< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/10/21

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس مائة واثنان وستون: المقام الثاني الإطلاق المقامي

 

انتهينا بحمد الله عزّ وجل من الإطلاق اللفظي، وذكرنا أربعة مسالك، وقلنا على المسالك الثلاثة الأوال إذا شككناه في أن الواجب تعبدي أو توصلي أمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لإثبات التوصلية ونفي التعبدية.

نعم، على المسلك الرابع لصاحب الكفاية هو مسلك المشهور الذي يرى دخالة قصد القربة في الغرض فإنه لا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لإثبات التوصلية ونفي التعبدية بناءً على مسلك الشهيد الصدر وبعض المسالك، وإن أمكن التمسك به بناءً على مسالك أخرى.

ومن هنا نقول: لو تنزلنا وقلنا إنه لا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي، فهل حينئذ يمكن التمسك بالإطلاق المقامي لإثبات التوصلية ونفي التعبدية أو لا؟

يوجد تقريبان لإثبات الإطلاق المقامي:

التقريب الأول للمحقق العراقي وهو برهان استحالة نقض الغرض[1] ، وقد ذكر في هذا التقريب أمران نصّ المحقق العراقي على خصوص الأمر الأول في كتابه[2] ولم يذكر الأمر الثاني، ويمكن استفادة الأمر الثاني بنحو من التشويش في العبارة في تقريره الآخر[3] .

ومفاد التقريب الأول إن قصد القربان لو كان دخيلاً في غرض المولى لوجب على المولى بيان قصد القربة وإذا لم يمكنه بيانه بجملة إذا التزمنا باستحالة أخذ قصد الأمر وقصد القربة في متعلق الأمر فحينئذ يجب على المولى أن ينبه على غرضه ولو بجملة خبرية، فإذا لم يخبر المولى عن اشتراط قصد القربة، وكان قصد القربة دخيلاً في غرضه فإنه يلزم من عدم الإخبار ومن هذا الإطلاق نقض الغرض، وهو قبيح عند العقلاء.

إذاً برهان المحقق العراقي هو عبارة عن لزوم نقض الغرض إذا كان قصد القربة والوجه دخيلاً في غرضه ولم ينص عليه.

وهذا التقريب يتوقف ثبوت أحد أمرين:

الأمر الأول أن يقال إن قصد القربة من القيود المغفول عنها ولا يلتفت العرف إليها عادةً ولا تخطر على بال العرف لدقة هذا الأمر، فإذا قيل لأهل العرف: تصدقوا، ساعدوا الفقير، اعملوا كذا، فإنه لا يخطر على بالهم اشتراط نية قصد القربة في مساعدة الآخرين والتصدق على المحتاجين.

فلو كان قصد القربة دخيلاً في غرض المولى، وسكت عنه المولى، ولو بنحو الإخبار، فالناس حينئذ بحسب طبعهم سوف لا يلتزمون به، إذ لا يخطر على بالهم قصد القربة في غرض المولى، وبهذا يفوت غرض المولى، فيلزم من عدم ذكره نقض غرضه.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

الأمر الثاني لو قلنا أن قصد القربة يلتفت إليه العرف وأنكرنا ما جاء في الأمر الأول من أن عموم الناس لا تلتفت إليه بل التزمنا بخلاف ذلك وتنزلنا جدلاً، وقلنا: إن قصد القربة وقصد الوجه من العناوين التي يلتفت إليها العرف، فحينئذ نقول: لو شككنا في دخالة قصد القربة في الغرض، فما هو الأصل العملي الذي يجري في المقام؟ هل هو أصالة الاشتغال أو أصالة البراءة؟

مفاد الأمر الثاني أن الأصل العملي الذي يجري في المقام هو أصال البراءة وليس أصالة الاشتغال، فإذا تم أحد هذين الأمرين تم البرهان، وإلا إن لم تتم إحدى المقدمتين أو الأمرين فلا يلزم من عدم الإخبار بقصد القربة نقض الغرض إذ لو كان قيد القربة مما يلتفت إليه الناس عادةً، وهذا خلاف المقدمة الأولى.

وكان الأصل العملي الذي يجري عند الشك فيه هو أصالة الاشتغال خلافاً للمقدمة الثانية التي تقول بجريان البراءة.

فحينئذ يمكن للمولى أن يسكت ويأتي بكلام مطلق، ويقول: تصدق وساعد الآخرين، ولا يذكر قصد القربة اتكالاً على أن عموم الناس سيلتفتون إلى اشتراط قصد القربة، ولو شكوا باشتراط قصد القربة فإنهم سيجرون أصالة الاشتغال فيمكن للمولى أن يعلول على أصالة الاشتغال.

فيعول أولاً على التفات الناس خلافاً للأمر الأول.

وثانياً لو شكوا فإنه يعول على أصالة الاشتغال خلافاً للمقدمة الثانية.

