« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/07/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الرابع والخمسون): الحالة الثانية إذا كان العذر خارجيًا

الموضوع: الدرس (الرابع والخمسون): الحالة الثانية إذا كان العذر خارجيًا

كان الكلام فيما:

إذا اختلت بعض شروط وجوب الجهاد وقد خرج إلى الجهاد:

فهل يسقط وجوب الجهاد ويرجع، أم يجب عليه أن يبقى ويحرم عليه الفرار من الزحف؟

قلنا:

توجد حالتان:

الحالة الأولى: إذا كان العذر ذاتياً يتعلق بذاته، كما لو مرض أو جن.

الحالة الثانية: إذا كان العذر خارجياً، كما لو أذن له أبواه وذهب إلى القتال ثم تراجعا عن إذنهما، أو أذن له السيد أو صاحب الدين ثم تراجع عن إذنهما.

فهل يجب عليه الرجوع أو يجب عليه البقاء؟

وموطن البحث في صورة تعين الجهاد عليه، والتعين قدره المتيقن هو التقاء الصفين، أي تحقق المواجهة الفعلية بين المسلمين والأعداء الكفار، فإذا كان العذر خارجياً ومن قبل الغير، فهل يجب عليه الرجوع أو يجب عليه البقاء والدفاع؟

فصل القاضي ابن البراج في المهذّب، بينما إذا حصل الرجوع والعذر قبل التقاء الجمعين أو بعدهم، حكم بجواز الرجوع إذا حصل قبل التقاء الجمعين، وحكم بعدم جواز الرجوع بعد التقاء الصفين، فقال ما نصه: "ومن خرج إلى الجهاد ولم يكن له عذر ثم تجدد العذر بأن يكون صاحب الدين أذن له في الخروج ثم بدا له من ذلك، أو كان أبواه كافرين فأسلما يعني لم يأذنا له وكانا كافرين بناءً على اشتراط الإسلام، فإن كان ذلك قبل التقاء الجمعين جاز له الخروج، فإن كان التقى الجمعان لم يُجز له الرجوع[1] ".

طبعاً، مقتضى القاعدة وجوب الرجوع أو وجوب البقاء، وهذا هو الظاهر من الشهيد الثاني في المسالك حيث قال هكذا: "إذا تجدد العذر بعد التحام الحرب فإن كان خارجياً كرجوع الأبوين وصاحب الدين، لم يُعتبر رجوعه لعموم الأوامر الدالة على الثبات حينئذٍ".[2]

وإليه ذهب العلامة الحلي في التحرير بالنسبة إلى حالة الدين حيث قال: "إذا كان الرجوع بعد وجوبه عليه بالتقابل بين الصفين مثلاً، فإن الرجوع حينئذٍ يكون من الفرار من الزحف، لم يُؤثر رجوعه، وإن كان قبل ذلك، وجب عليه الرجوع".[3]

هذا بالنسبة إلى الدين، وكذلك في حالة الوالدين حيث قال: "إنه إن رجع عن إذنهما قبل تقابل الجمعين، كان عليه أن يرجع إلا أن يخاف أو يمرض أو تذهب نفقته أو نحو ذلك من الأعذار". [4]

هذا تمام الكلام في بيان أقوال الفقهاء.

 

[تحقيق المسألة]

لا إشكال في عدم تأثير الرجوع في الإذن بعد تقابل الصفين، نظرًا لتعيّن وجوب الجهاد عليه من جهة وحرمة الفرار من الزحف من جهة أخرى. فيشترط إذنهما في حدوث الوجوب، ولا يشترط إذنهما في بقاء واستمرار الوجوب.

لكن يقع الكلام في وجه القول بوجوب الرجوع وسقوط الوجوب إذا تجدد العذر قبل تقابل الصفين أي قبل تعيين الوجوب عليه.

ويمكن أن يذكر وجهان لعدم جواز الرجوع:

الوجه الأول: عدم صحة رجوع الآذن عن إذنه بعد ترتيب آثار الإذن من قبل المأذون، أي أن أخذ إذن الآذن شرط في حدوث وبدء وجوب الجهاد، وليس بشرط في بقاء واستمرار وجوب الجهاد، فإذا آذن وجب على المكلف الخروج إلى الجهاد، فإذا خرج وتراجع الآذن، فتراجعه لا يؤثر في بقاء الوجوب، وهذا يحتاج إلى استظهار الأدلة التي أخذت واشترطت إذن الأبوين أو صاحب الدين أو السيد بالنسبة له.

هذا هو الوجه الأول الذي قد يقال به لعدم جواز الرجوع، فحينئذٍ لا يجوز له الرجوع لا قبل التقاء الصفين ولا بعده.

الوجه الثاني: الشك في تأثير رجوع الآذن، فيستصحب بقاء التكليف، أي أنه كنا على يقين من وجوب الجهاد عليه، وشككنا في بقاء ذلك الوجوب بعد تراجع الآذن عن إذنه، فنستصحب: "لا تنقض اليقين بالشك"، نستصحب بقاء ذلك الوجوب، فيجب عليه البقاء، ولا يجوز له الخروج.

لكن كلاً من الوجهين لعدم جواز الرجوع قابلين للمناقشة.

أما الاستصحاب، فقد يقال بتغير الموضوع إذ كنا على يقين من الوجوب نظراً لتحقق شرطه، وهو إذن الآذن من أب أو سيد أو صاحب، وبعد تراجع الآذن عن إذنه تغير الموضوع فنشك، بل ربما نتيقن من زوال ذلك الوجوب الذي ثبت بسبب توفر هذا الشرط، وهو إذن الآذن، فلا يجري الاستصحاب.

كما أن الوجه الأول قابل للمناقشة، فقد يستظهر من الأدلة أن إذن الآذن كما أُخذ في حدوث وبدء وجوب الجهاد، أيضاً أُخذ واعتبر في بقاء واستمرارية وجوب الجهاد، حاله حال الشروط الذاتية من بلوغ وعقل وقدرة.

وبالتالي، إذا انتفت هذه الشروط، يجب عليه الرجوع ولا يشمله عنوان حرمة الفرار من الزحف، فثبت العرش ثم النقش: أولاً، ثبت الوجوب عليه، وبعد ذلك ثبت عليه حرمة الفرار من الزحف.

فتكون النتيجة موافقة لأقوال الفقهاء، أي أنه إذا تعين الجهاد عليه كالتقاء الصف، فحينئذٍ لا يؤثر رجوع الآذن، وأما إذا لم يتعين عليه الجهاد وتراجع الآذن، فحينئذٍ يجوز له الرجوع، والله أعلم.

فتصير النتيجة النهائية هكذا: بالنسبة إلى الحالة،

الحالة الأولى: إذا كان العذر ذاتياً، فحينئذٍ يجوز له الرجوع حتى بعد تعين الجهاد عليه إذا انتفت الشروط.

الحالة الثانية: إذا كان العذر خارجياً، فلا يجوز له إذا تعين الجهاد عليه. لكن إذا لم يتعين عليه الجهاد، يجوز له الرجوع، والله أعلم.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة إذا خرج إلى الجهاد واختلت بعض شروط وجوب الجهاد.

 

[الجيش والقيادة]

يعرف في يومنا هذا مصطلح القوات الخاصة أو مصطلح الحرس الخاص أو الجيش الخاص، ويشار به إلى الجيش المحترف، فهل هذا الجيش المحترف موجود في الآيات والروايات أو لا؟ فمن المتعارف في قديم الزمان أن الناس مشغولون بأعمالهم المختلفة، فإذا دهمهم العدو أو كاد أن يدهمهم، شكلوا أنفسهم ونظموها وشكلوا جيشاً لقتال الأعداء.

أما أن يتفرغ أناس للجيش بحيث عملهم هو القتال ولا عمل لهم آخر غير التفرغ لشؤون الجيش والقوات المسلحة، فقد يُقال: إن هذا من مساحات الفراغ التشريعي في فقه الجهاد، والآيات والروايات الشريفة لم تشير إلى التفرغ لتشكيل الجيش والقوات المسلحة، فهل يشرع في الإسلام إنشاء جيش محترف بحيث لا يكون لأفراده عمل سوى القتال كما هو الآن شائع في زماننا، فكل دولة لديها جيش مختص وقوانين.

ولو رجعنا إلى كتب الفقهاء والأصحاب كالشيخ الطوسي خاتمة المتقدمين ومن جاء بعده، فإن نصوصهم تحكي عن نوعين من المجاهدين.

[النوعان من المجاهدين:]

النوع الأول: المطوعة، وهم المجاهدون المقيمون في مدنهم وبلادهم ويشتغلون بمعايشهم، فإذا فرغوا منها التحقوا بالجبهات، وعادوا متى شاءوا، وهذا ما يقال له في زماننا بالمتطوعين.

النوع الثاني: المرصدون، ويطلق عليهم "أهل الديوان"، وهم المجاهدون والمقاتلون الذين أرصدوا أنفسهم للقتال وتفرغوا للحرب، وأقاموا في الثغور وحدود الدولة الإسلامية، وكانوا يسمون بأهل الديوان، وهو دفتر تسجل فيه أسماؤهم وأسماء عيالهم وأوضاعهم الاجتماعية، لينفق عليهم بمقدار كفاءتهم وحاجاتهم.[5] [6]

وعلى الرغم من ذلك لم يكونوا يعدّون من أفراد الجهاز الحاكم، لكن يُذكر ذلك حينما يتطرق إلى مصارف بيت المال، فكان بيت المال ينفق عليهم.

وهذا هو الفارق بين الجيش الإسلامي والجيش في الدول الوضعية، فالجيش في الدول الوضعية يُعطى الجندي والضابط المال في مقابل العمل الذي يقوم به، بينما المقاتل في الجيش الإسلامي يُعطى من بيت المال، أي يُعطى رزقه من بيت المال، وليس في مقابل خدمة وعمل، هو يجاهد في سبيل الله، فلا يُعطى المال في مقابل جهاده وقتاله، بخلاف الجندي في الجيوش الوضعية، الذي يُعطى المال مقابل العمل الذي يقوم به، ومقابل القتال والجهاد في الإسلام واجب عليه، فكيف يُعطى المال في مقابل الواجب؟ وإنما يُعطى رزقه من بيت المال، ولذلك قد يُعطى من الصدقات، وقد يُعطى باسم آخر.

فلنتطرق إلى كلمات الفقهاء وعمدتها، كلام الشيخ الطوسي المبسوط، والمهم في هذه الكلمات أولاً تقسيم المقاتلين إلى مطوعة ومرصدين، ثانياً: ما هو رزق المطوعة، وما هو رزق المرصدين (وهم أهل الديوان).

قال الشيخ الطوسي المبسوط: "الغزاة على ضربين: المتطوعة، وهم الذين إذا نشطوا غزوا، وإذا لم ينشطوا اشتغلوا بمعايشهم، فهؤلاء لهم سهم من الصدقات؛ فإن غنموا في دار الحرب شاركوا الغانمين وأسهم لهم. والضرب الثاني هم الذين أرصدوا أنفسهم للجهاد، فهؤلاء لهم من الغنيمة الأربعة أخماس، ويجوز عندنا أن يُعطوا أيضاً من الصدقة من سهم ابن السبيل، لأن الاسم يتناولهم، وتخصيصه يحتاج إلى دليل".[7]

 

وقال في المبسوط أيضاً ما نصه: "وأما إذا أُعطوا من سهم ابن السبيل، جاز للإمام أن يُفضلهم بل يعطيهم على مقدار أحوالهم وكفاياتهم وكثرة مؤونتهم وقلتها بحسب ما يراه في حال لسنتهم".

هذا يعني أن لهم راتباً ثابتاً، هؤلاء أهل الديوان لهم راتب ثابت في بيت المال حسب رتبهم العسكرية المختلفة، فما داموا مقاتلين منتظمين من أهل الديوان، لهم راتب بحسب مراتبهم المختلفة.

وقال الشيخ الطوسي في المبسوط في موضع آخر: "وأما ما يأخذه أهل الديوان من الأرزاق، فليس بأجر" يعني ليس أجره في مقابل عمل، هذا رزق من بيت المال، يعني يأخذ ما يكفيه لمعاشه، قال: "وأما ما يأخذه أهل الديوان من الأرزاق، فليس بأجرة، بل هم يأخذون لأنفسهم ويجاهدون لأنفسهم، وإنما يأخذون حقًا جعله الله لهم، فإن كانوا أرصدوا أنفسهم للقتال وأقاموا في الثغور، فهم أهل الفيء، لهم سهم من الفيء يُدفع إليهم. وإن كانوا مقيمين في بلادهم يغزون إذا خيفوا، فهؤلاء أهل الصدقات، يُدفع إليهم سهم منها".[8]

ويظهر من كلام الشيخ الطوسي في المبسوط أن المرصدين هم المجاهدون المتفرغون للحرب، ويستحقون سهمهم من بيت المال بحلول الحول دون الفقراء، حيث يقول: "والمجاهدون معينون، وليس كذلك أولاد الفقراء، لأن الفقراء غير معينين، فلا يستحقون بحلول الحول، وللإمام أن يصرف إلى من شاء منهم".[9]

ومن هنا حكم الشيخ، طبعاً هنا ما هو المراد بالمعينين، أن المجاهدين معينون والفقراء غير معينين، هل المراد أن المجاهدين معينون في الإحصاء؟ يعني أُحصوا، والفقراء لم يُحصوا، أو التعين للإنفاق عليهم كل حول من بيت المال؟ الظاهر هو الثاني، معينون يعني عُين لهم مراتب سنوية، هذا هو المراد.

ومن هنا، حكم الشيخ بأن المجاهد إذا مات بعد حلول الحول، فلورثته المطالبة بسهمه لأنه قد استحقه بحلول الحول.

وأورد العلامة رحمه الله عبارات الشيخ المتقدمة بعينها في التحرير، وذكر بعضها القاضي ابن البراج الطرابلسي في المهذب[10] .

وممن صرح بأن المال الذي يأخذه المرصد ليس بأجر المحقق الثاني الشيخ علي عبد العالي الكركي في جامع المقاصد الجزء الثالث صفحة أربعمائة وثلاثة وعشرين. [11]

هذا تمام الكلام في ذكر كلمات الفقهاء، يبقى الكلام في الدليل على مشروعية إنشاء الجيش المحترف، يأتي عليه الكلام.


logo