46/05/23
الدرس (الرابع والثلاثون): أقوال الفقهاء في الجهاد الدفاعي
الموضوع: الدرس (الرابع والثلاثون): أقوال الفقهاء في الجهاد الدفاعي
تطرقنا إلى كلمات الشيخ الطوسي وأبي الصلاح الحلبي والقاضي ابن البراج الطرابلسي، وبعد أن تطرقنا إلى هؤلاء القدماء الثلاثة نتطرق إلى بعض المتأخرين أو القريبين من المتقدمين.
الفقيه الرابع: إبن إدريس في السرائر، وهو نصٌّ الشيخ الطوسي قال مع نصه:
«اللهم إلا أن يدهم المسلمين، والعياذ بالله، أمرٌ من قبل العدو يخاف منه على بيضة الإسلام، ويخشى بواره، وبيضة الإسلام مجتمع الإسلام وأصله، أو يخاف على قوم منهم، وجب حينئذ أيضًا جهادهم ودفاعهم»[1] .
الفقيه الخامس: السيد ابن زهر الحلبي في الغنية قال مع نصه:
«أو ما يقوم مقام ذلك من حصول خوف على الإسلام أو على الأنفس والأموال»[2] .
وفي قوله ذلك أشار إلى شرطية أمر الإمام الأصل بالجهاد أو من نصبه وجرى مجرى في الوجوب، أي أنه في الجهاد الابتدائي يشترط إذن الإمام المعصوم أو نائبه الخاص، ويقوم مقام ذلك الجهاد الدفاعي الذي لا يشترط فيه الإذن، وسيتضح كلامه من خلال التطرق إلى كلام الحلبي وابن حمزة.
الفقيه السادس: أبو صلاح الحلبي في كتاب إشارة السبق قال مع نصه:
«أو ما حكمه حكم ذلك من حصول الخوف الطارئ على كلمة الإسلام أو المفضي إلى اجتياح الأنفس والأموال»[3] .
الفقيه السابع: ابن حمزة في الوسيلة قال:
«وربما يصير الجهاد فرض عين بأحد شيئين: أحدهما استنهاض الإمام إياه، والثاني يكون في حضور الإمام وغيبته بمنزلة، وهو أن يدهم أمر يخشى بسببه على الإسلام وهن، أو على مسلم في نفسه أو ماله، إذا حصل ثلاثة شروط: حضوره، وقدرته على دفع ذلك، ووجود معاون إن احتاج إليه، ولا يجوز الجهاد بغير الإمام ولا مع أئمة الجور»[4] .
وظاهر كلامه اشتراط حضور المدافع أي أن العدوان قد تحقق وهو حاضر، فقد يفهم منه اختصاص وجوب الدفاع بالحاضرين في مكان العدوان، ولا يبعد أن يكون هذا الاشتراط ناشئًا من صعوبة المواصلات والسفار في ذلك الزمان مع احتياج الدفاع إلى الحركة السريعة في الرد، فيكون هذا الشرط شرطاً عقلياً، وقوله رحمه الله: «بمنزلة» يعني أنه لا فرق فيه بين حضور الإمام وغيبته أي في الجهاد الدفاعي، وكلامه يفسر تعبير من تقدم كلامه كابن زهر والحلبي عند قولهم: «أو ما يقوم مقام ذلك»، وقولهم: «أو ما حكمه حكم ذلك».
الفقيه الثامن: المحقق نجم الدين الحلي صاحب الشرائع، قال في المختصر النافع مع نصه:
«ولا يجوز مع الجائر إلا أن يدهم المسلمين من يخشى منه على بيضة الإسلام، أو يكون بين قوم يغشاهم عدو فيقصد الدفع عن نفسه في الحالين لا معاونة الجائر»[5] .
وقال المحقق الحلي في شرائع الإسلام إذ لم يذكر حكم الجهاد ومورده في حال غيبة الإمام المعصوم، واقتصر على ذكر اشتراط وجوب الجهاد بوجود الإمام أو من نصبه للجهاد.
ثم قال مع نصه:
«وقد تجب المحاربة على وجه الدفع كأن يكون بين أهل الحرب ويغشاهم عدو يخشى منه على نفسه فيساعدهم دفعًا عن نفسه، ولا يكون جهادًا، وكذا كل من خشي على نفسه مطلقًا أو ماله إذا غلبت السلامة»[6] .
