46/10/16
الدرس (الرابع والسبعون): معالجة الروايات المعارضة لاستحباب المرابطة
الموضوع: الدرس (الرابع والسبعون): معالجة الروايات المعارضة لاستحباب المرابطة
تطرقنا إلى الروايات التي تثبت المقتضي وهو رجحان المرابطة، ولكن قد يُدعى أنها تُبتلى بالمانع، وهي الروايات التي تنفي الاستحباب أو الرجحان، بل يستفاد منها مرجوحية المرابطة.
[الرواية الأولى:] منها ما في خبر عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك: "ما تقول في هؤلاء الذين يُقتلون في هذه الثغور؟" قال: "فقال الويل لهم ليعجلون قتلة في الدنيا وقتلته في الآخرة، والله ما الشهداء إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم".[1]
فهذه الرواية صريحة في إثبات الويل للمقاتلين في الثغور، لكن يمكن حملها:
الحمل الأول: على إرادة المرابطين الذين هم من أتباع الجائرين والظلمة، ويكشف عن ذلك صيغة السؤال: "ما تقول في هؤلاء الذين يُقتلون في هذه الثغور؟" فهؤلاء أي الأبعاد أي أنصار الظلمة.
الحمل الثاني: كما يمكن أن تُحمل الرواية على المجاهدين لدى بدء القتال معهم، فهي ناظرة إلى القتال، لا المرابطة والإرصاد، والمفروض في المرابطة، وهو خصوص الإرصاد والترقب لا المقاتلة، كما صرح به غير واحد من الأصحاب.
كالمحقق الحلّي في المختصر النافع[2] ، والبحراني في غاية المرام[3] ، وتذكرة الفقهاء[4] ، بل ظاهر العلامة الحلّي في المنتهى الاتفاق على هذا الفرض، وهو أن المرابطة للارصاد لا القتال[5] .
إذاً الرواية الأولى لا تصلح للمعارضة، إذ أن موضوعها أجنبي عن موطن بحثنا، فبحثنا هو المرابطة والإرصاد، والرواية الأولى وهي خبر ابن سنان، موضوعها المقاتلة في صفوف الظالمين.
الرواية الثانية: خبر محمد بن عيسى، المروي عن قرب الإسناد، للحميري، صفحة ثلاث مائة وخمسة وأربعين، حديث ألف ومئتين وثلاثة وخمسين، فقد جاء فيها عن الرضا عليه السلام عن رجل من هؤلاء: "مات وأوصى أن يدفع من ماله فرس وألف درهم وسيف ليُرابط عنه ويقاتل في بعض هذه الثغور، فعمد الوصي ودفع ذلك كله إلى رجل من أصحابنا، فأخذه منه وهو لا يعلم، ثم علم أنه لم يأتي لذلك وقت بعد" وفي نسخة "لم يَأْن لذلك وقت".
فما تقول: "يحِق له أن يُرابط عن الرجلين في بعض هذه الثغور أم لا؟"
فقال: "يرد إلى الوصي ما أخذ منه، ولا يرابط، فإنه لم يَأْن لذلك وقت بعد".
فقال يونس: "فإنه لم يعرف الوصي".
قال: "يُسأل عنه".
قال: "فقد سأل فلم يقع عليه، كيف يصنع، يقاتل أم لا؟"
فقال له الرضا عليه السلام: "إذا كان ذلك كذلك فلا يُقاتل عن هؤلاء، ولكن يُقاتل عن بيضة الإسلام، فإن في ذهاب بيضة الإسلام درس ذكر محمد صلى الله عليه وآله".[6]
وفيه: أن هذه الرواية ظاهرة في القتال غير المشروط، فهي ناظرة إلى القتال في صفوف الحاكم الظالم من دون إذن المعصوم عليه السلام، ولا شك ولا ريب إن هذا لا يجوز، فهذه الرواية وإن ذُكر في بعض نسخها لفظ المرابطة، لكنها واضحة في بيان القتال، لذلك نهاه الإمام عن القتال في صفوف الظلمة، وإن اضطر للقتال، فليقاتل لحفظ بيضة الإسلام، فلا تفيد هذه الرواية في النهي عن المرابطة المشروعة، فموضوعها مختلف.
وقد يُفهم منها أن المرابطة خاصة بخصوص عصر الحضور دون عصر الغيبة، إذ جاء فيها "ولا يُرابط فإنه لم يَأْن لذلك وقت بعد".
