46/10/20
الدرس (الخامس والسبعون): استحباب المرابطة بنفسه وبكل ما يتعلق به
الموضوع: الدرس (الخامس والسبعون): استحباب المرابطة بنفسه وبكل ما يتعلق به
قال المحقق الحلي في الشرائع:
"من لم يتمكن منها بنفسه يُستحب أن يربط فرسه هناك"[1] ،
من هنا ينبثق سؤالٌ:
السؤال الأول: هل استحباب ربط الفرس في المرابطة معلق على عدم تمكنه بنفسه من المرابطة؟ أم أنه يستحب له ربط فرسه مطلقًا سواء تمكن من المرابطة أو لم يتمكن؟ أم أن استحباب ربط الفرس معلق على شرط وهو خصوص عدم التمكن بنفسه من المرابطة؟
وسيتضح إن شاء الله تعالى أن استحباب ربط الفرس وغيره مطلقٌ، إذ أنه من أعمال البر ولا يتوقف على عدم تمكنه من المرابطة بنفسه.
السؤال الثاني: هل الاستحباب خاص بخصوص ربط الفرس؟ فإذا لم يتمكن من المرابطة بنفسه، هل يختص الاستحباب بخصوص ربط الفرس؟ أم أنه يشمل غير ذلك كإرسال غلامه أو إرسال المال إلى المرابطين أو إرسال الطعام إلى المرابطين؟
وسيتضح إن شاء الله تعالى أن كل هذه الأمور مستحبّة ولا تختص بخصوص إرسال الفرس، نعم، عبر بإرسال الفرس باعتبار أنه كان أبرَز مصداق لمعونة مرابطين الذين يحرسون الثغور في ذلك الوقت.
فلنرجع إلى كلمات الفقهاء، فقد عبر الفقهاء باستحباب المرابطة بفرسه إذا لم يتمكن من المرابطة بنفسه، كما في المختصر النافع للمحقق الحلي[2] والعلامة الحلي في القواعد[3] ، وتحرير الأحكام[4] ، والشيخ الطوسي في النهاية[5] ، وابن البراج الطرابلسي في المهذب[6] ، وابنه إدريس الحلّي في السرائر[7] ، والمحقق السبزواري في كفاية الأحكام[8] .
لكن الظاهر عدم إرادة الشرطية، فلا يُراد أنه يشترط لثبوت استحباب ربط الفرس عدم تمكنه من المرابطة بنفسه، لذلك عبر العلامة الحلي في التذكرة باستحباب المرابطة بنفسه وفرسه وغلامه وجاريته وإعانة المرابطين.[9]
وهكذا عبر العلامة الحلي في إرشاد الأذهان[10] ، والشهيد الأول في الدروس الشرعية[11] ، وفي اللمعة الدمشقية، والشهيد الثاني في الروضة البهية[12] ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء في كشف الغطاء[13] .
فهؤلاء الفقهاء كلماتهم لا تفيد الاشتراط، بل يُفهم منها إن إعانة المرابطين مستحبةٌ، ودليل ذلك أنها تندرج تحت عنوان الإعانة على البر والتقوى.
ومن هنا لم يكن هناك فرق وخصوصية الفرس وغيرها من الدواب كالإبل والحصان والحمار والبغل، كذلك لا فرق بين هذه الدواب وبين الغلام والجارية من الأمور التي ينتفع بها المرابطون، فجميعها فيها ثواب.
فقد جاء في خبر يعقوب بن جعفر عن إبراهيم الجعفري: "سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: مَنْ رَبَطَ فَرَساً عَتِيقاً مُحِيَتْ عَنْهُ ثَلَاثُ سَيِّئَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَ كُتِبَ لَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ حَسَنَةً وَ مَنِ ارْتَبَطَ هَجِيناً- مُحِيَتْ عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَيِّئَتَانِ وَ كُتِبَ لَهُ سَبْعُ حَسَنَاتٍ وَ مَنِ ارْتَبَطَ بِرْذَوْناً يُرِيدُ بِهِ جَمَالًا أَوْ قَضَاءَ حَوَائِجَ أَوْ دَفْعَ عَدُوٍّ عَنْهُ مُحِيَتْ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ وَ كُتِبَ لَهُ سِتُّ حَسَنَاتٍ ".[14]
ورُوى نفس هذا الحديث الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه لكنه أبدل السبع بالتسع.[15]
سؤال: ما هي أفضل الثغور التي يرابط فيها؟
الجواب: أفضل الرباط في أشد الثغور خطرًا، لأنه في ذلك المكان تشتد منعت الدولة الإسلامية عن الهجوم على المسلمين. نعم، لا ينبغي له أن ينقل الأهل والذرية إلى الثغور المخوفة، بل ربما يحرم عليه ذلك، فهذا إلقاء لأهله في التهلكة.
هذا تمام الكلام في بيان استحباب المرابطة بنفسه وبكل ما يتعلق به من فرس أو غلام أو جارية.
[نذر المرابطة]
لو نذر أن يرابط في ثغر من ثغور المسلمين، فهل ينعقد هذا النذر ويجب عليه الوفاء أو لا؟
يوجد قولان:
القول الأول: ما ذهب إليه المشهور، فلو نذر المرابطة وجبت مع وجود الإمام وبسط يده، ومع فقده أي غيبته أو قصور يده، وقد صرح بذلك غير واحد:
كشيخ الطوسي في المبسوط[16]
وابن البراج في المهذب[17]
والعلامة في التحرير[18]
والشهيد الأول في الدروس[19] ،
بل ادعى صاحب الجواهر الإجماع على ذلك إذ قال: "بل لا أجد فيه خلافًا معتداً به"[20] .
يعني يوجد خلاف في المسألة لكن لا يُعتد به، فلا يضر بالإجماع.
بل عن السرائر ما يشعر بدعوى الإجماع عليه[21] .
ولا شك ولا ريب في أن الصحيح هو القول.
والسر في ذلك: أن النذر لكي يصح يشترط أن يكون متعلقه راجحًا وليس مرجوحًا، فإذا ثبت أن المرابطة في حد نفسها مستحبة، ونذر أن يرابط، فحينئذٍ صح انعقاد نذره فيجب الوفاء.
وهكذا لو نذر أن يصرف شيئًا على المرابطين فإنه يجب عليه أن يصرف ذلك مع بسط يد الإمام، إجماعًا بقسمين: المنقول والمحصّل.
فقد نقل الإجماع العلامة الحلي في مختلف الشيعة[22] وكتاب غاية المراد[23] .
بل يجب الوفاء بصرف شيء على المرابطين حتى مع غيبة الإمام المعصوم أو قصور يده على الأصح، إذ أنه موافق للقاعدة، فقد نذر بأمر مستحب وهو المرابطة، وما دام متعلق النذر أمر راجح، فإن هذا النذر صحيح.
القول الثاني: وقيل، والقائل الشيخ الطوسي في النهاية[24] ، بل قيل جمع وجماعة الشيخ وجماعة كما في كتاب فوائد الشرائع، يُراجع موسوعة آثار المحقق الكركي الجزء أحد عشر صفحة خمسة وستين.
ومفاد هذا القول أنه يُحرم ويُصرف في وجوه البر إلا مع خوف الشنعة بعدم الوفاء بالنذر أو بأنه لا يرى صحته للمرابطة فيه أو غير ذلك.
[دليل قول الثاني]
ومدرك القول الثاني التمسك بخبر علي بن مهزيار، قال: كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثاني (الامام) السلام، اني كنت نذرت نذرا منذ سنين ان اخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتها مما ترابط فيه المتطوعة نحو مرابطهم بجدة وغيرها من سواحل البحر أفترى جعلت فداك انه يلزمني الوفاء به أولا يلزمني أو افتدي الخروج إلى ذلك الموضع بشئ من ابواب البر لا صير إليه ان شاء الله تعالى فكتب إليه بخطه وقرأته : ان كان سمع منك نذرك احد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنيعة ، والا فاصرف ما نويت من نفقة في ذلك في ابواب البر وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى ".[25]
والتحقيق: أن القول الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده، إذ أن المكلف يُستحب له أن يرابط بنفسه، وكذلك يُستحب له أن يصرف ما له في إعانة المرابطين، فَيُنعقد النذر إذ إنه تعلق بأمر راجح وهو إعانة المرابطين.
وإذا لم يتمكن من ذلك، لا يجوز صرف هذا المال في غيره، وقد جاء في التذكرة ما نصه: "لو نذر أن يصرف شيئًا من ماله إلى المرابطين، وجب الوفاء به سواء كان الإمام ظاهرًا أو مستترًا". [26]
إذًا القول الأول موافق للقواعد، بخلاف القول الثاني، فإن خبر علي بن مهزيار مورده أن يخرج بنفسه وإن كان يلزمه صرف مال، فإذا فرض عدم انعقاد النذر، فهذا مرجوح وغير صحيح، حينئذٍ لم يكن عليه شيء لا صرف النذر في وجوه البر ولا في غير ذلك.
والصحيح أن ظاهر هذا الخبر هو المرابطة غير المشروعة لو نذر أن يرابط في جيش الظالمين ودولة المارقين، فهنا يكون النذر متعلقه مرجوحًا فلا ينعقد النذر، كما يحمل صرف على ضرب من دروب الندب كالصدقة، فالقول الثاني ليس بتام.
