< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

45/10/15

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس مائة وثمانية وخمسون: الأصل في الواجبات هو الواجب التوصلي لا التعبدي

 

انتهينا بحمد الله عز وجل من بيان حقيقة الواجب التعبدي والفرق بين وبين الواجب التوصلي وقلنا أن الواجب التعبدي هو ما اشترط فيه قصد القربة بخلاف الواجب فهو ما أريد منه التوصلي إلى الفعل من دون اشتراط قصد القربة.

ومن هنا يقع الكلام إذا شك المكلف في كون الواجب أنه تعبدي مشروط بقصد القربة أو توصلي لا يشترط فيه قصد القربة، فما هو مقتضى الأصل؟

ومن هنا يقع الكلام في مسألتين:

المسألة الأولى مقتضى الأصل اللفظي.

المسألة الثانية مقتضى الأصل العملي.

ولنشرع في المسألة الأولى وهي مقتضى الأصل اللفظي، ويراد به الإطلاق.

والكلام في الأصل اللفظي يقع في مقامين:

المقام الأول الإطلاق اللفظي.

المقام الثاني الإطلاق المقامي بعد فرض عدم وجود الإطلاق اللفظي.

وإذا لم يثبت لا الإطلاق اللفظي ولا الإطلاق المقامي تصل النوبة إلى مقتضى الأصل عملي، وسيتضح إن شاء الله تعالى أن الصحيح في جميع هذه الموارد أن الأصل في الواجب هو الواجب التوصلي لا التعبدي، هذا هو مقتضى الإطلاق اللفظي أولاً والإطلاق المقام ثانياً والأصل العملي ثالثاً.

ومن هنا نقنن هذه القاعدة الأصل في الواجبات أنها واجبات توصلية وإثبات أنها تعبدية يحتاج إلى دليل وقرينة.

وهذا ما ذهب إليه أعلام العصر الثلاثة:

إمام الأمة السيد روح الله الموسوي الخميني[1] ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ .

والسيد أبو القاسم الخوئي[2] ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ .

وشهيد العصر السيد محمد باقر الصدر ـ رضوان الله عليه ـ في تقريراته الثلاثة[3] .

فقد ذهب الأعلام الثلاثة إلى أن مقتضى الأصل اللفظي هو التوصلية لا التعبدية، وهذا هو الرأي المشهور بين الأصوليين، وقد خالف في ذلك مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة الشيخ عبد الكريم الحائري ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ فقد كان يرى مذهب المشهور وعدل عنه في آخر عمره وذهب إلى أن الأصل في الواجبات هو التعبدية لا التوصلية، وما هو موجود في في كتابه درر الفوائد الشيخ عبد الكريم الحائري صفحة مئة هو رأيه القديم من أن الأصل هو التوصلية.

ولنقرأ نصّ ما ذكره السيد الإمام الخميني ـ رضوان الله عليه ـ على لسان وتقرير تلميذه السيد اللنگرودي في جواهر الأصول للجزء الثاني صفحة مئتين وستة إذ قال ما نصّه:

«وأما مقال شيخنا العلامة الحائري ـ قدس سره ـ فهو أنه ـ قدس سره ـ بعدما كان قائلاً بأصالة التوصلية عند الشك وفاقاً لما عليه القوم عدل عنها في أخريات عمره الشريف، فقال: بأصالة التعبدية ومهد لذلك لم يكن بعضها صحيحة عنده من ذي بعد، ولكن ساعده الاعتبار أخيراً».

كما استشكل المحقق العراقي ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ في التمسك بالإطلاق لإثبات التعبدية[4] .

فينتج كما يقول السيد الإمام «فينتج أن الأصل في الأمر كون الواجب تعبدياً»[5] .

ومن هنا نشرع في المقام الأول من المسألة الأولى.

