« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/11/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثمانون): الاستثناء الثاني التحيز إلى فئة في الحرب

الموضوع: الدرس (الثمانون): الاستثناء الثاني التحيز إلى فئة في الحرب

قلنا: يحرم الفرار من المعركة إذا كان العدو ضعف المسلمين أو أقل من ذلك.

ويستثنى من ذلك أمران:

الأمر الأول: التحرف للقتال، أي إعادة التموضع وجعل القتال في المعركة بنحو أفضل بالنسبة له.

الأمر الثاني: التحيز إلى فئة في الحرب لنصرته ولتقويته، فإذا أحس أنه ضعيف ويحتاج إلى الاستقواء بفئة من المسلمين، فحينئذٍ يجوز له أن يتحيز إليهم فيخرج من المعركة للاستنجاد والاستقواء بجماعة من النار، سواء كانت الجماعة قليلة أو كثيرة.

كما في "تحرير الأحكام" للعلامة الحلي[1] ، و"شرح الإرشاد" (إرشاد الأذهان)[2] و"قواعد الأحكام"[3] و"الشهيد الثاني" في "الروضة البهية"[4] و"الشيخ الطوسي" في "المبسوط"[5] و"العلامة" في "تذكرة الفقهاء"[6] و"كشف الغطاء"[7] .

فهؤلاء الأعلام نصوا على أن الفئة سواء كانت قليلة أو كثيرة، فحينئذٍ يجوز التحرف، لكن هذا الإطلاق هو المستفاد من ظاهر الآية الكريمة في سورة الأنفال، الآية ستة عشرة، إذ قالت: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾[8] ، ولم تقيدها بأنها كثيرة، فمقتضى إطلاق التحيز إلى الفئة شمول مطلق الفئة، المهم أن يستعين بها، سواء كانت قليلة أو كثيرة.

وهذا هو أيضًا ظاهر المحقق الحلي في "المختصر النافع"[9] والعلامة الحلي في "تبصرة المتعلمين"[10] والشهيد الأول في "اللمعة الدمشقية"[11] و"الدروس الشرعية"[12] .

سؤال: هل يشترط أن تكون هذه الفئة قريبة من المعركة؟ فلا يشمل الفئة البعيدة، فلربما يصدق عليه الفرار من المعركة إذا تحرف إلى فئة بعيدة.

الجواب: لا فرق بين كون الفئة قريبة أو بعيدة، المهم أن لا يصدق عليه عنوان الفرار من الحرب، كما صرح به جماعة كالفاضل المقداد السيوري في "التنقيح الرائع لمختصر الشرائع"[13] ، والمحقق الكركي في "فوائد الشرائع"[14] ، والشهيد الثاني في "الروضة البهية"[15] .

وبعض الفقهاء ذكر الفئة مطلقًا ولم ينص على اشترط أن تكون الفئة قريبة، بل ذكر التحيز إلى فئة وأطلق، ولم يُشترط أن تكون قريبة، كالشيخ الطوسي في "المبسوط"[16] والعلامة الحلي في "تحرير الأحكام"[17] .

وينزل هذا الإطلاق على ما أفدناه وهو أنه لا فرق بين الفئة البعيدة والفئة القريبة، والمهم أن لا يصدق معها عنوان الفرار من الحرب.

وقد ادعى فخر المحققين في "إيضاح الفوائد" في شرح القواعد[18] ، أن مطلق البعد مخل بالمقصود ومبطل لصورة الجهاد، وهذا احتمال ذكره فخر المحققين في الإيضاح.

لكن هذا الاحتمال واضح المنع إذ أنه ليس على إطلاقه، فمن قال إن مطلق البعد مبطل للجهاد ومخل بالمقصود وهو القتال، بل أحيانًا اللجوء إلى فئة بعيدة أقوى لشوكة المسلمين في المعركة، فلا فرق بين القرب والبعد، والمهم أن لا يصدق عنوان الفرار من المعركة.

