46/04/22
الدرس (مائة وأربعة وثمانون): في مقام الإثبات لدلالة الأمر على الفور والتراخي
الموضوع: الدرس (مائة وأربعة وثمانون): في مقام الإثبات لدلالة الأمر على الفور والتراخي
الجهة الثانية من مقام الإثبات لدلالة الأمر على الفور أو التراخي:
مفادها أنه لا دلالة لنفس الخطاب صلّ وأمثاله على الفور.
فقد تقدم الكلام في مقام الثبوت، واتضح أن صيغة الأمر لا تدل ثبوتاً على الفور ولا تدل على التراخي فلابد من البحث عن دلالة عامة في الشرع يمكن أن تدل على الفور إلا ما خرج بالدليل، ويمكن أن يستدل بالآيتين الكريمتين على لزوم الفور:
[الإستدلال بالآيتين على لزوم الفور]
الآية الأولى قوله تعالى:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[1]
الآية الثانية قوله تعالى:
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[2]
تقريب الاستدلال:
الآيتان الكريمتان أمرتا بالمسارعة والاستباق، ومن الواضح أن الإتيان بالمأمور به في أول وقته هو مصداق للمسارعة والاستباق فيكون ذلك واجباً.
[المناقشة في الإستدلال بوجوه]
وقد يناقش الاستدلال بالآيتين الكريمتين على وجوب الفور بوجوه:
الوجه الأول:
إن الأمر في الآيتين لو كان مولوياً لكان مقتضى القاعدة هو الوجوب، لكننا لا نسلم أنه أمر بل نحمله على أنه أمر إرشادي، فالأمر في سارعوا واستبقوا إرشادي كبقية الأوامر الإرشادية الواردة بشأن أصل الطاعة كقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾[3] فكما أن هذه الأوامر إرشادية، كذلك الأمر وفي الآيتين إرشادي.
والسر في ذلك:
أن مورد هذا الأمر وهو المسارعة والاستباق إلى الخير مما يستقل العقل بحسنه إذ يحكم العاقل بحسن المسارعة ورجحان الاستباق لتحقيق رغبات المولى، وبالتالي الأمر في الآية يكون صادراً للتنبيه والإلفات والإشارة إلى ما استقل به العقل وحكم بحسنه الذاتي، فإذا حملنا الآية على الإرشاد إلى ما استقل العقل بحسنه يكون الأمر إرشادياً لا مولوياً، وبالتالي لا يثبت الوجوب لأن الوجوب حكم شرعي إلزامي يستفاد من الأمر مولوي لا من الأمر الإرشادي.
لكن الوجه الأول قابل للمناقشة بثلاث مناقشات: فلا نحمله على الأمر الإرشادي فيبقى مولوياً فينتفي أصل الوجه الأول في مناقشة استدلال الجهة الثانية، والوجوه الثلاثة والمناقشات الثلاثة للوجه الأول من الجهة الثانية كما يلي:
المناقشة الأولى يمكن أن نمنع استقلال العقل بحسن ذلك، لأن العقل يستقل بحسن ذلك في فرض معين وهو أن تكون نسبة جميع الأفراد الطولية إلى غرض المولى على حد واحد وعلى مسافة واحدة من غرض وهدف المولى، بحيث لا يكون الفرد الأول محصلاً لمرتبة من الغرض أكثر من الحصة الثانية، وهكذا لا تكون الحصة الثانية تحصل على مرتبة من غرض المولى أكثر من الحصة الثالثة، فإذا التزمنا بأن جميع مراتب وحصص هذه الأفراد الطولية متساوية بالنسبة إلى غرض المولى يكون هذا الكلام صحيح.
لكن لو افترضنا أن خصوص المرتبة الأولى والفرد الأول من الأفراد الطولية أحب إلى المولى من الفرد الثاني أو الثالث، ففي مثل ذلك يحكم العقل بالفورية ويستقل العقل.