المقام الأول في الإطلاق اللفظي وهو أنه إذا شككنا في أن الواجب تعبدي أو توصلي فحينئذ هل يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لإثبات التوصلية ونفي التعبدية، فيما لو قال المولى: «اغسل ثوبك» وشككناه في اعتبار واشتراط قصد القربة وعدم اعتباره؟ أو أنه لا يمكن نفي التعبدية بالإطلاق؟

الجواب يختلف باختلاف المباني والمسالك، ومن هنا نذكر أربعة مسالك يختلف الجواب باختلاف المبنى:

المسلك الأول مسلك السيد الإمام الخميني[6] والسيد أبو القاسم الخوئي[7] .

ومفاد هذا المسلك الأول إن أخذ القربة قيداً في متعلق الأمر معقولٌ خلافاً لمشهور المتأخرين من الأصوليين الذين قالوا باستحالة أخذ قصد الأمر أو قصد القربة في متعلق الأمر.

والصحيح عندهما وعندنا أنه لا برهان على الاستحالة لأن حقيقة الأمر التعبدي ثبوتاً هو عبارة عن الأمر المتعلق بالفعل مع قصد القربة كما أن حقيقة الأمر التوصلي هي الأمر المتعلق بذات الفعل على الإطلاق من دون اشتراط قصد القربة وأخذه في المتعلق.

فبناءً على هذا المسلك وهو إمكان وجواز التقييد بقصد القربة لا إشكال في جواز تمسك بإطلاق المادة لنفي اعتبار قصد القربة لأن حال اشتراط قصد القربة حال بقية القيود والأجزاء والشرائط المشكوك، فكما ينفى اشتراط تعدد الغسل بواسطة الإطلاق كذلك ينفى اشتراط قصد القربة بالإطلاق، وبذلك يثبت كون المأمور به توصلياً لا تعبدياً، فلو كان تعبدياً لأخذ قصد القربة في متعلق الخطاب وحيث أنه لم يؤخذ تجري مقدمات الحكمة لاستكشاف كون الأمر توصلياً.

الخلاصة:

الواجب التوصلي ما يراد منه التوصلي إلى الفعل بخلاف الواجب التعبدي ما يراد منه التوصلي إلى الفعل أخذ قيد قصد القربة فإذا جاء أمر صلّ صم اغسل اغتسل ولم يؤخذ فيه قيد اشتراط قصد القربة فحينئذ نحمله على الواجب التوصلي إذ لو كان تعبدياً لقيد وقيل اغسل مع قصد القربة اغتسل مع قصد القربة وحيث لم يذكر فهو غير مطلوب.

هذا تمام الكلام بناءً على المسلك الأول مسلك السيد الخوئي والسيد الإمام الخميني وهو يثبت أصالة التوصلية.

المسلك الثاني مسلك الشهيد الصدر في تمييز حلق الأمر التعبدي عن الأمر التوصلي فهو يرى أن الأمر التعبدي والتوصلي كلهما يتعلق بذات الفعل ولكن الأمر التعبدي سنخ أمر يشتمل على أوامر تجددية تعاقبية بينما الأمر التوصلي أمر واحد متعلق بذات الفعل وإذا أتى به المكلف فإن الأمر يسقط لا إلى بدل بخلاف الأمر التعبدي فإذا أتى به المكلف وأتى بالفعل من دون قصد القربة فإنه يسقط إلى بدل وهي الأوامر المتجددة والمتعاقبة.

