« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/06/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وسبعة وتسعون): التقريب الرابع للإجزاء

الموضوع: الدرس (مائة وسبعة وتسعون): التقريب الرابع للإجزاء

 

التقريب الرابع للإجزاء

ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه الله، يراجع "نهاية الدراية".[1]

ومفاد التقريب أنه يوجد فرضان:

الفرض الأول: إن الملاك بتمام مراتبه موجود في الجامع بين الحصة الاختيارية كالصلاة القيامية حين الاختيار، والحصة الاضطرارية حين الاضطرار كالصلاة الجلوسية.

الفرض الثاني: إن أصل الملاك موجود في الجامع، لكن مرتبته العالية إنما توجد في خصوص الحصة الاختيارية، وهي القيام مثلاً، والصلاة.

وبناءً على الفرض الأول: يتحقق الإجزاء، لأنه إذا جاء بالصلاة القيامية أو الصلاة الجلوسية يكون قد جاء بالجامع. فالإتيان بالصلاة الاضطرارية حين الاضطرار محقق للجامع، فيتحقق الإجزاء.

لكن بناءً على الفرض الثاني: لا يتحقق الإجزاء لأن الفرض الثاني يرى أن أصل الملاك موجود في الجامع، لكن المحقق للمرتبة العالية إنما هو خصوص الخصوصية، وهي القيام.

فالفرض الثاني يستبطن عدم الإجزاء، لكنه يستلزم توجه أمر إلى العبد بعد زوال عذره. لكن هذا الأمر يتعلق بنفس الخصوصية، أي القيام، ولا يتعلق بذي الخصوصية، أي الصلاة القيامية.

وبعبارة أخرى: الفرض الثاني يستلزم توجه أمر إلى المكلف بنفس الخصوصية، أي بنفس القيام، لا أنه يتوجه أمر إلى المكلف بذي الخصوصية، أي الصلاة القيامية، لأن المرتبة الشديدة من الملاك التي استوجبت أمرًا آخر إنما هي في الخصوصية، وهي نفس القيام، وليس الصلاة القيامية.

بينما دليل عدم الإجزاء، وهو إطلاق دليل الأمر بالصلاة الاختيارية، إنما يدل بظاهره على الأمر بذي الخصوصية، أي الأمر بالصلاة القيامية، وليس الأمر بنفس الخصوصية، أي بنفس القيام.

[الأمر بذي الخصوصية ليس محتملا سواء قلنا بالاجزاء أو لا]

فالأمر بذي الخصوصية كالصلاة القيامية ليس محتملاً، سواء قلنا بالإجزاء أم قلنا بعدم الإجزاء.

أما على الأول: وهو القول بالإجزاء، فعلى الإجزاء يكون الملاك بنفسه وبمرتبته موجوداً في الجامع، فلا مبرر للأمر بصلاة القيامية بعد زوال العذر لاستيفاء تمام الملاك، لأن الملاك يمكن أن يستوفى بالصلاة الجلوسية.

وأما بناءً على الثاني: وهو عدم الإجزاء، فحينئذ تكون المرتبة الشديدة للملاك قائمة بالخصوصية، وذلك يقتضي الأمر بالخصوصية لا بذي الخصوصية، أي يقتضي الأمر بالقيام، فيقول: يجب القيام في الصلاة، ولا يقول: تجب الصلاة القيامية.

إذن، ما هو ظاهر الدليل غير محتمل، ما هو ظاهر الدليل؟ الصلاة القيامية، أي الأمر بذي الخصوصية، هذا غير محتمل، وما هو محتمل، وهو الأمر بالخصوصية، الأمر بالقيام، هو في صالح عدم الإجزاء.

إذن، ما هو محتمل، وهو فرض الأمر بالخصوصية والأمر بالقيام، غير ظاهر من الدليل، وهو في صالح عدم الإجزاء.

وهذا الدليل إن تم، فإنه يبرهن على عدم دلالة دليل الأمر الاختياري على عدم الإجزاء، ولا يبرهن على الإجزاء، فهو لا يفيد الإجزاء ولا عدم الإجزاء، فإذا تم هذا الدليل، وجب الرجوع في مقام إثبات الإجزاء إلى إطلاق أو أصل ونحو ذلك.