لكن لو ثبت الأمر الأول فقط وهو أن الناس لا يلتفتون عادةً إلى قصد القربة ولم يذكره المولى، فحينئذ إذا لم يذكر ولو بنحو الإخبار يلزم نقض الغرض.

ولو التفت الناس إلى قصد القربة لكن عند الشك نلتزم بجريان البراءة الشرعية، فحينئذ إذا المولى جاء بكلام وأطلق ولم يذكر قصد القربة فإنه قد غرر بالناس ولزم من عدم ذكر قصد القربة إذا كان دخيلاً في غرضه يلزم نقض الغرض لأن الناس ستجري أصالة البراءة.

لاحظ دقت المحقق العراقي..

أتذكر في درس أستاذنا آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخرساني إذا يذكر مباني المحقق العراقي ويشكل طالب يقول له: اصبر لا تستعجل هذا المحقق العراقي ـ رحمه الله ـ .

إلى هنا اتضح التقريب الأول للإطلاق المقامي، وهو يتكئ على برهان استحالة نقض الغرض، ومفاد الإطلاق المقام أن المولى في مقام بيان غرضه، فلو كان قصد القربة دخيلاً في غرضه لوجب عليه بيانه ولو بنحو الإشارة ولو بالجملة الخبريةن فإذا لم يبين لزم نقض الغرض.

ويرد على التقريب الأول اعتراضان مهمان دقيقان:

الاعتراض الأول إن هذا البيان يتيم لو أحرزنا عدم بيان المولى لدخل قصد القربة بشكل مطلق، وفي الغالب نحن لا نحرز ذلك، وغاية ما نحرزه أن شخص هذا الدليل كالآية أو الرواية الأمرة بالعمل الفلاني لم تتضمن ذكر دخل قصد القربة في الغرض، لكننا نحتمل أنه سابقاً أو لاحقاً في وقت آخر قد ذكر اشتراط قصد القربة ولم يصل إلينا.

 

وبعبارة دقيقةٍ عميقة: فرقٌ بين السكوت المطلق ومطلق السكوت.

أما السكوت المطلق فهو أن نبحث كلمات المولى من بدايتها إلى نهايتها ولا نجد المولى في عبارة واحدة قد ذكر اشتراط قصد القربة فهذا سكوت مطلق يعني سكوت عن ذكر اشتراط قصد القربة مطلقاً.

فالسكوت المطلق يحقق برهان نقض الغرض للمحقق العراقي يعني تامٌ كبروياً، لكننا لا نحرزه صغروياً أنا لنا أن نحرز أن الشارع المقدس في جميع كلماته لم يذكر اشتراط قصد القربة في التصدق أو مساعدة الناس؟!

إذاً مفاد الإشكال الأول إنما ذكره المحقق العراقي تامٌ كبروياً، وليس بتامٍ صغروياً، فأنى لنا أن نحرز السكوت المطلق، لكن ما بأيدينا مطلق السكوت، يعني هذه الآية الأمرة بالتصدق ساكتة عن اشتراط قصد القربة، وشخص هذه الرواية ساكتٌ، وشخص هذا الدليل ساكتٌ عن ذكر قصد القربة هذا مطلق السكوت، ومن قال إن مطلق السكوت وإن أي سكوتٍ ينفي اشتراط قصد القربة.

إذاً لاحظ معي:

السكوت المطلق يحقق تقريب لزوم واستحالة نقض الغرض، لكننا لا نحرزه صغروياً، ومطلق السكوت محرزٌ لكنه لا يؤدي إلى استحالة نقض الغرض.

الاعتراض الثاني إنما ذكره المحقق العراقي يختص بخصوص الشرط الواقعي ولا يشمل الشرط الذكري، وبحثنا يشمل مطلق الشروط واقعية كانت أو ذكرية.

بيان ذلك يتوقف على بيان مقدمة في تقسيم الشروط إلى قسمين:

القسم الأول الشرط الواقعي، كاشتراط الصلاة بالاستقبال والطهارة، فلو غفل المكلف ولم يتوضأ أو لم يغتسل أو التفت إلى أنه قد صلى مستدبراً للقبلة فإنه يجب عليه أن يعيد الصلاة لأن شرط الطهارة والاستقبال من الشروط الواقعية تجب على الملتفت والغافل معه.

القسم الثاني الشروط الذكرية العلمية، كاشتراط طهارة لباس المصلي، فلو صلى المصلي وانفتل من صلاته والتفت أن ثيابه كان فيها دم فإن صلاته صحيحة، لأن اشتراط الطهارة في لباس المصلي ليست واقعية وإنما ذكرية وعلمية.

وهكذا في الجهر والإخفات لو جهر في موضع الإخفات كما لو جهر في صلاة الظهر أو أخفت في موضع الجهر كصلاة الصبح والعشاء فإنه مغتفرٌ.

وهكذا في القصر والتمام لو سافر وصلى تماماً لجهله فإنه لا يريد الصلوات ويجتزأ بالصلاة التي جاء بها تامة.

إذاً الشرط إما ذكري وإما واقعي.