نعم، يشترط كون الفئة صالحة للاستنجاد ولو بالانضمام، فلو كانت الفئة من المرضى أو المقعدين أو المشلولين، فحينئذٍ بأي أساس يستنجد بهم وهم يحتاجون إلى النجدة؟!.

وقد صرح باعتبار كون الفئة صالحة وقابلة للاستنجاد العلامة الحلي في "قواعد الأحكام"[19] والمحقق الثاني الشيخ علي بن عبد العالي الكركي في "جامع المقاصد"[20] وفي كتابه الآخر "فوائد الشرائع"[21] والشهيد الثاني في "مسالك الأفهام"[22] و"الروضة البهية"[23] والفاضل المقداد السيوري في "التنقيح الرائع لمختصر الشرائع"[24] .

وعلى هذا، وهو صلاحية الاستنجاد، ينزل إطلاق المحقق صاحب "الشرائع" في كتابه "المختصر النافع"[25] والعلامة الحلي في "التبصرة"[26] و"إرشاد الأذهان"[27] و"تحرير الأحكام"[28] والشهيد الأول في "الدروس الشرعية"[29] و"اللمعة الدمشقية"[30] .

والوجه في ذلك: هو ضروريات انسياق المدخلية في القتال من المستثنى في الآية الكريمة، فلنرجع إليها: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾[31] .

والشاهد: قوله ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾[32] ، فالمستثنى ذكر فيه قيدان: ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ ، أي لقتال، فهنا يعتبر ويشترط صلاحية الاستنجاد بالفئة لكي يستطيع القتال، فلو فرض كون الفئة غير قادرة على القتال أو غير صالحة لكونهم مقعدين أو مشلولين أو مرضى أو جبناء، فحينئذٍ لا توجد فائدة في التحيز إلى هذه الفئة، إذ الفرار حينئذٍ فيه قوة للعدو وضعف ووهن للمسلمين.

سؤال: هل يشترط رجاء تحقق النصر والظفر بالمعركة من اللجوء والتحيز إلى هذه الفئة؟

الجواب: النصر بيد الله، فلا يشترط رجاء الظفر والنصر من التحيز. نعم، يشترط رجاء النفع والدفع وقوة القلب وتقوية الشوكة، فالمقاتل في سبيل الله يخرج من المعركة ويتحيز إلى فئة لكي ينتفع في المعركة من تحيزه، وإن كان لا يضمن النصر والظفر.

سؤال آخر: هل يعتبر ويشترط استشعار المتحيز عاجزًا يحوجه إلى الاستنجاد؟

الجواب: لا يشترط ذلك، ومدرك المسألة هو التمسك بإطلاق الآية، قالت: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾[33] ولم تقيدها إذا استشعر العجز واستشعر الحاجة إلى الفئة، الآية مطلقة، أو متحيزًا إلى فئة مطلقًا، سواء استشعر العجز والحاجة أو لم يستشعر، المهم أن يترتب نفع، قد يرى المقاتل أنه قادر على القتال والمواجهة وحده ولا يحتاج إلى التحيز إلى فئة، لكنه يرى أن التحيز إلى فئة وقعه أقوى ونفعه أعظم في المعركة، فحينئذٍ يجوز له التحيز إلى الفئة تمسُّكًا بإطلاق الآية، فيكفي حينئذٍ كون التحيز إلى الفئة أتم في القتال، أو غير ذلك مما له مدخلية في قوة المعركة.

كما صرح به العلامة الحلي في "تذكرة الفقهاء"[34] خلافًا لبعض الشافعية الذين اعتبروا استشعار المتحيز عجزًا مُحوجًا إلى الاستنجاد، يراجع "روضة الطالبين"[35] ، و"العزيز" في "شرح الوجيز"[36] .

نعم، يُقال بعدم جواز التحيز إلى الفئة إذا كان فيه انكسار للمسلمين واستظهار للعدو، وهذا واضح لا غبار عليه، قد يكون في ذهن المقاتل أنه يريد جلب النفع، ولكن من الواضح أنه لو خرج من المعركة في تلك اللحظة، كما لو كان قائد الجيش أو قائد اللواء الأهم، وسيعمل العدو على بث الدعايات، فحينئذٍ لا يجوز له الخروج من المعركة.