هذا ما أفاده سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحسيني الحائري في "مباحث الأصول"[2] تقريراً لدرس أستاذه الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر.

والتحقيق

أن هذا الدليل غير تام لعدة وجوه:

الأول: ما تفطن إليه نفس المحقق الأصفهاني رحمه الله، يراجع "نهاية الدراية"[3] وهو أنه من قال إن الأمر يدور بين أن يكون للواجب ملاك واحد كله في الجامع أو ذاته في الجامع ومرتبته في الخصوصية، إن هذا مجرد احتمال. ويوجد احتمال آخر، وهو أن يكون في الواجب ملاكان مستقلان، يمكن فرض أحدهما في الجامع والآخر في ذي الخصوصية بما هو ذو خصوصية، أي الصلاة القيامية، لا في الخصوصية، وهي القيام في الصلاة.

فحينئذ، يقول: يجب عليك إما الجامع، يعني الصلاة عن قيام إن استطعت القيام، والصلاة عن جلوس إن استطعت الجلوس، هذا هو الملاك الأول. الملاك الثاني الصلاة المقيدة بالقيام، وهي الصلاة القيامية.

وحينئذ لا يتم الإجزاء، وفي نفس الواقع يكون هذا الفرض منسجماً مع ظاهر الأمر الاختياري الذي يدل على الأمر بذي الخصوصية، لا الأمر بنفس الخصوصية.

كيف يكون منسجماً مع ظاهر الأمر؟ لأن يستفاد من الصلاة القيامية، يعني الأمر بالخصوصية. وهذا لا يدل على ماذا؟ لا يدل على الإجزاء، يعني إذا جاء بالصلاة من جلوس، فإنها لا تجزئ عن الصلاة المقيدة بالقيام.

ثانياً: إننا حتى لو فرضنا ملاكاً واحداً في المقام، فبالإمكان أن يفترض أن الجامع دخيل في أصل الملاك وأيضاً في مرتبة الملاك، لكن بنحو مختلف.

غاية الأمر، إن دخل الجامع في أصل الملاك يكون بنحو العلية التامة، ولكن دخل الجامع في مرتبة الملاك يكون بنحو العلة الناقصة وبنحو الاقتضاء، ويحتاج في تأثيره وفعليته إلى تحقق الشرط، وهو اقتران الجامع بالخصوصية كالقيام.

وما أكثر المقتضيات والعلل الناقصة التي تحتاج في مقام التأثير إلى تحقق شروطها.

فهذا الفرض (أنه علة ناقصة ويحتاج إلى الشرط) ينسجم مع عدم الإجزاء، وفي نفس الواقع ينسجم مع فرض توجه الأمر إلى ذي الخصوصية، وهي الصلاة القيامية، لا إلى الخصوصية، فالأمر لم يتوجه إلى نفس الخصوصية، وهي القيام، بل توجه إلى الصلاة القيامية.

ثالثاً: إننا حتى لو فرضنا أن مرتبة الملاك تكون في الخصوصية، أي القيام، لا في ذي الخصوصية، أي الصلاة القيامية، فاقتضى ذلك بالدقة العقلية تعلق الإرادة المولوية بالخصوصية، لا بذي الخصوصية. لكننا نقول إن صياغة الأمر بالخطاب بالخصوصية ليست صياغة عرفية.

فليس من الصياغات العرفية أن يقول المولى للعابد بعد زوال عذره: أوجد القيام في الصلاة، هذه صياغة ليست عرفية.

نعم، الصياغة العرفية إنما تكون بلسان الأمر بذي الخصوصية، بأن يقول: صلّ قائمًا. فهذه صياغة عرفية مقبولة يرتكبها العرف، حتى لو فرض كون الإرادة والحب قد تعلقت بالدقة وانصبت على خصوص الخصوصية، وهي القيام. لكن لا بأس بالتمسك بإطلاق دليل الأمر بالصلاة قائمًا لفرض ثبوت العذر في أول الوقت وزواله بعد الإتيان بالعمل الاضطراري.

إذن، التقريب الرابع للإجزاء للمحقق العراقي ليس بتام.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان لدليل الأمر الاختياري إطلاق، لكنه يقتضي عدم الإجزاء.