إذاً نحن نمنع استقلال العقل بحسن ذلك في فرض تكون فيه جميع الأفراد الطولية على حد واحد بالنسبة إلى غرض المولى بحيث لا يكون الفرض الأول محصلاً للغرض أكبر من الفرد الثاني، لكن إذا افترضنا أن الفرد الأول أقرب إلى المولى من الفرد الثاني فحينئذ ينتفي الموضوع.
نعم، لو تساوت جميع الأفراد بالنسبة إلى غرض المولى قد يقدم بعضها لعنوان ثانوي لا أولي من قبيل حسن الاحتياط كان يحتمل المكلف أن يحصل له عجز فيما بعد إذا لم يأت بالواجب الآن أو يحتمل أنه يبتلى بمزاحمات فيسرع لتنفيذ رغبات المولى قبل الابتلاء بالشواغل والمزاحمة، فحينئذ نعم هذه ترجح المبادرة والإسراع، ولكن بقطع النظر عن هذه العناوين الثانوية لو لوحظ الإسراع بما هو هو بقطع النظر عن الأمور الثانوية، وقلنا بأن نسبة الأمرين بل جميع الأوامر الطولية إلى غرض المولى على حد واحد، فحينئذ لا يستقل العقل بحسن الإسراع، ولا يحكم برجحان المبادرة والاستباق والإسراع.
خلاصة المناقشة الأولى:
إنكار الحكم بالرجحان، لأنه الوجه الأول في المناقشة مفاده حمل الأمر على الإرشادية لا المولوية، والإرشادية فرع استقلال العقل بالرجحان، في المناقشة الأولى نمنع أن يستقل العقل بالرجحان، نظراً لتساوي جميع الأفراد الطولية بالنسبة إلى غرض المولى.
المناقشة الثانية لو تنزلنا وقلنا إن العقل يحكم بالرجحان فيستقل العقل برجحان المبادرة والإسراع في الإتيان بالفرد الطولي الأول، لكن من قال أن حكم العقل بالإسراع على نحو اللزوم، بل ربما يكون على نحو الاستحباب والرجحان لا على نحو الوجوب والإلزام.
فإذا حكم العاقل برجحان المبادرة على نحو الاستحباب والرجحان لا على نحو ووجوب والإلزام فهذا لا يمنع من إعمال المولى لمولويته بوجوب الإسراع، فيأمر المولى بالأمر المولوي بالإسراع إما وجوباً أو استحباباً، لأن غاية ما يتوهم كونه مانعاً من إعمال المولوية هو كونه تحصيلاً للحاصل، فإذا استقل العقل بالوجوب كيف يأمر المولى بالوجوب وهذا تحصيل للحاصل؟ لأن المولى يأمر بالفعل ليجعله أرجح من الترك وليحدث الداعي في نفس المكلف، فحينئذ قد يتوهم أن الإسراع إلى الطاعة لما كان له رجحان ذاتي بحكم العقل إذا فلا داعي للأمر المولوي والحكم باستحبابه توصيلاً لهذا الرجحان.
نعم، لو أراد المولى الإلزام والوجوب فلا بأس لأن الإلزام والإيجاب المولوي من قبل يوجد مرتبة أعلى من الرجحان غير المرتبة الثابتة له ذاتاً، فالعقل استقل باستحباب الرجحان، والإتيان بالفرد الطولي الأول، لكن المولى ألزم بذلك بخلاف الأمر الاستحبابي فهو لا يوجد مرتبة من الإلزام إلا نفس المرتبة الثابتة ذات له لولا الأمر بالاستحباب، فيكون الأمر المولوي الاستحبابي لغواً وتحصيلاً للحاصل.
لكن هذا التوهم مدفوعٌ لأن الأمر الاستحبابي بالإسراع يكشف عن محبوبية نفسية من قبل المولى للإسراع، وبهذا يتأكد رجحانه الذاتي إذ يصبح اهتمام بالمولى بلحاظين: فأولهما بما هو إسراع في إطاعة أمره الأول، وثانياً بما هو تنفيذ لمحبوبه الثاني، فيتأكد بذلك رجحانه الذاتي ولا يكون الأمر الاستحبابي الأول.