الفقيه التاسع: العلامة الحلي في التحرير، قال مع نصّه، وهذا أوضح تعبير:
« الجهاد قد يكون للدعاء إلى الإسلام و قد يكون للدّفع بأن يدهم المسلمين عدو و يشترط في الأول إذن الإمام العادل أو من يأمره الإمام و الثاني يجب مطلقا »[7] انتهى كلامه، وكلام العلامة في المنتهى صريح في الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي والتفرقة بينهما.
الفقيه العاشر: الشهيدين الأول في اللمع الدمشقية والثاني في الروضة البهية في شرح اللمع الدمشقية، والنص كما يلي:
«أو هجوم عدو على المسلمين يخشى منه على بيضة الإسلام وهي أصله ومجتمعه، فيجب حينئذ بغير إذن الإمام أو نائبه»[8] .
الفقيه الحادي عشر: الشهيد الثاني في المسالك قال ما نصه:
«والثاني أن يدهم المسلمين عدو من الكفار يريد الاستيلاء على بلادهم وأسرهم وأخذ مالهم وما أشبهه من الحريم والذرية».
وجاء في كلامه:
«وجهاد هذا القسم ودفعه واجب على الحر والعبد والذكر والأنثى إن احتُج إليها، ولا يتوقف على إذن الإمام ولا على حضوره، ولا يختص بمن قصدوه من المسلمين، بل يجب على من علم بالحال النهوض إذا لم يعلم قدرة المقصودين على المقاومة، ويتأكد الوجوب على الأقربين فالأقريبين، ويجب على من قصد بخصوصه المدافعة بحسب المكنة»[9] وكلامه صريح في وجوب الدفاع الصورة الأولى من المورد الثالث يعني إذا دهم العدو مجتمعًا آخر من المسلمين غير مجتمعنا أو بلد آخر فيه إسلام.
إلى هنا يظهر من كلمات الفقهاء المتقدمين كالشيخ الطوسي والقاضي ابن البراج، والمتأخرين كالمحقق الحلي والعلامة الحلي أن لا خلاف بينهم في وجوب الجهاد لدفع الكافر المعتدي.
لكن يظهر من كلام ابن البراج الطرابلسي والمحقق الحلي عدم تسمية هذا الدفاع بالجهاد، إذ لم يعتبرا دفاع العدو الغازي لبلاد المسلمين جهادًا ولا دفاعًا عن الأمة والدين، وإنما هو دفاع عن النفس والمال كمقاومة اللص والسارق، وظاهر ذلك عدم وجوب الدفاع عن بيضة الإسلام في عصر الغيبة.
فلنرجع إلى كلام ابن البراج المهذب إذ قال ما نصه: «فإن دهم المسلمين العدو وهجم عليهم في بلدهم جاز ـ ولم يقل وجب، قال جاز ـ لجميع من في البلد قتاله على وجه الدفع عن النفس والمال»[10] ، يعني يجب الدفاع عن النفس والمال، لم يذكر الدفاع عن بيضة الإسلام ولم يقل إنه ماذا جهاد وإنما عنوان الدفع عن النفس والمال.
وأيضًا إذا رجعنا إلى كلام المحقق الحلي في الشرائع قال ما نصه: «وقد تجب المحاربة على وجه الدفع»، ولم يقل الجهاد ولم يقل الدفاع، قال: «المحاربة على وجه الدفع كأن يكون بين أهل الحرب ويخشاهم عدو يخشى منه على نفسه فيساعدهم دفعًا عن نفسه ولا يكون جهادًا، وكذا كل من خشي على نفسه مطلقًا أو ماله إذا غلبت السلامة»[11] فإذا ندافع عن نفسه وماله.
وهذا الكلام أثر في بعض متأخري المتأخرين كصاحب الجواهر وصاحب الرياض، ومن هنا نتطرق إلى القول الثاني عشر والثالث عشر.
الفقيه الثاني عشر: الشيخ محمد حسن النجفي في جواهر الكلام قال ما نصه:
وكيف كان فلا إشكال في أصل الحكم، والمراد به وجوب النفور إلى الكفار والمشركين لكفهم عن عدوانهم إن اعتدوا، أو لنقلهم إلى الإسلام.
صاحب الجواهر هكذا نص كلامه وهو يقول هكذا:
«وكيف كان فلا إشكال في أصل الحكم بعد الأمر به والحث الأكيد عليه كتابًا وسنةً، بل هو إن لم يكن من الضروريات، فلا ريب في كونه من القطعيات. نعم، قد يمنع الوجوب، بل قد يقال بالحرمة لو أراد الكفار ملك بعض بلدان الإسلام أو جميعها في هذه الأزمنة من حيث السلطنة، مع إبقاء المسلمين على إقامة شعار الإسلام وعدم تعرضهم في أحكامهم بوجه من الوجوه، ضرورة عدم جواز التغرير بالنفس من دون إذن شرعي، بل الظاهر اندراجه في النواهي عن القتال في زمن الغيبة مع الكفار في غير ما استثنى، إذ هو في الحقيقة إعانة لدولة الباطل على مثلها.
نعم، لو أراد الكفار محو الإسلام ودرس شعائره وعدم ذكر محمد صلى الله عليه وآله وشريعته، فلا إشكال في وجوب الجهاد حينئذٍ، ولو مع الجائر، لكن يقصد الدفع عن ذلك لا إعانة سلطان الجور»[12] .
الفقيه الثالث عشر: السيد علي الطباطبائي في رياض المسائل بعد أن نقل قول المحقق الحلي في الشرائع: «ولا يكون جهاداً» علق عليه قائلًا:
«وأشار به إلى حكم الشهيد من عدم تغسيله وتكفينه لا يلحق المقتول هنا، وكذا حكم الجهاد من تحريم الفرار وقسمة الغنيمة. نعم، هو بمنزلة الشهيد في الآخرة، وإطلاق الأخبار بكونه شهيدًا ينزل عليه»[13] .
هذا تمام الكلام في بيان أقوال وكلمات فقهاء وأساطين الشيعة الإمامية.
سؤال: فهل هذه الكلمات الثلاثة عشر تتناول الموارد الثلاثة التي ذكرناها أو لا؟
الجواب: أما المورد الأول وهو أن يعتدي الكفار فعلًا على المسلمين أو يهموا بالاعتداء عليهم، فعبارات الفقهاء صريحة في وجوب الدفاع بالنسبة إلى المورد الأول.
سؤال: وهل تتوقف شرعية الحرب والدفاع في هذه الحالة على وقوع الدفاع فعلًا على المسلمين؟ فلا تشمل من تهيأ لقتال المسلمين، أو يكفي في مشروعيتها حصول الخوف من وقوع العدوان بعد ظهور أماراته وعلاماته والإطلاع على نوايا العدو العدوانية؟
الجواب: ظاهر من عبر بـالدهم كالشيخ الطوسي وابن حمزة والعلامة الحلي هو اشتراط فعلية وقوع العدوان، فلا يكفي مجرد الخوف في مشروعية البدء بالحرب، وظاهر من عبر بالخوف كابن زهرة والحلبي هو كفاية الخوف من وقوع العدوان في مشروعية المباشرة بالحرب، فيجوز للمسلمين أن يبادروا إلى حرب وقائية قبل أن يبدأهم العدو بالهجوم.
والتحقيق إن التأمل في عبارة من عبر بالدهم يكشف عن أن مراد بعضهم ما يعم ويشمل الخوف من العدوان، ولا يختص بخصوص العدوان الفعلي مما يوسع دائرة القائلين بكفاية الخوف.
فلنتأمل في عباراتهم. قال الشيخ الطوسي رحمه الله: « إلا أن يدهم المسلمين أمر »[14] ، والـ "الأمر" أعم من الحرب الفعلية وعلاماتها وأماراتها، ومثلها عبارة ابن إدريس الحلي.
وقال ابن حمزة: « أن يدهم أمر يخشى بسببه »[15] ، والـ "أمر الداهم" أعم من العدوان الفعلي والعلامات الكاشفة عن نوايا العدوان.
نعم، انفرد العلامة الحلي رضوان الله عليه بالتعبير بقوله: «إن يدهم المسلمين عدو»[16] ، ولعله لإرادة التعبير بأظهر مصاديق هذه الحالة، لا نفي مشروعية الدفاع في الحالات الأخرى.
نعم، يبقى من المورد الأول مشروعية الحرب والدفاع في حالة الحرب الاقتصادية، فلم يشِر إليها أحد في هذه الكلمات.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى استنطاق كلمات الفقهاء بالنسبة إلى المورد الأول، يبقى استنطاق كلمات الفقهاء بالنسبة إلى المورد الثاني والمورد الثالث، والتأمل في بعض الموارد يأتي عليه الكلام.