46/04/23
الدرس (مائة وخمسة وثمانون): الوجه الثاني ما ذكره المحقق العراقي ـ ره ـ
الموضوع: الدرس (مائة وخمسة وثمانون): الوجه الثاني ما ذكره المحقق العراقي ـ ره ـ
الوجه الثاني ما ذكره المحقق العراقي[1] رحمه الله:
«ومفاده أن الأمر بالاستباق لو كان إلزامياً، ويوجب الإتيان فوراً للزم محذورٌ بحسب مقام ظاهر الدليل».
توضيح ذلك:
إن ظاهر قوله تعالى:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[2]
وقوله تعالى:
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[3]
إنما يفيد أن الخير والمغفرة كما يمكن أن يتحقق بالسرعة والاستباق، يمكن أن يتحقق بدونهما، كمن يأمر بالسرعة إلى شرب الماء، فإنه كما يتحقق الشرب الآن يمكن أن يتحقق الشرب بعد ساعة، ولكن المولى يلزم بالشرب الآن.
[نحوان من الوجود لسنخ المادة]
إذاً مادة الخطاب المأخوذ فيها الإسراع والاستباق سنخ مادة لها نحوان من وجود:
النحو الأول: فيمكن أن توجد بسرعة
النحو الثاني: ويمكن أن توجد ببطء وبدون سرعة
ولكن المولى يأمر بإيجادها بسرعة ومن دون بطء، مع أنه لو فرضنا أن الأمر كان إلزامياً فمعناه أن الشارع وظفنا بالعمل الفوري، وهذا بخلاف ظاهر الدليل، إذ ظاهر الدليل انحفاظ هذا الخير حتى مع عدم الإتيان به فوراً.
وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن الأمر بالمسارعة استحبابي أو إرشادي لأن الخير والمغفرة سوف يحصل على كل حال إما بالسرعة وإما بالتباطؤ.
هذا ما أفاده المحقق العراقي رحمه الله وفقاً لتقرير الميرزا هاشم الآملي رحمه الله.
وأجاب عليه الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر[4] رحمه الله.
والجواب: إن مفاد دليل الأمر بالمسارعة والاستباق يمكن أن نفهمه بأحد نحوين:
[فهم مفاد دليل الأمر بأحد نحوين]
النحو الأول الوجوب الشرطي.
النحو الثاني الوجوب النفسي.
أما النحو الأول وهو الوجوب الشرطي بحيث أن الاستباق والمسارعة قد أخذ شرطاً وقيداً في الواجبات الأولية، من قبيل قيدية الوضوء وقيدية الاستقبال للصلاة، فمعنى هذا أن الصلاة باطلة أصلاً لو أتى بها متأخراً، كما أن الصلاة باطلة لو لم يتوضأ أو لو لم يستقبل، فإذا أخذت المسارعة كشرط كشرطية الوضوء والاستقبال للصلاة، فحينئذ يكون المشروط عدم عند عدم شرطه فتبطل الصلاة عند عدم الوضوء وتبطل الصلاة عند عدم الاستقبال، كذلك لو قلنا إن المسارعة والاستباق قد أخذ كقيد في الصلاة، فمن يأتي بالصلاة متأخراً، تكون صلاته باطلة.
لكننا لا نفهم ذلك بل نفهم أن الخير موجود سواء صلى في أول الوقت أو لم يصلي في أول الوقت، لكن لو قلنا إن المسارعة والاستباق قد أخذ كقيد في الصلاة، فمعنى ذلك أن الخير كل الخير منحصرونٌ في أول الصلاة، بحيث لو أخر الصلاة لم يحصل خير أصلاً.
إذا لو كان مفاد الأمر في الدليل هو الوجوب الشرطي بهذا النحو لتم ما إدعاه المحقق العراقي رحمه الله لكننا نلتزام أن المفاد هو الوجوب النفسي، ومن هنا نشرع في بيان النحو الثاني.
أما النحو الثاني الوجوب النفسي بحيث يكون المبادرة والمسارعة واجباً آخر غير تلك الواجبات، ويبقى الواجب وهو الصلاة على إطلاقه، بحيث لو لم يصلي فوراً فصلاته أيضاً صحيحة وتقع خيراً، ولكن يفوته واجب آخر، وهو واجب الفورية والمبادرة والمسارعة إلى الصلاة، وهذا ليس منافياً لظاهر الخطاب.
فهنا عندنا واجبان:
الأول وجوب الصلاة
والثاني وجوب المبادرة والمسارعة والمسابقة
فلو تخلى عن الواجب وهو المسارعة لبقي الواجب الأول على إطلاقه وهو وجوب الصلاة.