المناقشة الثالثة والأفضل جعلها مناقشة ثانية:
لو سلم حكم العقل بحسن الإسراع بما هو فلاإشكال في أن هذا الحسن ليس بمرتبة لزومية ليحكم العقل بقبح تركه، إذا فهناك مجال ليعمل المولى مولويته ويحكم بالإلزام في المقام لأن العقل لا يحكم بالحسن بدرجة الإلزام كما هو الحال في أوامر الطاعة، بل العقل فيها يحكم بالحسن بدرجة الإلزام فلا مجال ليعمل المولى مولويته، هذا في أوامر الطاعة.
خلاصة المناقشات الثلاث:
المناقشة الأولى ننكر فيها الحكم العقلي بالرجحان، يعني ننكر استقلال العقل وحكمه بالرجحان.
المناقشة الثانية نقول: استقلال العقل لو سلمنا أنه يستقل فإنه لا يحكم باللزوم.
والمناقشة الثالثة حكم العقل لا يمنع عن أمر الاستحبابي فضلاً عن الإلزام.
هذه ثلاث مناقشات:
أولاً ننكر استقلال العقل بالرجحان.
ثانياً لو استقل العقل بالرجحان فهذا الرجحان استحبابي وليس إلزامي فلا يمنع الحكم المولوي الإلزامي نعم يمنع الحكم المولوي الاستحبابي.
ثالثاً في المناقشة الثالثة نقول من لا يمنع الحكم المولوي الإلزامي ولا الاستحبابي.
هذا تمام الكلام في الوجه الأول بمناقشاته الثلاث.
[المناقشة في الإستدلال بوجوه]
الوجه الثاني:
أن الأمر في الآيتين:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[4]
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[5]
وإن كان مولوياً، لكن يحمل على الاستحباب بلحاظ القرينة، وهي أن الحمل على الوجوب يلزم منه تخصيص الأكثر[6] .
وتخصيص الأكثر مستهجن عند العرف، إذ ثبت بالدليل أنه لا يجب الفور في الواجبات، وكذلك لا يجب الفور في المستحبات، بخلاف الحمل على الاستحباب، فلا بأس به في جميع الموارد، وقد بنى على هذا الوجه السيد الخوئي[7] رحمه الله.
[هذا الوجه لايتم على مبنى السيد الخوئي والنائيني]
والغريب العجيب أن هذا الوجه لا يتم على مبنى السيد الخوئي والميرزا النائيني لأنهما يريان أن استفادة الوجوب من صيغة الأمر ليس بالوضع، وإنما بحكم العقل، وحكم العقل معلق على عدم ورود ترخيص، فإذا قلنا إن دلالة صيغة الأفعال على الوجوب بحكم العقل وليس باللفظ والوضع، فلا يلزم تخصيص الأكثر، إذ يقال: إن هذا الأمر يجب بحكم العقل ما لم يرد ترخيص بخلافه.
وقد ورد ترخيص في أكثر موارده إذا ما ورد فيه الترخيص يبنى فيه على عدم الوجوب وما لم يرد فيه ترخيص يبنى فيه على الوجوب، وليس هذا تخصيصاً للأكثر هذا يصير تخصص لأن الوجوب ليس مدلول لفظياً للخطاب حتى يلزم إخراج عدم الوجوب منه، وإنما الوجوب حكم عقلي معلق على عدم مجيء الترخيص، فلا يتم هذا البيان على مسلك حكم العاقل للسيد الخوئي والميرزا النائيني.
نعم، هذا إشكال تخصيص الأكثر يرد على مبنانا ومبنى الشهيد الصدر من أن الوجوب مدلول لفظي يستفاد من الوضع، فيقال بأن صيغة الأمر لو كانت مستعملة في معناها الوضعي للزم تخصيص الأكثر إذ لا وجوب في أكثر الموارد.
وهذه ثمرة من ثمرات التي فيها فارق بين مسلك السيد الخوئي ومسلك الميرزا النائيني رضوان الله عليهما.
هذا تمام الكلام في الوجه الأول والثاني، واتضح عدم تماميتهما.
الوجه الثالث للمحقق العراقي، يأتي عليه الكلام.