هذا هو مسلك الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ رحمه الله ـ ، وبناء هذا المسلك يثبت أن الأصل هو التوصلية لا التعبدية إذ أنه إذا شككناه في أن الواجب تعبدي أو توصلي أمكن التمسك بإطلاق الخطاب لنفي التعبدية وإثبات التوصلية، وذلك بأحد تقريبين وبيانين:

البيان الأول أن يقال بأن قصد الأمر وإن كان لا يعقل أخذه في متعلق الأمر ثبوتاً ولكن يمكن أخذ قصد الأمر قيداً إثباتاً فالتقييد الإثباتي أمرٌ معقول وصحيح لأن عرف المتحاورين جارٍ على إمكان تقييد الفعل بقصد القربة، فالقيدية الإثباتية بنفسها تكون بياناً عرفاً لتلك النكتة الغامضة المجملة ارتكازاً في أذهان الناس، وما هي هذه النكتة؟

إنها نكتة الأمر التعبدي التجددي التعاقبي فحيثية تجدد الأوامر للأمر التعبدي هذه تحتاج إلى قرينة والبيان العرفي لهذه القرينة هو عبارة عن لسان التقييد فالمتعارف بين الناس هو لسان التقييد لا لسان التجديد.

بناءً على هذا لو جاءنا أمر صل اغسل وليس فيه تقييد وليس فيه ما يدل على التقييد باشتراط قصد القربة فحينئذ يمكن التمسك بالإطلاق ومقدمات الحكمة لأن تقييد متعلق الأمر بقصد القربة ثبوتاً ولباً وإن كان مستحيلاً بنظر الشهيد الصدر ولكن تقييده إثباتاً وبياناً ليس أمراً مستحيلاً.

ومن هنا يجري العرف مقدمات الحكمة، فيقول: إن المتكلم حكيم وفي مقام البيان ولو أراد التقييد لقيد وحيث لم يقيد فحينئذ نتمسك بالإطلاق فتثبت التوصلية لا التعبدية.

هذا تمام الكلام في البيان الأول والتقريب الأول للشهيد الصدر وفيه نكتة التقييد وإمكان التقييد إثباتاً وإن لم يمكن ثبوتاً.

البيان الثاني بناءً على مسلك الشهيد الصدر لو تنزلنا عن هذه الدعوة التي ادعاها وهو أن العرف يقيد وهو أن التقييد الإثباتي بيان عرفي للتجدد والعرف بدل نكتة تجدد الأوامر المتعاقبة يستعيض بتقييد الأوامر بقصد القربة، وافترضنا أن الإنسان العرفي ملتفت إلى هذه النكتة وأنه لا يعقل التقييد إثباتاً، فالعرف قد التفت إلى أن الأمر أمر تجددي والأمر التواصلي أمر غير تجددي فحينئذ يمكن للعرف أن يتمسك بالإطلاق لنفي التجددية نظراً لأن نفس التجددية مؤونة زائدة لا يفي الإطلاق بإثباتها فمرجع الأمر التعبدي إلى اشتمال الخطاب على أوامر متعددة متعاقبة.

فإذا جاءنا خطاب قد اشتمل على أمر بالفعل وليس فيه ما يدل على وجود أوامر تجددية تعاقبية وشككنا في وجود أوامر تجددية تعاقبية أو لا؟ كان مقتضى الأصل الأولي أنه لا يوجد، فنحمل الأمر على الأمر التوصلي دون الأمر التعبدي.

واضح الفارق بين البيانين؟

البيان الأول تمسك بنقطة بنكتة إمكان تقييد الخطاب إثباتاً.

البيان الثاني ينكر إمكان التقييد لكن يركز على تجدد الأوامر وتعاقبها.

هذا تمام الكلام على المسلك الثاني ومنه يتضح أنه بناء على مسك الشهيد الصدر الأصل هو التوصلية لا التعبدية.

المسلك الثالث إذا بنينا على مسلك يفصل بين قصد القربة وبين جامع قصد القربة، فهذا المسلك يرى استحالة أخذ قصد القربة وقصد الأمر في متعلق الأمر فهو غير معقول، ولكنه يرى إمكان أخذ جامع قصد القرب في متعلق الأمر فأخذ شخص قصد القربة مستحيل بينما أخذ جامع قاصده القربة ممكن ومعقول.