قال الشهيد الثاني في "المسالك" ما نصه: "ولو وصل إلى الفئة في زمان لم يخرج به عن كونه مقاتلاً، فبدا له الانتقال إلى الأخرى جاهز بشرط ألا يخرج بمجموع التحيز عن الوصف"[37] .

وقد بيَّنا الضابط: فالمدار كل المدار على تقوية شوكة المسلمين أولًا، وعدم صدق عنوان الفرار والهرب بالتحيز ثانيًا، من غير فرق بين الفئات يتحيز إلى فئة أولى أو ثانية أو ثالثة.

ولو تحيز إلى فئة وفي الأثناء قد تحيزت هذه الفئة إلى فئة أخرى، تحيز معها إذا لم يصدق الفرار والهرب، وإلا وجب عليه الثبات، فالمهم هو تحقق ما عزم عليه من القتال بالتحيز إلى الفئة، فهذا العزم لتقوية الشوكة ورجاء حصول النفع إذا لم يصدق معه عنوان الفرار من المعركة، يجيز له أن يتحيز إلى فئة أو فئتين أو ثلاث إذا لم يصدق عنوان الفرار.

وقد صرح العلامة الحلي في "تذكرة الفقهاء"[38] والشهيد الثاني في "مسالك الأفهام"[39] و"الروضة البهية"[40] والسيدة طباطبائي في "الرياض"[41] بأن ذلك كله للمختار، أي حرمة الفرار من الزحف إلا للتحيز أو الأمر الآخر، هذا بالنسبة إلى المختار، أما المضطر كمن عرَض له مرض أو فقد سلاحه، فإنه يجوز له الانصراف.

سؤال: فهل حرمة الفرار من الزحف مع كون العدو ضعفًا أو أقل بخصوص المكلف المختار أن تشمل المختار والمضطر معًا؟

الجواب: هذا الحكم لا يشمل المضطر إذا تحققت الضرورة التي يسقط معها التكليف، كما لو جنّ، فحينئذٍ يسقط معه التكليف، أو أصبح مقعدًا غير قادر على القتال، فحينئذٍ يسقط التكليف.

لكن لو كان الاضطرار لا يحقق الضرورة التي يسقط معها التكليف، كما لو كان غير قادر على القتال ولكن كان قادرًا على قذفهم بالحجارة وكان قائدًا مغوارًا، يكون فعله مدعاة لتشجيع المسلمين، فحينئذٍ وإن كان مريضًا، لا يجوز له الفرار من المعركة تمسُّكًا بإطلاق الآية.

الآية الكريمة تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[42] ، الآية مطلقة تشمل كل المكلفين.

خصوصًا إذا كان في الانصراف مفسدة على المسلمين، بحيث يظهر فيهم الضعف أو الوهن أو خوف انكسارهم، أو كان هذا القائد شيوع أي خبر عن خروجه ينهي المعركة، فحينئذٍ حتى لو كان مريضًا أو غير قادر على القتال، لا يجوز له الخروج من المعركة.

ومن هنا يعلم أنه لو قدِم العدو إلى بلد، جاز لأهله التحصن عن العدو واللجوء إلى الحصن، وإن كان أهل البلد أكثر من العدو، فتحصنوا لكي يأتيهم المدد والعدة وتحصل النجدة، فهذا لا يُقال له فرار من المعركة، بل هذا من الإعداد للانتصار في المعركة.

تبقى مسألة: لو غلب عليه الهلاك وعرف أنه إن بقي في المعركة سيقتل، فهو مقتول لا محالة، فهل يحرم عليه الفرار؟ إذا كان العدو على الضعف أو أقل أو أكثر؟ قولان في المسألة يأتي عليهما الكلام.


[14] فوائد الشرائع، جزء أحد عشر من آثار الكركي، صفحة سبعة وستين، .
[21] فوائد الشرائع، جزء أحد عشر من دورة آثار الكركي، صفحة سبعة وستين.
logo