ومن هنا صرح الشيخ الطوسي في النهاية[7] والعلامة في التحرير[8] والمنتهى[9] بعدم تأكد مرابطة واستحباب المرابطة حال الغيبة.
ولا يوجد شاهد على تخصيص المرابطة بخصوص عصر الحضور دون عصر الغيبة إلا هذا الخبر عن قرب الإسناد، لكنه محمول على إرادة القتال من المرابطة فيه، فليس المراد مطلق المرابطة، بل المقصود من المرابطة الواردة في خبر قرب الإسناد هو القتال.
ومن الواضح أن مقتضى أدلة رجحان المرابطة واستحبابها عدم الفارق بين الحضور والغيبة، لذلك صرح غير واحد من الأعلام بعدم الفرق، بل قال الشهيد الثاني في الروضة البهية وصرح بتأكد استحباب المرابطة في الغيبة والحضور.[10]
نعم، ذكر المحقق صاحب الرياض فارقاً بين المرابطة في عصر الحضور والمرابطة في عصر الغيبة، فقال: إن وجه المرابطة في عصر الحضور عدم الخلاف فيها فتوى ورواية، بخلاف زمان الغيبة، فإن فيه الخلاف أو احتماله، فتوى ورواية، مع أن عبارة السرائر صريحة في عدم جزمه باستحبابه، بل ظاهر مساق عبارته العدم، انتهى كلام صاحب الرياض.[11]
وقد علق عليه صاحب الجواهر في جواهر الكلام[12] ، لكنه كما ترى، ولعله يشير إلى ما أورده من كلمات الفقهاء التي قد يُدعى فيها الإجماع على استحباب المرابطة، وهي مطلقة ولا تختص بخصوص عصر الحضور، بل تشمل عصر الغيبة.
فتكون النتيجة النهائية أن المقتضي موجود، وهي الروايات الدالة على رَجحان الاستحباب المرابطة من جهة، ومن جهة أخرى فالمانع مفقود، إذ أن الروايات التي قد يُستدل بها على النهي عن المرابطة ناظرة إلى القتال في صفوف الحكام الظلمة.
إذاً ثبت رجحان واستحباب المرابطة.
[أقل المرابطة وأكثرها]
لو رجعنا إلى كلمات الفقهاء، فالرواية إذا وجدنا أنها تصرح أن أقل الرباط ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوماً، وقد صرح بذلك:
الشيخ الطوسي في النهاية[13] ،
والعلامة في التذكرة[14] .،
والمنتهى[15] ،
وإرشاد الأذهان[16] ،
وقواعد الأحكام[17] ،
والشهيد الأول في الدروس الشرعية[18] ،
والمحقق الكركي في جامع المقاصد[19] ،
والشهيد الثاني في الروضة البهية[20] ،
وابن فهد الحلّي في المهذب[21] ،
وابن إدريس الحلّي في السرائر[22] ،
والشيخ جعفر كاشف الغطاء في كشف الغطاء[23] .
بل نَسب إلى العلامة الحلّي القول بأن أقل الرباط ثلاثة أيام إلى علماء كما في المنتهى[24] .
ونَسب إلى العلامة في تذكرة الفقهاء القول بأن له ثلاثة أيام إلى الاتفاق عليه[25] .
هذا تمام الكلام في بيان أقوال الفقهاء.
وَأَمَّا الروايات فقد ورد عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام «الباقر والصادق»؛ ذكر الرباط ثلاثة ايام واكثره اربعون يوما فإذا جاوز ذلك فهو جهاد.[26]
والمراد أن ثوابه ثواب المجاهدين كما صرح به غير واحد، كَيَحيى بن سعيد في الجامع للشرائع[27] والعلامة في التحرير[28] .
فهو له ثواب المجاهدين وإن بقي على حاله في المرابطة ولم يُقاتل، فمارس دور الإرصاد كما صرح به الشهيد الأول في الدروس[29] ، والشهيد الثاني في الروضة[30] .
إذاً أكثر أعلام الطائفة ذهبوا إلى أن أقل المرابطة ثلاثة أيام وأكثَرُها أربعون يوماً.
