول للميرزا النائيني والسيد الخوئي على المحقق صاحب الكفاية يأتي عليه الكلام.