وقد اتضح

أن هناك وجوهاً خامسة للإجزاء:

الأول: الملازمة الثبوتية التي يراها الميرزا النائيني والسيد الخوئي.

والباقي: أربع تقريبات إثباتية.

واتضح أن شيئاً منها غير قابل للقبول عدا الوجه الثالث، وهو التقريب الثاني من التقريبات الإثباتية، أي استظهار القائم مقامية فالفعل الاضطراري كالصلاة من جلوس يقوم مقام الفعل الاختياري كالصلاة من قيام.

فإذا استظهرنا من الدليل البدلية والقائم مقامية، فإنه يتم.

هذه التقريبات الخمسة، أولاً، نفترض وجود إطلاق. ثانياً، هذا الإطلاق لا يقتضي الإجزاء، يعني هذا الإطلاق يقتضي عدم الإجزاء.

لكن لو افترضنا عدم إطلاق من هذا القبيل، يعني لا يوجد إطلاق يقتضي عدم الإجزاء. هنا يوجد فرضان:

الفرض الأول وجود إطلاق للأمر الاضطراري يقتضي الإجزاء.

الفرض الثاني وجود إطلاق للفعل الاضطراري، لا يقتضي الإجزاء ولا يقتضي عدم الإجزاء.

أما الفرض الأول: وهو أن الفعل الاضطراري يوجد له أمر قد تعلق به، فهذا الأمر مطلق ويقتضي الإجزاء. كما لو افترضنا أن الأمر منحل إلى دليلين:

الدليل الأول: هو أمر دل على أصل الفعل الاختياري بالإطلاق، كما لو قال "صلِّ"، فالأمر بالصلاة دل على الصلاة الاختيارية القيامية تمسُّكاً بإطلاق "صلِّ".

ويوجد دليل آخر: منفصل يقيد ذلك الإطلاق بقيد، كما لو قال "صلِّ عن قيام"، فقيد وجوب الصلاة بالقيام.

لكن هذا الدليل المنفصل لم يكن له إطلاق لما إذا أتى بالفعل في حالة الاضطرار، كما لو صلى من جلوس. كما هو الحال في أدلة الأجزاء والشرائط للصلاة التي لم تثبت إلا بالأدلة اللبية، كاشتراط الطمأنينة في الصلاة.

إذن، فإن إطلاق الحكم الواقعي الأولي يبقى على حاله في حق العاجز من هذا القيد، فيقتضي الإجزاء لا محالة، فعلى هذا، الفرض الأول لا كلام فيه حول الإجزاء.

الخلاصة

عندنا أمران؛

الأول "صلِّ" وهذا مطلق،

والثاني "قم في الصلاة"، لكن هذا "قم في الصلاة" ليس له إطلاق يشمل وجود عذر عن القيام. فهنا، لو صلى من جلوس، شمله الإطلاق الأول "صلِّ"، فتكون الصلاة صحيحة ومجزية، هذه الصلاة الجلوسية عن الصلاة القيامية.

الفرض الثاني: هو أن نفترض أن دليل الفعل الاختياري "صلِّ من قيام" لا يقتضي إطلاقه الإجزاء ولا يقتضي عدم الإجزاء، كما لو كان الدليل مجملاً أو لبياً لا إطلاق له. كما لو قال النبي "صلوا كما رأيتموني أصلي"[4] ، وصلى من قيام، فهذا فعل لا إطلاق له حتى ينفي صحة الصلاة من جلوس. فهذا لا يقتضي الإجزاء ولا يقتضي عدم الإجزاء.

فحينئذ، نلقى بتمامية أحد الوجوه الخمسة التي تقدم في البحث السابق، وقد التزمنا بأن الوجه الثالث تام، وهو الوجه الثاني من الأمور الإثباتية، فحينئذ يثبت الإجزاء بالدليل الاجتهادي، وهو هذا الوجه القائم مقامية أو البدلية.

وإن لم يثبت أي من هذه الوجوه الخمسة، تصل النوبة إلى الأصل العملي، فما هو مقتضى الأصل العملي إن لم يوجد إطلاق؟

ذهب صاحب الكفاية إلى أن مقتضى الأصل العملي هو البراءة عن وجوب الإعادة. وهذا ما سنبحثه في الدرس القادم إن شاء الله.


logo