ويوجد في مقابل ذلك قول نادر، فما عن الإسكافي من أن أقله يوم، ونُقل عن العلامة في المختلف[31] ، وما حُكي عن الإسكافي كالمحكي عن أحمد بن حنبل من العامة من أنه لا طرف له في القلة.[32]
لكن هذا القول لا يُقابل القول بأن أقل هو ثلاثة أيام من جهة الرواية وأقوال الفقهاء، إلا أن نلتزم بالتسامح في أدلة السنن، ونقول بأن مقتضى النبوي السابق تحقُّقه برباط ليلة، مع أنه وارد في مقام بيان فضل المرابطة، فقد جاء عن سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، فإنما مات جرى عليه عمله الذي كان، واجري عليه رزقه، وأمن الفتن"[33] .
لكن هذه الرواية ليست في مقام بيان أقل ما يتحقق به الرباط، بل هي في مقام بيان فضل ليلة من الرباط ضمن ثلاث ليالي أو أكثر أو غير ذلك، فالرواية غير ناظرة إلى هذا المقدار الأقل، لكن يمكن التمسك بها.
لكن ورد فيها لفظ "ليلة" ولم يرد فيها لفظ "يوم"، فحينئذ يمكن إرادة الإسكافي باليوم ما يشمل الليلة مع البياض، لكن هذا مجرد حكاية عن الإسکافي لا يُعلم ثبوتها ومستندها، فالصحيح أن أقل الرباط ثلاثة أيام.
نعم، ورد في الروضة البهية للشهيد الثاني هذا نصه: "أقله ثلاثة، فلا يستحق ثوابه ولا يدخل في النذر والوقف والوصيّة للمرابطين بإقامة دون الثلاثة. ولو نذره وأطلق، وجب ثلاثة بليلتين بينهما كالإعتكاف"[34] .
لكن ما أفاده قدس سره لا يمكن المساعدة عليه، فلو التزمنا بثبوت دليل الثلاثة أيام وثبوت دليل اليوم الواحد، فحينئذ لا يحمل المطلق على المقيد، إذ أننا في باب المسنونات المندوبات، وحمل المطلق على المقيد إنما يكون في باب الأحكام الإلزامية خلافاً للأحكام الترخيصية، مثل المندوبات، فإنها تُحمل على تعدد المطلوب.
فلو جائنا خبر "زيارة الحسين مستحبة" وجائنا خبر آخر "زيارة الحسين ليلة الجمعة مستحبة"، فهذا لا يحمل على الإطلاق والتقييد، فنقول نقيد استحباب الزيارة بخصوص ليلة الجمعة هذا غير صحيح، بل يُحمل على تعدد المطلوب، فزيارة الحسين مستحبة ومطلوبة، وهذا مطلوب، ويوجد مطلوب آخر، ويتأكد استحبابها ليلة الجمعة.
تبقى رواية في الختام قد يُدعى أنها تردع عن الرباط، وهي ظاهرة في ماذا؟ ترقب الفرج وانتظار ظهور صاحب العصر والزمان، نقرأ هذه الرواية:
قال أبو عبد الله الجعفي: "قال لي أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام: كَمْ رَبَاطٌ عندكم؟ قلت: أربعون، قال: لكن رِبَاطُنَا رباط الدهر، ومن ارتبط فينا دابة كان له وزنها، ووزن وزنها ما كانت عنده. ومن ارتبط فينا سلاحاً كان له وزنه ما كان عنده، لا تجزعوا من مرة ولا من مرتين ولا من ثلاث ولا من أربع؛ فإنما مثلنا ومثلكم مثل نبي كان في بني إسرائيل، فأوحى الله تعالى إليه أن ادعوا قوم للقتال فإني سأَنصُركم فجمعهم من رؤوس الجبال ومن غير ذلك، ثم توجه بهم فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى انهزموا.
ثم أوحى تعالى إليه أن ادع قومك إلى القتال، فإني سأَنصُركم".
إلى أن قال: "فدعاهم فقالوا: وعدتنا النصر فما نصرنا، فأوحى الله تعالى إليه: إما أن يختاروا أو النار.
فقال: القتال أحب إلي من النار فدعاهم فاستجاب منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجل، ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر فتوجه بهم فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى فتح الله لهم"[35] .
ومن الواضح أنها ناظرة إلى أنصار الإمام المهدي ثلاثمائة وثلاثة عشر، فهذه الرواية محمولة على ترقب الفرج ساعة بعد ساعة كما جاءت به، لا الرباط الاصطلاحي، فلا يمكن التمسك بقيد مرة أو مرتين وحملها على المرابطة الاصطلاحية، هذا في حال تمكن من المرابطة، وإن لم يتمكن من المرابطة، هل يبعث بفرسه أو غير ذلك؟ يأتي عليه الكلام.