ونتيجة هذا المسلك أيضاً جواز التمسك بالإطلاق لنفي التعبدية وإثبات التوصلية، فنتيجة المسلك الثالث كنتيجة المسلك الأول والثاني، فلو قال المولى: صل أو اغسل ولم يقيد بجامع قصد القربة فحينئذ يمكن أن ننفي اعتبار واشتراط قصد القربة بجامعه، وتكون النتيجة: أن الأمر توصلي وليس تعبدياً.

بيان ذلك:

يوجد هنا احتمالان:

الاحتمال الأول نفي اعتبار جامع قصد القربة، ومن الواضح أنه ممكنٌ والمولى إذا لم يأخذ ولم يشترط جامع قصد القربة ولم يأخذه إثباتاً فإنه يدل بمقدمات الحكمة على عدم أخذه ثبوتاً فتثبت التوصلية دون التعبدية.

الاحتمال الثاني نفي اعتبار خصوص شخص الأمر لا جامع الأمر فإن شخص قصد الأمر وإن كان لا يمكن أن يؤخذ ثبوتاً بناء على المسلك الثالث لكن المتكلم لو كان يريد قصد القربة لاستعاض عن أخذ شخص الأمر بأن أخذ جامع الأمر الذي هو ممكن، فإذا كان المتكلم في مقام البيان فلابد للمولى من تضييق المادة بحيث يجعلها أقرب إلى غرضه وذلك بأن يأخذ قيد جامع قصد القربة فيقول: «توضأ بنية حسنة».

فإذا لم يأخذ جامع القربة فهذا يكشف عن أن جامع قصد القربة ليس دخيلاً في غرض المولى والمتكلم.

وبالتالي هذا المولى الخلاصة:

هذا المولى إما يذكر شخص قصد القربة، وإما يذكر جامع قصد القربة.

أما ذكر شخص قصد القربة هذا لا يمكنه فإنه غير معقول، وأما جامع قصد القربة فلم يذكره وإن كان معقولاً فإذا جاءنا خطاب ولم يذكر فيه لا جامع القربة ولا شخص القربة فهذا يثبت التوصلية دون التعبدية لأنه لم يذكر جامع قصد القربة المعقول مما يكشف عن عدم إرادته التقييد بجامع قصد القربة، ولو كان في غرضه اعتبار واشتراط شخص قصد القربة فإنه يعلم أنه ثبوتاً لا يمكن التقييد بشخص قصد القربة فلابد من أخذ ممدوحة ووسيلة أخرى لتحقيق غرضه وهي التقييد بجامع قصد القربة، وحيث لم يقيد إذا هو لم يرد.

فتكون نتيجة المسلك الثالث أن الأصل في الواجبات هو التوصلية لا التعبدية وإثبات التعبدية يحتاج إلى مؤونة زائدة.

يبقى الكلام في المسلك الرابع مسلك صاحب الكفاية، وفيه كلام طويل يأتي عليه الكلام.


[1] جواهر الأصول، تقرير السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي، ج2، ص203، وهذا الدورة الثالثة والأخيرة للإمام الخميني ـ رض ـ.
[2] محاضرات في أصول الفقه، تقرير الشيخ محمد إسحاق الفياض، ج43 من موسوعة الإمام الخوئي، ص547.
[3] تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول، ج4، ص276.تقرير أستاذنا السيد كاظم الحائري، مباحث الأصول، ج2، ص199.تقرير أستاذنا السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، بحوث في علم الأصول، ج2، ص96.
[4] بدائع الأفكار، ج1، ص236، تقرير الميزرا هاشم الآملي، لبحث المحقق العراقي.
[5] جواهر الأصول، ص205.
[6] جواهر الأصول، الإمام الخميني، ج2، ص203.
[7] محاضرات الفياض، ج2، ص161 و 172 و 184 و 188 من الطبعة القديمة.وج43 من موسوعة السيد الخوئي، ص400 و 547 من الطبعة الحديثة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo