« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/10/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثالث والسبعون): استحباب المرابطة

الموضوع: الدرس (الثالث والسبعون): استحباب المرابطة

[استحباب المرابطة]

ويقع الكلام في ثلاثة أمور:

الأول معنى المرابطة

الثاني الأدلة على رجحان المرابطة

الثالث إطلاق استحباب المرابطة في عصر الغيبة والحضور. ولنتطرق إلى هذه الأمور الثلاثة تباعًا.

 

الأمر الأول: معنى المرابطة

وهي الإرصاد والإقامة لحفظ الثغر من هجوم المشركين، فالمرابطة على وزن مفاعلة، ويراد بها المناوبة لحفظ ثغر المسلمين، فما هو ثغر المسلمين؟

ذكرت ثلاثة تعريفات:

التعريف الأول: الثغر هو الحد المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام كما في "التنقيح الرائع لمختصر الشرائع"[1] .

فيفهم من هذا التعريف تخصيص الثغر بخصوص حدود الدولة الإسلامية.

التعريف الثاني: الثغر هو كل موضع يُخاف منه، وقد ذكر هذا التعريف في "جامع المقاصد" للمحقق الكركي[2] .

التعريف الثالث: ما يشمل التعريف الأول والثاني، كما في "مسالك الأفهام" للشهيد الثاني إذ قال ما نصه: "الثغر هنا الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام بحيث يُخاف هجوم المشركين منه على بلاد الإسلام، وكل موضع يُخاف منه يُقال له ثغر لغةً"[3] انتهى كلامه، زيد في علو مقامه.

إذاً، المرابطة هي المناوبة وترصد العدو لحفظ ثغور الإسلام سواء كانت هي حدود الدولة الإسلامية أو موضع من المواضع في الدولة يُخاف منه هجوم الكفار على المسلمين.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول وهو تعريف المرابطة.

 

الأمر الثاني: أدلة رجحان المرابطة

وقد ذهب جملة من الفقهاء إلى استحباب المرابطة، وصرحوا بذلك، كالمحقق الحلي في "المختصر النافع"[4] والعلامة الحلي في "إرشاد الأذهان"[5] و"تبصرة المتعلمين"[6] و"تحرير الأحكام"[7] و"تذكرة الفقهاء"[8] .

وكذلك الشهيد الأول في "اللمعة الدمشقية"[9] و"الدروس الشرعية"[10] والشهيد الثاني في "الروضة البهية" في شرح "اللمعة الدمشقية"[11] .

كما صرح أيضًا باستحباب المرابطة كل من المحقق الكركي في "جامع المقاصد"[12] والمقدس الأردبيلي في "مجمع الفائدة والبرهان"[13] والمحقق السبزواري في "كفاية الأحكام"[14] .

[الوجه في إثبات الإستحباب]

والوجه في إثبات الاستحباب أو مطلق الرجحان للمرابطة هو الدليل من الكتاب والسنة الدالة على الرجحان وعدم معارضة هذا الدليل بما يدل على الوجوب.

فالآيات الكريمة الواردة في المرابطة تزن على مدح الذين رابطوا وجاهدوا، فلا تثبت الوجوب، كما أن الروايات الشريفة التي وردت إلينا تقصر عن إثبات وجوب المرابطة.

لكن ذهب في "التنقيح الرائع لمختصر الشرائع" الجزء الأول، صفحة 571 إلى الوجوب الكفائي، فقال ما لفظه: "واجب على المسلمين كفاية من غير شرط ظهور الإمام عليه السلام"[15] .

ولعله يريد حالة خاصة وهي خصوص حالة الضرر على الإسلام عند انعدام المرابطة، فتارة نبحث حكم المرابطة بما هي هي، أي نبحث الحكم الأولي للمرابطة، وتارة نبحث حكم المرابطة بحسب الحكم الثانوي، فقد تجب المرابطة إذا لزم الضرر من تركها، وقد تحرم المرابطة إذا لزم الضرر على الإسلام والمسلمين من القيام بها، هذا حكم آخر، حكم ثانوي.

وقد يُقال إن أدلة حرمة الجهاد في عصر غيبة الإمام المعصوم تشملها، فتحرم المرابطة في عصر الغيبة أو تحرم المرابطة بغير إمام عادل.

لكن الصحيح إن المرابطة لا تتضمن قتالًا ابتدائيًا، بل المرابطة هي إرصاد وترصد للعدو لحفظ الإسلام والإعلان عن تحركات العدو.

فالرباط كما في "جواهر الكلام"، قال قدس سره: "إذ الرباط الإقامة في الثغر للإعلام بأحوال المشركين كي يؤخذ الحذر من هجومهم على بلاد الإسلام، ولو اتفق الاحتياج معه إلى القتال فهو من الدفاع حينئذ عن البيضة الذي قد عرفت كونه قسمًا من الجهاد ومأمورًا به"[16] ، فلا تنافي بين أدلة وجوب الجهاد والقتال لحفظ بيضة الإسلام وبين الأدلة الدالة على حرمة الجهاد الابتدائي في حال غيبة الإمام المعصوم.

هذا تمام الكلام في بيان وعرض الأقوال في المسألة.

بل قد يُدعى الإجماع على استحباب المرابطة كما ادعى صاحب الجواهر، إذ قال ما نصه: "وعلى كل حال فهي مستحبة لما تسمعه من النصوص كما صرح به الفاضلان والشهيدان وغيرهم، بل لا أجد فيه خلافًا بينهم"[17] ، وعدم وجدان الخلاف درجة من درجات الإجماع كما يُقال.

[الأدلة على أصل رجحان المرابطة]

ولنتطرق إلى الأدلة التي يمكن أن يُستدل بها على أصل رجحان المرابطة، والرجحان أعم من الوجوب والاستحباب، ولا شك ولا ريب في أصل رجحان المرابطة بالأدلة الأربعة.

الدليل الأول: الكتاب الكريم، فيمكن التمسك بقوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾[18]

وقوله تعالى:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[19]

ومن الواضح أن المرابط من مصاديق إعداد القوة، فلا بد من رصد المشركين، وهو ما يُعرف في عالمنا اليوم بالاستخبارات والأمن.

[الأمران يرفع الوجوب من الآية]

قد يُقال إن الآية الأولى تدل على الوجوب؛ إذ جاءت فيها صيغة الأمر، " وَرَابِطُوا " وصيغة الأمر تدل على الوجوب، لكن ما يرفع ظهور الوجوب أحد أمرين:

الأمر الأول: كون الآية في مقام المدح، وهذا يسقط الظهور في الوجوب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾، فهي ليست في مقام بيان الوجوب، بل هي في مقام مدح المسلمين.

الأمر الثاني: لو تنزلنا وقلنا إن ظاهر الأمر هو الوجوب، وليس ظاهر الآية المدح، فإن هذا الظهور في الوجوب يُرفع اليد عنه تمسّكًا بالإجماع على استحباب المرابطة، ولم يقل أحد بوجوبها، نعم قد تتصف المرابطة بالوجوب لأمور يراها ولي أمر المسلمين، كما قد تتصف المرابطة بالحرمة لأجل نفعٍ صدقة تترتب عليها.

هذا هو تمام الكلام في الدليل الأول، وقد اتضح أن الآيات الكريمة تدل على رجحان المرابطة.

الدليل الثاني: السنة والروايات الشريفة، وسنتطرق إلى جملة من الروايات، وبعضها نبوي.

الدليل الثالث: الإجماع، ويمكن التمسك بإجماع المسلمين سنة وشيعة على استحباب المرابطة.

الدليل الرابع: العقل، ومن الواضح أن العقل القطعي يحكم برجحان التحذر عن كيد المشركين والمنافقين والخائنين.

فهذه الأدلة أربعة تدل على رجحان المرابطة، وإذا نظرنا إلى الدليل الثاني، وهي الروايات الشريفة، فإننا سنجد أنها ظاهرة في استحباب المرابطة، كما أنها مطلقة، فتشمل عصر الغيبة وعصر الحضور، فما ينبغي أن نبحثه في الأمر الثالث هو تعميم حكم استحباب المرابطة إلى زمن الغيبة، وعدم اختصاصه بعصر الحضور، سنأخذه عندما نتطرق إلى الروايات الشريفة.

منها رواية يونس قال: سأل أبا الحسن رجلٌ وأنا حاضر، فقال له، وفي نسخة الوسائل: فقلت له: "جعلت فداك، إن رجلًا من مواليك بلغه أن رجلًا يعطي سيفًا وفرسًا في سبيل الله، فأتاه فأخذهما منه، ثم لقيه أصحابه، فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز، وأمروه بردهما". قال: "فليفعل".

قال: "قد طلب الرجل فلم يجد"، وقيل له: "قد شخص الرجل"، وفي نسخة الوسائل: "قد قضى الرجل".

قال: "فليرابط ولا يقاتل".

قلت: "مثل قزوين وعسقلان والديلم وما أشبه هذه الثغور".

قال: "نعم".

قال: "فإن جاء العدو من الموضع الذي هو فيه مرابط، كيف يصنع؟".

قال: "يقاتل عن بيضة الإسلام".

قال: "يجاهد؟".

قال: "لا، إلا أن يخاف على ذَرِّيَة المسلمين" وفي نسخة الوسائل "على دار المسلمين"، "أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين، ما ينبغي لهم أن يمنعوهم؟".

قال: "يرابط ولا يقاتل، فإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه لا للسلطان، لأن في درس الإسلام درس ذكر محمد صلى الله عليه وآله".[20]

ومن الواضح أن هذه الرواية في مقام بيان حرمة الجهاد والقتال مع أئمة الجور، وأن المرابطة لحفظ ثغور الدولة الإسلامية لا مانع منها.

وإذا اضطر للقتال عند مرابطته وحراسته فليقاتل عن نفسه أو عن حفظ بيضة الإسلام، كما يُعلم من هذه الرواية كون الرباط لا قتال فيه.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بهذه الرواية، تدل على ماذا؟ على رجحان المرابطة.

الرواية الثانية: التمسك بإطلاق المروي في "المنتهى" عن سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: "رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأُجرِيَ عليه رزقه، وآمن من الفتنة[21] ".رواية عامية[22] .

الفتان يقرأ بالفتح، فتان تشير إلى الشيطان، وتقرأ بالضم جمع "فاتن"، فيراد به أعوان الشيطان، فهو يأمن، أما الشيطان بالمفرد فتان، وبالفتح، وأما يأمن أعوان الشيطان بالضم، فتان.

الرواية الثالثة: نبوية عن فضالة بن عبيدة قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتان القبر" أو "فتّان القبر" على القراءتين.[23]

الرواية الثالثة: ما روي عن ابن عباس قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"[24] .

هذا تمام الكلام في بيان المقتضي، أي ما يقتضي الرجحان، وقد يُدعى وجود روايات تعارض هذا الاقتضاء من وجوب أو رجحان، تحقيق الكلام في هذه الروايات يأتي عليه الكلام.


logo