إذا تمت هذه المقدمة نقول في الاعتراض الثاني: إنما أفاده المحقق العراقي ـ رحمه الله ـ يفيد في خصوص ما إذا كان قصد القربة شرطاً واقعياً، ولا يفيد لو التزمنا أن قصد القربة شرطاً ذكرياً، ونحن ما نريد إثباته مطلق الاشتراط، مطلق اشتراط قصد القربة، سواء كان واقعياً أو ذكرياً.

فبرهان المحقق العراقي إنما يبرهن على أن قصد ليس شرطاً واقعياً أي دخيلاً في الغرض على الإطلاق إذ لو كان كذلك لكان ترك ذكره نقضاً للغرض لغفلة عامة الناس عنه، لكن يبقى احتمال كونه شرطاً ذكرياً كبعض الشروط الآخرى التي تكون شرطاً عند التذكر والالتفات.

فإذا التزمنا أن قصد القربة شرط ذكري وعلمي لم يكن ترك بيانه نقضاً للغرض، لماذا؟

لأن المكلف إما متذكر وملتفت وإما غافل، فإذا كان غافلاً فإنه لا يجب عليه قصد القربة، وإذا كان ملتفتاً تصوراً ففي هذه الحالة يجب عليه أن يأتي بقصد القربة، فمع تصور المكلف لتقييد الواجب بقصد القربة في هذه الحالة يجب عليه أن يأتي بقصد القربة، فحينئذ نقول هكذا:

هذا المولى ـ لاحظ جيداً دقة في المناقشة ـ قال: تصدق، ولم يذكر اشتراط قصد القربة، والمكلف المستمع إما غافل فلا يجب عليه أن يأتي بقصد القربة، وإما ملتفت وغاية ما يصل إليه الملتفت أن يشك، وإذا شك يجري أصالة الاشتغال فيأتي بقصد القربة، فحينئذ إذا سكت المولى عن بيان اشتراط قصد القربة فلعله عول على أصالة الاشتغال التي سيعمل بها المكلف عند تذكره، فلا يلزم من عدم ذكر المولى نقض الغرض.

إذاً التقريب الأول ليس بتام.

التقريب الثاني تامٌ وصحيح فتكون النتيجة كما يجوز التمسك بالإطلاق اللفظي كذلك يجوز التمسك بالإطلاق المقامي لنفي التعبدية وإثبات التوصلية.

التقريب الثاني التمسك بظهور حال المولى في أنه في مقام بيان تمام غرضه.

تقريب ذلك:

إن المولى لو قال: صل، فظاهر حاله أنه في مقام بيان تمام ما يأمر به، فإذا كان يريد قصد القربة، ولم يذكر قصد القربة، فحينئذ يكون لم يأت بتمام غرضه.

هذا غير إشكال استحالة نقض الغرض، هذا التمسك بظاهر حال المولى أنه في مقام بيان تمام غرضه ولا يقتصر بيان تمام غرضه على المدلول المطابقي بل قد يلجأ إلى المدلول التزامي أو الإخبار عن ذلك، المهم ظاهر حال المولى أنه في مقام بيان تمام مراده.

فلو كان من مراده قصد القربة، ولم يبينه ولو بأخبار، فهذا يتنافى مع ظهور حاله من أنه في مقام بيان تمام غرضه.

الخلاصة:

نتمسك بهذا الظهور اسمه «الإطلاق المقامي» يعني كون المولى في مقام بيان تمام مراده، فلو كان من مراده قصد القربة ولم يبينه لزمت المنافاة مع هذا الظهور، وبالتالي إذا قال المولى: «تصدق» وشككنا وجوب الصدقة واجب توصلي أو تعبدي؟! حينئذ يمكن أن نتمسك بالإطلاق المقامي نقول: المولى في مقام بيان تمام مراده، ولو كان يشتر قصد القربة لبين واشترط، وحيث لم يشترط إذا ليس من مراده.

هذا تمام الكلام في المسألة الأولى.

قلنا في الواجب التعبدي والتوصلي نبحث مسألتين:

المسألة الأولى الأصل اللفظي، والمسألة الثانية الأصل العملي.

في المسألة الأولى تطرقنا إلى مقامين:

المقام الأول التمسك بالإطلاق اللفظي.

والمسألة الثانية التمسك بالإطلاق المقامي.

وقد اتضح أنه على مبنانا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي وبالإطلاق المقامي، وسيتضح أيضاً حتى يمكن التمسك بالأصل العملي لإثبات التوصلية ونفي التعبدية.

الأصل العملي يأتي عليه الكلام.


[1] بدائع الأفكار، ج1، ص236 إلى 239، تقرير الميرزا هاشم الآملي لبحث المحقق العراقي.
[2] مقالات الأصول، ج1، ص241، طبعة مجمع الفكر الإسلامي.
[3] نهاية الأفكار، ج1، ص199، تقرير الشيخ محمد تقي البروجردي لبحث المحقق العراقي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo