« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/10/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (السابع والسبعون): رجحان التربص مع كثرة العدو وقلة المسلمين

الموضوع: الدرس (السابع والسبعون): رجحان التربص مع كثرة العدو وقلة المسلمين

التربص هو الانتظار والترقب، فإذا كثر العدو وقل المسلمون، فهل يجب على المسلمين التربص أو يستحب؟

عبر الأكثر بالوجوب، فقال العلامة الحلي في القواعد[1] : يجب على الإمام ومنصوبه إذا كثر العدو وقل المسلمون، حتى تحصل الكثرة للمقاومة، ثم تجب المبادرة.

لكن العلامة الحلي عبر في تحرير الأحكام[2] بما لفظه: "يستحب له أن يتربص بالمسلمين مع القلة ويؤخر الجهاد حتى يشتد الأمر بالمسلمين"، انتهى كلامه رحمه الله.

التعبير عن التربص بالوجوب أو الاستحباب يدل على رجحان التربص.

ومن الواضح أنه يجب التربص فإذا كان المسلمون قلة والعدو كثيراً، فإن قتال العدو قد يكون إلقاءً للنفس في التهلكة، فالمقاومة تختلف باختلاف الحرب.

وقد جاء في بعض الروايات تحديد أعداد معينة للقتال، لكن هذا الموضوع ليس من الموضوعات الشرعية حتى يعينه الشارع بأعداد معينة، فتحمل هذه الروايات على أن الإمام المعصوم عليه السلام ذكر هذه الأعداد المناسبة في ذلك الزمان وذلك الوقت.

ومن هذه الروايات ما في رواية عمرو بن أبي نصر قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: " خَيْرُ الرُّفَقَاءِ أَرْبَعَةٌ وَ خَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَ خَيْرُ الْعَسَاكِرِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَ لَا يُغْلَبُ عَشْرُ آلَافٍ مِنْ قِلَّةٍ"[3]

وفي روايات أخرى، منها رواية فضيل بن خيثم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: " لَا يُهْزَمُ جَيْشُ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ قِلَّةٍ "[4]

وفي رواية شهر بن حوشب، سألني الحجاج عن خروج النبي صلى الله عليه وآله إلى مشاهده، فقلت: شهد رسول الله صلى الله عليه وآله بدراً في ثلاثمائة وثلاثة عشر، وشهد أحداً في ستمائة، وشهد الخندق في تسعمائة، فقال: عمن؟ قلت: عن جعفر بن محمد عليهما السلام، ضل والله من سلك غير سبيله[5]

وفي رواية رابعة مروية عن "الخصال" للصدوق، بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولم يهزم اثنا عشر ألفاً من قلة إذا صبروا وصدقوا"[6]

وهذه الروايات ليست في مقام بيان الموضوع الشرعي بل في مقام بيان الموضوع الخارجي في ذلك الزمان.

وقد اختلفت الجيوش وتغيّرت طبيعة القتال بين الزمان الغابر والحاضر، ففي الزمان القديم، كان القتال بالمباشرة، بالضرب بالسيف أو الطعن بالرمح، وأبعد شيء كان الرمي بالسهم أو قذف المنجنيق، بخلاف زماننا هذا حيث الرمي بالرصاص والقذف بالمدفعية والطائرات والدبابات، إلى أن وصلنا إلى الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، والله العالم إلى ماذا سنصل؟ من أسلحة نووية وكيميائية وبيولوجية، وما أعلن عنه من سلاح البلازما والصواريخ الصوتية، والأسلحة التي تسبق الصوت سبع مرات أو مقاربة لسرعة الضوء كما في سلاح البلازما.

فهذا يختلف عن الزمن القديم الذي كانت تعمل فيه الحصون وتحفر فيه الخنادق، ويقسم الجيش إلى خمسة: مقدّم، وجناحين، وقلب، ومؤخرة، وسمي الجيش خميساً لتكوّنه من خمسة، بخلاف زماننا هذا حيث تُحدد كليات الأركان العسكرية الجيوش، فتكون هذه فرقة يقسّمون الرتب إلى رائد، ونقيب، وغير ذلك من الرتب العسكرية.

الخلاصة هذا موكولة إلى رأي ولي أمر المسلمين، فإمام المسلمين أو المنصوب من قبله هو الذي يحدد العدد من حيث القلة والكثرة، وهو الذي يشخص إمكانية مقاومة العدو من غير ذلك.

هذا تمام الكلام في بيان وجوب التربص عند قلة المسلمين وكثرة العدو، أي عدم إمكانية المقاومة أو ضعف المقاومة، وفرض المسألة فرض المكنة، فإذا تمكن المسلمون من الكفار المشركين أو الكفار الكتابيين، فحينئذٍ يشرع الجهاد الابتدائي، لكن لا يبدأ المسلمون القتال مع الكفار الحربيين والكفار الكتابيين إلا بعد دعوتهم إلى الإسلام.

ومن هنا سمي الجهاد الابتدائي بجهات الدعوة، أي جهاد إلى الله وإلى الإسلام، فإذا لم تبلغ الدعوة الإسلامية إلى الكفار، لا يشرع قتالهم إلا بعد دعوتهم إلى الإسلام، وهي شهادتان: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، وما يتبعهما من أصول الدين، فإن امتنعوا بذلك، خير الكافر المشرك بين الإسلام أو القتل، بخلاف الكافر الكتابي فإنه يخير بين الإسلام أو دفع الجزية والقبول بشرائط الذمة، فإن امتنع عنهما قتل.

وقد ادعي الإجماع بتعبير "بلا خلاف أجده" من قبل صاحب الجواهر في "جواهر الكلام"[7] ، وصاحب "الرياض" السيد علي الطباطبائي في "رياض المسائل"[8] .

ويدل على لزوم دعوتهم عدة نصوص، منها ما في خبر مسمع بن عبدالملك عن الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: " بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى الْيَمَنِ وَ قَالَ لِي يَا عَلِيُّ لَا تُقَاتِلَنَّ أَحَداً حَتَّى تَدْعُوَهُ وَ ايْمُ اللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَ غَرَبَتْ وَ لَكَ وَلَاؤُهُ يَا عَلِيُّ. "[9]

ونحو هذه الرواية جملة من النصوص.

فالأدلة ظاهرة في الأمر بجهاد الكفر وقتلهم كي يسلموا، فلا بد من إعلامهم أن المراد من قتالهم هو دخولهم في الإسلام، وليس طلب المال أو الأراضي أو الملك أو توسعة حدود الدولة الإسلامية.

وإذا تأملنا في جهاد الدعوة، سنجد أن تشريع القتال هو دعوة الكفار إلى الإسلام، وأن العقبة والمانع القوي في وجه الدعوة هو الحكام الكفار المعاندون، وهؤلاء لا يأتون إلا بالقوة فالعقبة في وجه الدعوة إلى الإسلام حكام ورؤساء الكفار، فشرع الجهاد الابتدائي لإزالة هذا المانع وهذه العقبة، لا أن يُكره الإسلام على الدين، وأي كافر تراه تخيره: إما أن تسلم وإما أن تقتل، ليس هكذا، هذا قتال، هذه معركة مع رئيس الكفار المعاند لإزالة هذه العقبة عن وجه الدعوة إلى الإسلام.

إذاً لا يجوز قتال الكافر قبل دعوته إلى الإسلام.

 

مسألة: لو بدر أحد من المسلمين إلى أحد من الكفار وقتله قبل دعوته إلى الإسلام، فما هو الحكم؟

قولان في المسألة:

القول الأول: أثم ولا ضمان، أثم لتعمده إذا كان جاهلاً، فلا يكون مأثومًا، لكن إذا علم أنه لا يجوز قتله قبل دعوته، وقتله قبل دعوته فهو مأثوم، لكن لا ضمان عليه ولا دية، لأن دم الكافر الحربي هدر؛ فلا ضمان ولا قوده ولا قصاص.

القول الثاني: للشافعي، فحكم بالضمان قياسًا على الذمي، والقياس باطل إذ إن الذمي حرم دمه وماله وعرضه إذا وفى بشروط الذمة، بخلاف الكافر الحربي.

يُراجع قول الشافعي في "الحاوي الكبير"[10] و"مختصر المزني"[11] ، و"المجموع"[12] و"المهذب" للشيرازي[13] .

وإذا رجعنا إلى "المبسوط" للشيخ الطوسي، نجد أنه قد نفى القودة والدية[14] تحرير الاحكام[15] منتهى المطلب [16] . وهذا موافق للضابطة.

وقد نسب صاحب "الجواهر" إلى الشيخ الطوسي نفي الإثم، فقال رحمه الله في "جواهر الكلام"[17] : "بل ربما حكي عن الشيخ نفي الأمرين معًا، أي الإثم والضمان"، ولكن إذا رجعنا إلى "المبسوط" نجد أنه لم يتطرق إلى الإثم، بل نفى القودة والدية، وهذا تام في محله.

سؤال: من الذي يدعو الكفار إلى الإسلام؟

الجواب: إمام المسلمين أو من نصبه، كما في "المختصر النافع" للمحقق الحلي[18] ، و"تحرير الأحكام"[19] ، و"تذكرة"[20] و"التبصرة المتعلمين[21] ، و"إرشاد الأذهان"[22] ، و"قواعد الأحكام"[23] ، و"الدروس الشرعية" للشهيد الأول[24] ، و"الروضة البهية" للشهيد الثاني[25] .

وربما ظهر منهم الوجوب، بل قيل إنه يدل عليه خبر مسمع السابق، يُراجع "تذكرة الفقهاء"، الجزء التاسع، صفحة 44، إذ ورد فيه: "يا علي، لا تقاتلن أحدًا حتى تدعوه"[26] [27] ، فيحرم القتال قبل الدعوة، فتجب الدعوة قبل القتال.

لكن قد يدعى معارضة خبر مسمع الدال على الوجوب أو غيره بحديث السلمي الدال على عدم وجوب الدعوة، فقد جاء في خبر السلمي عن أبي عليه السلام قال: "إنني كنت أكثر الغزوات وأبعد في طلب الأجر وأطيل الغيبة، فحجروا ذلك، فقالوا: لا غزو إلا مع إمام عادل، فما ترى، أصلحك الله تعالى؟" إذا الرواية ناظرة إلى إذن الإمام العادل في الجهاد.

لاحظ جواب الإمام الصادق عليه السلام فقال: "أبو عبد الله عليه السلام إن شئت أجمل لك، أجملت"، يعني اختصرت لك، "وإن شئت أخصك، لخصت"، يعني فصلت وأسهبت، فقال: "إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة"، قال: "فكأنه اشتهى أن يلخص له"، فقال: "فَلَخِّص لي أصلحك الله".

فقال الرجل: "غزوت فوقعت على المشركين، فينبغي قتالهم قبل أن أدعوهم".

فقال: "إن كان غزوا وقاتلوا، فإنك تجتزئ بذلك"، كما في نسخة التهذيب[28] .

وفي نسخة الكافي[29] والوسائل[30] : "تجترئ بذلك"، يكفي أنهم قوتلوا، هذا يكفي عن دعوتهم، وإن كانوا أقوامًا لم يغزوا ولم يقاتلوا، فلا يسعك قتالهم حتى تدعوهم.

قال الرجل: "فقد دعوتهم، فأجابني مجيب وأقر بالإسلام في قلبه، وكان في الإسلام، فجير عليه في الحكم، وانتهكت حرمته، وأخذ ماله واعتدي عليه. فكيف بالمخرج؟ وأنا دعوته؟".

فقال: "إنكما مأجوران على ما كان من ذلك، وهو معك يحوطك من وراء حرمتك، ويمنع قبلتك، ويدفع عن كتابك، ويحقن دمك خير من أن يهدم قبلتك، وينتهك حرمتك، ويشتفيك دمك، ويحرق كتابك."

ومن الواضح أن خبر مسمع وهذا الخبر يدل على لزوم دعوة الكافر قبل قتاله، لكن خبر السلمي يدل على إذن المعصوم، إذ أمير المؤمنين ذهب إلى اليمن بإذن النبي صلى الله عليه وآله.

لكن قد يدعى في هذا الخبر أن المهم هو النية، فإن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة، ولا يشترط في ذلك إذن المعصوم.

لكن هذا ليس بتام، فمن الواضح اشتراط إذن المعصوم عليه السلام، ويكفي أن أبا عمر السلمي كان في مقام السؤال، وأخذ الإذن والحكم من الإمام الصادق عليه السلام.

إذاً، يُشترط إذن الإمام المعصوم عليه السلام في ذلك، والأولى طبعًا لابد من إذن الإمام في القتال، ولا بد من دعوتهم.

ويبقى الكلام في كيفية دعوتهم، هل يدعون بأجمع أو خصوص الرئيس؟ هذا التفصيل يأتي عليه الكلام.


[8] رياض المسائل، جزء 8، صفحة 60، فيمن يجب جهاده.
[10] الحاوي الكبير، جزء 14، صفحة 214.
[11] مختصر المزني، صفحة 272.
[12] المجموع، جزء 19، صفحة 3.
[13] المهذب، الجزء الثاني، صفحة 244.
logo