وقال به الشيخ في النهاية، وهذا يخالف قول الشيخ الطوسي في المبسوط.
انتهينا من مسألة النذر.
[الإستئجار في المرابطة]
تأتي مسألة الاستئجار:
لو أجر نفسه على المرابطة، وجب عليه القيام بها حتى لو كان الإمام غائبًا ومستورًا، بل لو أجر غلامه أو دابته أو أي شيء يتعلق به، وجب عليه الوفاء لعموم الأدلة، فالمرابطة مندوبة للظهور والاستتار.
إذا الصحيح أنه لو أجر نفسه فإن متعلق الإيجار أمر صحيح وهو المرابطة بنفسه أو بماله، يجب عليه الوفاء بمقتضى الإيجارة.
وقيل والقائل الشيخ الطوسي في النهاية الجزء الثاني صفحة ستة، وفي المبسوط[27] إن وجد الأجير المستأجر أو ورثته، ردّها عليهم، وإن لم يجدهم قام بها أي بالمرابطة.
وقال الشهيد الثاني في المسالك[28] استنادًا إلى رواية.
فيقع الكلام في المقصود بهذه الرواية. ولو بحثنا، فإننا لن نجد رواية في الإيجار، فربما كانت رواية علي بن مهزيار في النذر، وتوجد روايتان أخريان، وهي خبر يونس بن عبد الرحمن ومحمد بن عيسى، وليستا في الإيجار، لكن قد يُستفاد ويدعى أن هذا يرد الإيجار إن وجد المستأجر أو ورثته، وإن لم يجده، يقوم بها، يستفاد من الخبرين أو الثلاثة، فلنرجع إليها ونقرأ، هل يستفاد منها أو لا؟
الرواية الأولى خبر يونس بن عبد الرحمن أنه سأل أبا الحسن رجل، وأنا حاضر، فقال له: "جعلت فداك إن رجلاً من مواليك بلغه أن رجلاً يعطي سيفًا وقوسا في سبيل الله، فاتاه فأخذهما منه، ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز وأمروه بردهما". قال: "فليفعل".
قال: "قد طلب الرجل فلم يجده، وقيل له: قد شخص الرجل، وفي نسخة: قد قضى الرجل"، قال: "فليُرابط ولا يقاتل". [29]
فهذه الرواية يفهم منها الرد، وإن لم يتمكن من الرد، يرابط، لكن موردها رجل من الرجال هيأ شيئًا للمرابطة، وليس موردها الإيجار، وأنه أجر نفسه، على أن مورد الرواية المرابطة مع الظالمين، فهي خارجة تخصصًا عن مورد بحثنا، فلا تدل على المطلوب.
هذه الرواية الأولى.
الرواية الثانية خبر محمد بن عيسى المروي عن قرب الإسناد عن الرضا عليه السلام عن رجل من هؤلاء مات وأوصى أن يدفع من ماله فرسًا، وأن يدفع من ماله ألف درهم وسيفًا يرابط عنه ويقاتل في بعض هذه الثغور، فعمد الوصي ودفع ذلك كله إلى رجل من أصحابنا، فأخذه منه وهو لا يعلم، ثم علم أنه لم يحن لذلك وقت، فما تقول: "هل يحل له أن يرابط عن الرجل في بعض هذه الثغور أم لا؟".
فقال عليه السلام: "يرد إلى الوصي ما أخذ منه ولا يرابط، فإنه لم يحن لذلك وقت".
فقال يونس: "فإنه لم يعرف الوصي".
قال: "يسأل عنه".
فقال: "فقد سأل عنه فلم يقع عليه، كيف يصنع؟ يقاتل أم لا؟"
فقال له الرضا عليه السلام: "إذا كان ذلك كذلك فلا يقاتل هؤلاء، ولكن يقاتل عن بيضة الإسلام". [30]
فقد يُفهم منها ما ذهب إليه الشيخ الطوسي في النهاية، والصحيح أنها لا تدل، إذ
أولاً: موردها مورد الوصية وليس للإيجار، فالموضوع مختلف،
وثانيًا: لو قلنا يوجد تعميم من الوصية إلى الإيجار لنكتتين، وهي غير موجودة. لكن مورد هذه الرواية هو المرابطة مع الظالمين.
هذا تمام الكلام في هذه المسألة، واتضح أن هذا القول ضعيف، والصحيح أنه لو أجر نفسه أو ما يتعلق به وجب عليه الوفاء.
هذا تمام الكلام في الركن الأول من كتاب الجهاد حسب ترتيب شرائع الإسلام فيمن يجب عليه.
الركن الثاني: بيان من يجب جهاده وكيفية الجهاد، قتال الكفار، قتال البغاة، قتال الكتابيين، يأتي عليه الكلام.