اللهم إلا أن يقال: إن نظر المحقق العراقي رحمه الله إلى أن ظاهر الخطاب هو مجموع ما أمر به، مجموع ما أمر به الشارع وليس خصوص الواجب النفسي الذي هو الفورية والمسارعة، فهذا يعني أن مجموع ما أمر به الشارع بالإمكان أن يسارع فيه، وأن يتراخى فيه.
فلو فرض أن نفس الإسراع مما أمر به الشارع، فإذا يختل هذا الميزان لأنه يصبح ما أمر به مما لا يمكن المسارعة فيه.
لكن هذا التكليف غير صحيح إذ لا بد من فرض عدم نظر الآية إلى نفس الخير المجعول في نفس الآية، فآية «وسارعوا واستبقوا» ليست ناظرة إلى نفسها، بل ناظرة إلى الخيرات المجعولة في الآيات الأخرى، فهي ناظرة إلى الخيرات المجعولة من غير قبل نفسها، وإلا لوقع الإشكال على كل حال سواء كان هذا الخير وجوبياً أو استحبابياً، إذا الوجه الذي ذكره المحقق العراقي لا يمكن المساعدة عليه.
[المناقشة في الإستدلال بوجوه]
الوجه الرابع:
إن آية الاستباق ليس الظاهر بالإلزام بالفورية
والسر في ذلك:
التمسك بنكتة مادة الاستباق، فاستبقوا الخيرات فإن الاستباق ليس بمعنى الإسراع، بل بمعنى التسابق بين الأشخاص أنفسهم، من قبيل قوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾[5] بمعنى أن القرآن الكريم يجعل تنافساً بين المؤمنين، لكي يتسابقوا في إحراز أكبر قدر ممكن من الخيرات كما وكيفا وزمانا ومكانا، فهناك أمر بالمسابقة والتنافس.
ومن الواضح أن هذه المسابقة العامة ليست إلا مجرد ترغيب في الإكثار من الطاعات والتقليل من الشروط، فليس هناك وجوب شرعي متعلق بعنوان المسابقة، بحيث أن هذا يسبق ذاك، وإلا لا يكون ذلك قابلاً للاستباق فيما لو صلى الجميع في أول الوقت لأنه لم يسبق أحدٌ أحدا.
الخلاصة:
مادة الاستباق بنفسها قرينة عرفية على أن الأمر أمر تشريعي وليس إلزاماً شرعي، وإن توهم بأن الاستباق بمعنى الإسراع، بل معنى الاستباق هو المسابقة بين الأفراد أنفسهم وليس بمعنى المسارعة.
فآية التسابق لا تفيد المدعى هو لزوم الفور، هذا بالنسبة إلى آية المسارعة.
وأما آية المسارعة فهي إذا لم يستظهر من سياقها الإسراع التشريعي، فلا بأس إذ من الالتزام بالوجوب.
[معنى المسارعة]
لكن ما معنى المسارعة؟ هل المسارعة إلى الفعل أو المسارعة إلى المغفرة؟
يمكن أن يقال: إن وجوب الإسراع، إنما هو إلى المغفرة، ومعناه إن كل من عليه ذنب يجب عليه في أسرع وقت أن يحصل على مغفرة الله تعالى، باعتبار أن التوبة والمغفرة هي المحصل الحقاني المضمون، ومن هنا قلنا بأن وجوب التوبة فوري، وإن كان هناك محصلات أخرى للمغفرة كالاستغفار والدعاء وعمل الطاعات لكن التوبة هي المحصل العام للمغفرة.
فإذا أمكن أن يرجع عن ذنوبه ويعتمد ألا يعود فقد حصلت المغفرة، وإذا لم تتح له الفرصة وقام الدليل على شيء آخر فيجب عليه الإتيان بالشيء الآخر.
الخلاصة:
الآية ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ هو الوجوب الفوري للمغفرة إما بالتوبة أو ببدلها، وهذا خارج عن محل الكلام، محل كلامنا هل الأمر يدل على الفور أو على التراخي؟ يعني هل الأمر يدل على فورية الإتيان بمتعلقه أو لا؟ هذا بحث أجنبي.
إذاً الآيتان لا تدلان على وجوب الفورية.
أما آية المسابقة فهي تدل على رجحان التنافس في فعل الخير، وأما آية المسارعة فهي تدل على لزوم وفورية التوبة أو بدلها، وهذا خارج عن كلامنا.
إذاً الجهة الثانية ليست تامة، إذ ذكرنا وجوهاً ثلاثة.
يبقى الكلام في الجهة الثالثة، وبحثها طويل والوقت لا يتسع.
الجهة الثالثة [من مقام الإثبات لدلالة الأمر على الفور أو التراخي] يأتي عليها الكلام.